من موارد احتجاج الامام
كان الإمام يتحرّى السكينة في بثّ النصوص عليه، ولا يقارع بها خصومه، احتياطاً على الإسلام واحتفاظاً بريح(1) المسلمين، وربما اعتذر عن سكوته وعدم مطالبته ـ في تلك الحال ـ بحقه فيقول(2): لا يعاب المرء بتأخير حقه، إنما يعاب من أخذ ما ليس له، وكان له في نشر النصوص عليه طرق تجلّت الحكمة فيها بأجلى المظاهر.
ألا تراه ما فعل يوم الرحبة إذ جمع الناس فيها أيام خلافته لذكرى يوم الغدير، فقال لهم: أنشد اللّه كلّ امرىء مسلم سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول يوم غدير خم ما قال، إلاّ قام فشهد بما سمع، ولا يقم إلاّ من رآه، فقام ثلاثون من الصحابة فيهم اثنا عشر بدرياً، فشهدوا بما سمعوه من نص الغدير(3).
وهذا غاية ما يتسنى له في تلك الظروف الحرجة بسبب قتل عثمان، وقيام الفتنة في البصرة والشام، ولعمري إنه قصارى ما يتفق من الاحتجاج يومئذ مع الحكمة في تلك الأوقات، ويا له مقاماً محموداً بعث نص الغدير من مرقده، فأنعشه بعد أن كاد، ومثل ـ لكلّ من كان في الرحبة من تلك الجماهير ـ موقف النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يوم خم، وقد أخذ بيد علي فأشرف به على مئة ألف أو يزيدون من أُمته، فبلّغهم أنه وليّهم من بعده، وبهذا كان نص الغدير من أظهر مصاديق السنن المتواترة، فانظر إلى حكمة النبي إذ أشاد به على رؤوس تلك الأشهاد، وانتبه إلى حكمة الوصي يوم الرحبة إذ ناشدهم بذلك النشاد، فأثبت الحق بكلّ توئدة اقتضتها الحال، وكلّ سكينة كان الإمام يؤثرها، وهكذا كانت سيرته في بث العهد إليه، ونشر النص عليه، فإنه إنما كان ينبّه الغافلين بأساليب لا توجب ضجّة ولا تقتضي نفرة.
وحسبك ما أخرجه أصحاب السنن من حديثه عليه السلام في الوليمة التي أولمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، في دار عمه شيخ الأباطح بمكة، يوم أنذر عشيرته الأقربين، وهو حديث طويل جليل(4)، كان الناس ولم يزالوا يعدّونه من أعلام النبوة وآيات الإسلام، لاشتماله على المعجز النبوي بإطعام الجم الغفير من الزاد اليسير، وقد جاء في آخره: أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، أخذ برقبته فقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.
وكثيراً ما كان يحدّث بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال له: أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي.
وكم حدّث بقوله له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي.
وكم حدّث بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ يوم غدير خم ـ: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى قال: من كنت وليه فهذا ـ علي ـ وليه(5).
إلى كثير من النصوص التي لم تجحد، وقد أذاعها بين الثقات الأثبات، وهذا كلّ ما يتسنى له في تلك الأوقات، (حكمةٌ بالغةٌ فما تغن النُّذر).
ويوم الشورى أعذر وأنذر، ولم يبق من خصائصه ومناقبه شيئاً إلاّ احتج به.
وكم احتج أيام خلافته متظلّماً، وبث شكواه على المنبر متألماً، حتى قال: أما واللّه لقد تقمّصها فلان، وإنه ليعلم أن محلّي منها محلّ القطب من الرّحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهباً، إلى آخر الخطبة الشقشقية(6).
وكم قال: اللهم إني استعينك على قريش ومن أعانهم(7)، فإنهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي، ثم قالوا: ألا إن في الحق أن تأخذ وفي الحق أن تتركه. اهـ.
وقد قال له قائل(8): إنك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقال: بل أنتم واللّه لأحرص، وإنما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه.
وقال عليه السلام(9) فواللّه مازلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً علي منذ قبض اللّه نبيه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حتى يوم الناس هذا.
وقال عليه السلام مرّة: لنا حق فإن أعطيناه، وإلاّ ركبنا أعجاز الإبل وإن طال السرى(10).
وقال عليه السلام في كتاب كتبه إلى أخيه عقيل(11): فجزت قريش عني الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن أُمي.
وكم قال عليه السلام(12) فنظرت فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى وشربت على الشجى، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمرّ من طعم العلقم.
وسأله بعض أصحابه: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال(13): يا أخا بني أسد، إنك لقلق الوضين، ترسل في غير سدد، ولك بعد ذمامة الصهر وحق المسألة، وقد استعلمت فاعلم: اما الإستبداد علينا بهذا المقام، ونحن الأعلون نسباً، والأشدون برسول اللّه نوطاً، فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم للّه والمعود إليه يوم القيامة، ودع عنك نهباً صيح في حجراته… الخطبة.
وقال عليه السلام:(14) أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً علينا وبغياً؟ أن رفعنا اللّه ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يُستعطى الهدى، ويُستجلى العمى، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم… الخ.
وحسبك قوله في بعض خطبه(15): حتى إذا قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتّكلوا على الولائج(16)، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودّته، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه، معادن كلّ خطيئة، وأبواب كلّ ضارب في غمرة، قد ماروا في الحيرة، وذهلوا في السكرة، على سنة من آل فرعون، من منقطع إلى الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين.
وقوله في خطبة خطبها بعد البيعة له، وهي من جلائل خطب النهج(17): لا يقاس بآل محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم. من هذه الأمة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله، ونقل إلى منتقله.
وقوله عليه السلام من خطبة أُخرى يعجب فيها من مخالفيه: فيا عجبي! ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصون إثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي. الخطبة(18).
(1) الريح: حقيقة في القوة والغلبة والنصر والدولة.
(2) هذه الكلمة من كلمة القصير الخارج في غرضه الشريف وهي في نهج البلاغة فراجع ما ذكره علامة المعتزلة في شرحها ص 390 ج 18 من شرح النهج.
(3) كما ذكرناه في المراجعة 56.
(4) أوردناه في المراجعة 20.
(5) أخرجه ابن أبي عاصم كما بيّناه في آخر المراجعة 23.
(6) هي الخطبة 3 من نهج البلاغة في ص 48 ج 1.
(7) راجع الخطبة 172 أو ص 246 ج 2 من النهج.
(8) كما في الخطبة 172 ايضاً.
(9) كما في الخطبة 6 ص 53 ج 1 من النهج.
(10) هذه الكلمة هي 22 من كلماته في باب المختار من حكمه، ص 472 من النهج وقد علق عليها السيد الرضي كلمة نفيسة، وعلق عليها الشيخ محمد عبده كلمة أُخرى، يجدر بالأديب مراجعتها.
(11) وهو الكتاب 36 في ص 409 ج 3 من النهج.
(12) راجع الخطبة 26 ص 68 ج 1 من النهج.
(13) كما في ص 231 ج 2 من النهج من الكلام 162.
(14) كما في ص 201 والتي بعدها من ج 2 من النهج من الكلام 144.
(15) راجعه في آخر ص 209 والتي بعدها من الجزء الثاني من النهج في الخطبة 150.
(16) راجعه في آخر ص 209 والتي بعدها من الجزء الثاني من النهج في الخطبة 150.
(17) تجدها في اول ص 47 وهي آخر الخطبة 2 وهي آخر الجزء الأول من النهج.
(18) راجعها في ص 121 من الجزء الأول من النهج وهي الخطبة 88.