موارد أُخرى
قال السيد:
1 ـ حسبك منها صلح الحديبية، وغنائم حنين، وأخذ الفداء من أسرى بدر، وأمره صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بنحر بعض الإبل إذ أصابتهم مجاعة في غزوة تبوك، وبعض شؤونهم يوم أحد وشعبه، ويوم أبي هريرة إذ نادى بالبشارة لكلّ من لقي اللّه بالتوحيد، ويوم الصّلاة على ذلك المنافق، ويوم اللّمز في الصّدقات وسؤالهم بالفحش، وتأوّل آيتي الخمس والزكاة، وآيتي المتعتين وآية الطلاق الثلاث، وتأوّل السنّة الواردة في نوافل شهر رمضان كيفية وكميّة، والمأثورة في كيفيّة الأذان، وكميّة التكبير في صلاة الجنائز، إلى ما لا يسع المقام بيانه:
كالمعارضة في أمر حاطب بن بلتعة، والمعارضة لما فعله النبي في مقام إبراهيم، وكإضافة دور جماعة من المسلمين إلى المسجد، وكالحكم على اليمانيين بدية أبي خراش الهذلي، وكنفي نصر بن الحجاج السلمي، وإقامة الحدّ على جعدة بن سليم(1)، ووضع الخراج على السواد، وكيفية ترتيب الجزية، والعهد بالشورى على الكيفية المعلومة، وكالعسّ ليلاً، والتجسس نهاراً، وكالعول في الفرائض.
إلى ما لا يحصى من الموارد التي آثروا فيها القوة والسطوة، والمصالح العامة، وقد أفردنا لها في كتابنا ـ سبيل المؤمنين(2) ـ باباً واسعاً.
2 ـ على أن هناك نصوصاً أُخر خاصة في علي وفي العترة الطاهرة غير نصوص الخلافة، لم يعملوا بها أيضاً بل عملوا بنقيضها، كما يعلمه الباحثون.
فلا عجب بعدها من تأوّلهم نصّ الخلافة عليه، وهل هو إلاّ كأحد النصوص التي تأولوها، فقدموا العمل بآرائهم على التعبد بها(3).
قال السيد:
1 ـ سلّمتم بتصرّفهم في النصوص المأثورة في تلك الموارد، فصدّقتم بما قلناه، والحمد للّه. أما حسن مقاصدهم وإيثارهم المصلحة العامة وتحرّيهم الأصلح للأُمة، والأرجح للملّة، والأقوى للشوكة، فخارج عن محلّ البحث كما تعلمون.
2 ـ التمست في المراجعة الأخيرة تفصيل ما اختص بعلي من الصحاح المنصوص فيها عليه بغير الإمامة من الأُمور التي لم يتعبدوا بل لم يبالوا بها، وأنت إمام السنن في هذا الزمن، جمعت أشتاتها واستفرغت الوسع في معاناتها، فمن ذا يتوّهم أنك ممن لا يعرف تفصيل ما أجملناه؟ ومن ذا يرى أنه أولى منك بمعرفة كنه ما أشرنا إليه؟ وهل يجاريك أو يباريك في السنّة أحد؟ كلا، ولكن الأمر كما قيل: وكم سائل عن أمره وهو عالم.
إنكم لتعلمون أن كثيراً من الصحابة كانوا يبغضون عليّاً ويعادونه، وقد فارقوه وآذوه، وشتموه وظلموه، وناصبوه، وحاربوه، فضربوا وجهه ووجوه أهل بيته وأوليائه بسيوفهم، كما هو معلوم بالضرورة من أخبار السلف، وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: من أطاعني فقد أطاع اللّه، ومن عصاني فقد عصى اللّه، ومن أطاع عليّاً فقد أطاعني، ومن عصى عليّاً فقد عصاني، وقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: من فارقني فقد فارق اللّه، ومن فارقك يا علي فقد فارقني، وقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: يا علي أنت سيّد في الدنيا وسيّد في الآخرة، حبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب اللّه وعدوّك عدوي وعدوي عدو اللّه، والويل لمن أبغضك بعدي، وقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: من سبّ عليّاً فقد سبّني، ومن سبني فقد سبّ اللّه، وقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: من آذى عليّاً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه، وقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: من أحب عليّاً فقد أحبّني، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني، وقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: لا يحبك يا علي إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق، وقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله. ونظر يوماً إلى علي وفاطمة والحسن والحسين فقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم. وحين غشّاهم بالكساء قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم وعدوّ لمن عاداهم.
إلى كثير من أمثال هذه السنن التي لم يعمل كثير من الصحابة بشيء منها، وإنما عملوا بنقيضها، تقديماً لأهوائهم وإيثاراً لأغراضهم، وأولوا البصائر يعلمون أن سائر السنن المأثورة في فضل علي ـ وإنها لتربوا على المئات ـ كالنصوص الصريحة في وجوب موالاته وحرمة معاداته، لدلالة كلّ منها على جلالة قدره وعظم شأنه وعلوّ منزلته عند اللّه ورسوله. وقد أوردنا منها في غضون هذه المراجعات طائفة وافرة، وما لم نورده أضعاف أضعاف ما أوردناه، وأنتم ـ بحمد اللّه ـ ممن وسعوا السنن علماً وأحاطوا بها فهماً، فهل وجدتم شيئاً منها يتفق مع مناصبته ومحاربته أو يلتئم مع إيذائه وبغضه وعداوته، أو يناسب هضمه وظلمه وسبّه على منابر المسلمين، وجعل ذلك سنّة من سنن الخطباء أيام الجمع والأعياد؟ كلاّ. ولكن الذين ارتكبوا منه ذلك لم يبالوا بها، على كثرتها وتواترها، ولم يكن لهم منها وازع عن العمل بكلّ ما تقتضيه سياستهم.
وكانوا يعلمون أنه أخو النبي ووليّه، ووارثه ونجيّه، وسيد عترته، وهارون اُمته، وكفؤ بضعته، وأبو ذريّته، وأوّلهم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأغزرهم علماً، وأكثرهم عملاً، وأكبرهم حلماً، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم عناءً، وأحسنهم بلاءً، وأوفرهم مناقب، وأكرمهم سوابق، وأحوطهم على الاسلام، وأقربهم من رسول اللّه، وأشبههم به هدياً وخلقاً وسمتاً، وأمثلهم فعلاً وقولاً وصمتاً.
لكن الأغراض الشخصية كانت هي المقدّمة عندهم على كلّ دليل، فأيّ عجب بعد هذا من تقديم رأيهم في الإمامة على التعبد بنص الغدير، وهل نص الغدير إلاّ حديث واحد من مئات من الأحاديث التي تأولوها؟ إيثاراً لآرائهم، وتقديماً لمصالحهم، وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، وقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني اسرائيل، من دخله غفر له، وقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الإختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس. إلى آخر ما جاء على هذا النمط من صحاح السنن التي لم يتعبدوا بشيء منها(4).
فقيل:
في المراجعة 97 يطلب البشري المزيد من هذه الموارد ليزداد علماً بها.
وفي المراجعة 98 يستجيب الموسوي لطلب البشري، ولكنه في هذه المرة يكتفي بسرد عناوين لأحداث وقعت في السيرة النبوية، وإلى جملة من الأحكام التي خالفت بها الرافضة مذهب أهل السنة والجماعة، زاعماً أن مذهبهم في هذه المسائل هو الحق الذي كان عليه النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، وأن مذهب أهل السنة فيها كان خروجاً عن سنة النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، واتباعاً منهم للشيخين أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما.
والمسائل هذه معروفة في كتب السنة، وقد تناولها علماء الحديث بالشرح والبيان وغربلوها من كلّ الشوائب، فأصبحت صافية لكلّ من أراد معرفة الحق، فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى مكانها في كتب السنة، والكتب المعتبرة في فقه الأحكام، فإن تحقيقها هنا يطول.
وفي آخر المراجعة نفسها يزعم الموسوي أن أبا بكر وعمر لم يكتفوا بعدم العمل بنصوص الخلافة وتعطيلها، بل إنهم عطّلوا وأهملوا كلّ النصوص الواردة في علي رضي اللّه عنه والعترة الطاهرة. ثم يمضي إلى أبعد من هذا عندما يفتري بأنهم عملوا بنقيضها.
وفي المراجعة 99 يظل البشري يحسن الظن بالشيخين أبي بكر وعمر ملتمساً لهم حسن الظن في كلّ ما اتهمهم الموسوي به من قبل، والذي حظي بالقبول عنده، ثم يطلب من الموسوي أن يظهر تلك النصوص التي أشار إليها في المراجعة السابقة.
وفي المراجعة 100 يظهر خبث الموسوي حيث لا يقبل من البشري حسن ظنّه بأبي بكر وعمر، مع إيمانه وتسليمه بكلّ ما أورده الموسوي من مطاعن فيهما، بل يعتبر هذا خروجاً منه عن محلّ المناظرة، ثم يجيبه إلى ما طلب من ذكر النصوص التي طلبها منه في المراجعة التي قبلها رقم 99.
وهنا يبدأ الموسوي بذكر جملة من الأكاذيب الملفّقة التي لا أصل لها في كتاب من كتب السنة، أو أي كتاب من الكتب المعتبرة عن أحد من العلماء الذين يعتدّ بقولهم، ويحتج بروايتهم، فقال ـ قاتله اللّه ـ: إن كثيراً من الصحابة كانوا يبغضون علياً ويعادونه، وقد فارقوه وآذوه، وشتموه وظلموه، وناصبوه، وحاربوه، فضربوا وجهه ووجوه أهل بيته وأوليائه بسيوفهم تبعاً لأهوائهم، وإيثاراً لأغراضهم، ونقضاً للنصوص الواردة في فضلهم والأمر بطاعتهم، والتحذير من عصيانهم.
ثم أورد جملة من الأحاديث الموضوعة والضعيفة، وقد سبق بيان حالها في ردّنا على كثير من المراجعات السابقة.
أما حديث خم الذي يردده الموسوي كثيراً، فلفظه في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطيباً بخم فقال: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب اللّه»، وأما لفظ «وعترتي» فهذا رواه الترمذي، وقد تفرّد به زيد بن الحسن الأنماطي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر، والأنماطي قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث. انظر ترجمته في الميزان للذهبي.
أما حديث سفينة نوح، فغير صحيح. (المنتقى: 471) وكذا حديث: أنا حرب لمن حاربكم… فإنه حديث موضوع لا أصل له في كتب الحديث المعروفة، ولا روي بإسناد معروف. (المنتقى: 274) وكذا حديث «النجوم أمان لأهل الأرض… الحديث» فإنه حديث موضوع لا أصل له.
أما ما وقع من اللّعن، فإنه قد وقع من الطائفتين، فكانت كلّ طائفة تلعن رؤوس الطائفة الأُخرى، والقتال الذي دار بينهما أشد وأعظم من التلاعن.
والعجيب أن الرافضة تنكر سبّ علي، وتبيح لنفسها سبّ أبي بكر وعمر وتنعتهما بالجبت والطاغوت، وتبيح لعن عثمان ومعاوية وتكفّرهم جميعاً. في حين أن معاوية وحزبه لم يكفّروا عليّاً، وإن وقع منهم اللّعن، وإنما كفّرته الخوارج المارقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
أقول:
لا نجد في هذا المقطع من كلام هذا الخصم المفتري إلاّ السبّ والشتم، ولا مناقشة علمية إلاّ في سند حديث غدير خم وحديث تشبيه أهل البيت بسفينة نوح، وبالنجوم، وقد تقدّم الكلام بالتفصيل على هذه الأحاديث في مواضعها، فلا نعيد، ولا نلتفت إلى سباب الرجل واتّهاماته ونمرّ عليها مرّ الكرام.
* * *
(1) راجع ترجمة عمر من طبقات ابن سعد تقف على إقامة الحد على جعدة بلا شاهد ولا مدعي سوى ورقة فيها أبيات لا يعرف قائلها، تتضمن رمي جعدة بالفاحشة.
(2) لئن فاتكم سبيل المؤمنين، فلا تفوتنكم الفصول المهمة، فإن فيها من الفوائد ما لا يوجد في غيرها، وقد عقدنا فيها للمتأولين فصلاً على حدة وهو الفصل 8 ص 44 وما بعدها إلى ص 130 من الطبعة الثانية، فيه تفصيل هذه الموارد.
(3) المراجعات: 265.
(4) المراجعات: 266 ـ 268.