من قضايا عائشة مع رسول اللّه
أقول:
إنّ السيّد ـ رحمه اللّه ـ لا يتّهم أحداً، ولا يتكلّم في أحد إلاّ بدليل، والقارىء يرى أنّه في مختلف البحوث والمسائل لا يستند ولا يعتمد إلاّ على روايات القوم الموجودة في أشهر مؤلّفاتهم….
وأمّا أنّ عائشة «أحبّ أزواج النبي للنبيّ» فدعوى محتاجة إلى إثبات، سواء أُريد كونها أحبّ أزواجه إليه أو كونها أكثرهنّ حبّاً له، وكيف يصدَّق ذلك وكتبهم مليئة بأخبار إيذائها له وإغضابها إيّاه كما سيأتي بعضها؟ وأمّا ما كان منها بالنسبة إلى علي وفاطمة ـ وهما أحب الناس إليه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم باتّفاق الأُمّة ـ فمشهور معروف.
هذا، وكأنّ هذا الرجل يجهل مفهوم «العاطفة» فيتّهم السيد بالعجز عن ذكر واحد من موارد انسياق عائشة وراء عواطفها! كما أنّه اتّهم السيّد بأنه قد قرّر أن عائشة لا علم لها بوصية النبي هذه، لأنها كانت عند وفاته في صدر أخيه ووليّه علي بن أبي طالب… ومن هنا زعم وجود التعارض في كلامه رحمه اللّه.
وهذا نصّ كلام السيّد إذ قال: «ولقد حار فكري ـ واللّه ـ في قولها: لقد رأيت النبي وإني لمسندته إلى صدري، فدعا بالطشت فانحنث فمات فما شعرت، فكيف أوصى إلى علي؟ وما أدري في أي نواحي كلامها هذا أتكلّم، وهو محلّ البحث من نواحي شتّى، وليت أحداً يدري كيف يكون موته ـ بأبي وأُمي ـ وهو على الحال التي وصفتها، دليلاً على أنّه لم يوص، فهل كان من رأيها أنّ الوصيّة لا تصح إلاّ عند الموت؟ كلاّ، ولكن حجّة من يكابر الحقيقة داحضة كائناً من كان…».
وقد سبق السيَّد في هذا الكلام أحد علماء أهل السنّة الأعلام، وهو قاضي القضاة الشوكاني، إذ قال في رسالة كتبها في الجواب عن حديث عائشة وإنكارها الوصية لأمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ عدم علم عائشة بالوصية لا يستلزم عدمها، ونفيها لا ينافي الوقوع، وغاية ما في كلامها الإخبار بعدم علمها، وقد علم غيرها، ومن علم حجّة على من لم يعلم، أو نفي الوصية حال الموت لا يلزم من نفيها في الوقت الخاص نفيها في كلّ وقت».
وقد قدّم في هذه الرسالة قبل الشروع في الجواب مقدمة فيها مطلبان:
الأوّل: قال: «ينبغي أن يعلم أن قول الصحابي ليس بحجة، وأنّ المثبت أولى من النافي، وأن من علم حجة على من لم يعلم، وأنّ الموقوف لا يعارض المرفوع على فرض حجيّته» (قال): «وهذه الأُمور قد قرّرت في الأُصول، ونيطت بأدلّة تقصر عن نقضها أيدي الفحول وإن تبالغت في الطول».
والثاني: قال: «ويعلم ثانياً: إنّ أُمّ المؤمنين رضي اللّه عنها كانت تسارع إلى ردّ ما خالف اجتهادها، وتبالغ في الإنكار على راويه، كما يقع مثل ذلك لكثير من المجتهدين» ثم ذكر موارد من هذا القبيل، وقع منها مع عمر وابنه وغيرهما من الصحابة (قال): «ومن جملتها الواقعة المسؤول عنها، أعني إنكارها رضي اللّه عنها الوصية منه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم إلى علي» ثم تعرّض للحديث عن ابن أبي أوفى، في أنه صلّى اللّه عليه وآله «أوصى بكتاب اللّه تعالى» (قال): «وأنت تعلم أن قوله: أوصى بكتاب اللّه تعالى، لا يتمّ معه قوله: لا، في أوّل الحديث… فلابدّ من تأويل قوله…».
ثم شرع في الجواب قال: «فالجواب عن أصل السؤال ينحصر في بحثين:
البحث الأوّل: في إثبات مطلق الوصية منه صلّى اللّه عليه [وآله].
البحث الثاني: في إثبات مقيّدها، أعني كونها إلى علي».
فأورد في البحث الأوّل طرفاً من وصايا رسول اللّه ثم قال:
«ولعلّ من أنكر ذلك أراد أنه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم لم يوص على الوجه الذي يقع من غيره من تحرير أُمور في مكتوب، كما أرشد إلى ذلك بقوله: ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عنده. أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر. ولم يلتفت إلى أنّ رسول اللّه قد نجز أُموره قبل دنوّ الموت، وكيف يظنّ برسول اللّه أن يترك الحالة الفضلى؟ أعني تقديم التنجيز قبل هجوم الموت وبلوغها الحلقوم، وقد أرشد إلى ذلك وكرّر وحذّر، وهو أجدر الناس بالأخذ بما ندب إليه» (قال): «نعم، قد أراد أن يكتب لأُمّته مكتوباً عند موته يكون عصمةً لها عن الضلالة، وجُنّة تدرء عنها ما تسبّب من المصائب الناشئِة عن اختلاف الأقوال، فلم يُجب إلى ذلك، وحيل بينه وبين ما هنالك، ولهذا قال الحبر ابن عباس: الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللّه وبين كتابه، كما ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري وغيره».
وأورد في البحث الثاني طرفاً من الأحاديث في أنّ عليّاً وصي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، عن أحمد بن حنبل وأبي القاسم البغوي وابن جرير والطبراني والبزار والديلمي وأبي نعيم والكنجي والمحبّ الطبري وإبراهيم بن محمّد الصنعاني في كتابه اشراق الأصباح… ثم قال:
«والواجب علينا الايمان بأنّ علياً وصي رسول اللّه، ولا يلزمنا التعرّض للتفاصيل الموصى بها، فقد ثبت أنه أمره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين وعيّن له علاماتهم، وأودعه جملاً من العلوم، وأمره بأُمور خاصّة» ثم قال:
«تنبيه: اعلم أنّ جماعةً من المبغضين للشيعة عدّوا قولهم أن علياً وصي لرسول اللّه من خرافاتهم. وهذا إفراط وتعنّت يأباه الإنصاف، وكيف يكون الأمر كذلك وقد قال بذلك جماعة من الصحابة، كما ثبت في الصحيحين أنّ جماعةً ذكروا عنه عائشة أن علياً وصي، وكما في غيرهما، واشتهر الخلاف بينهم في المسألة وسارت به الركبان؟!».
هذا موجز رسالة الشوكاني التي أسماها (العقد الثمين في إثبات وصاية أمير المؤمنين)، ومن شاء الوقوف على كلّ ما جاء فيها فليرجع إليها، فإنها مطبوعة منتشرة.
فليتأمّل القارئ اللبيب في هذا المقام، ليزداد معرفةً بحال المفترين اللئام…!!
ثمّ قيل:
أما ما ذكره الموسوي من أدلة على انسياق عائشة وراء عواطفها، والتي عزاها إلى كتب أهل السنّة، فالجواب عليها وباللّه التوفيق:
1 ـ أما ما ذكره الموسوي من تأييد عائشة لقول أهل الزور والبهتان في مارية القبطية وولدها إبراهيم، المستدرك 4 : 39 فجوابه: فهو من حديث أنس، وفي سنده عبداللّه بن لهيعة، ضعفه ابن معين وقال: لا يحتج به، وقال ابن مهدي: لا أحمل عن ابن لهيعة شيئاً، ما أعتد بشيء سمعته منه. وقال النسائي: ضعيف، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: أمره مضطرب، وقال الجوزجاني: «لا نور على حديثه ولا ينبغي أن يحتج به» انظر: ميزان الاعتدال 2 : 475.
وقال السهيلي: «وفي المسند من طريق أنس: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حين ولدت له مارية القبطية ابنه إبراهيم وقع في نفسه منه شيء، حتى نزل جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم.
وفي التعليق على هذا الحديث قال عبدالرحمن الوكيل: أما الحديث المروي عن أنس، ففيه ابن لهيعة، ولا يتعبّد بحديث يرد من طريقه، وفي روايات الحديث أن مأبوراً هذا كان يدخل كثيراً على مارية، فهل يصدق مسلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم يأذن لمثل هذا أن يغشى بيته هكذا؟ وقد اختلف في مأبور، فقيل انه أخوها، وقيل أيضاً: إنه ابن عمّها، وهو خصيّ.
ويقول ابن أبي الحديد ـ على تشيّعه ـ في شرحه لنهج البلاغة، وهو يتحدث عما بهتت به عائشة، وعن براءتها في سورة النور، يقول: وقوم من الشيعة زعموا أن الآيات التي في سورة النور لم تنزل فيها، وإنما نزلت في مارية القبطية وما قذفت به مع الأسود القبطي. ثم قال: وجحدهم لإنزال ذلك في عائشة جحد لما يعلم ضرورة من الأخبار المتواترة. 1 هـ 442 / 3 طبع لبنان. انظر الروض الأنف 2 : 248.
فماذا يقول الرافضة بشهادة واحد منهم؟! بأنهم نفوا أن تكون آيات سورة النور براءة لعائشة، الأمر الذي يكشف حقدهم وكرههم لأُم المؤمنين عائشة رضي اللّه عنها، فليس عجيباً على الموسوي أن يتّهمها بالاستسلام للعاطفة، وهو يجحد براءتها التي أنزلها اللّه في كتابه.
وأما المرتضى الرافضي صاحب كتاب الأمالي، فقد افترض صحة حديث أنس المتقدم، وراح يؤول ألفاظه بما يتفق وعقيدته، شأنه في ذلك شأن كلّ الرافضة، انظر ص 54 ج 1، من أمالي المرتضى.