من الموارد التي لم يتعبد الصّحابة فيها بالنص
1 ـ رزيّة يوم الخميس
قال السيّد:
الموارد التي لم يتعبّدوا فيها بالنص أكثر من أن تحصى.
وحسبك منها رزيّة يوم الخميس، فإنّها من أشهر القضايا وأكبر الرزايا، أخرجها أصحاب الصحاح وسائر أهل السنن، ونقلها أهل السير والأخبار كافة، ويكفيك منها ما أخرجه البخاري(1) بسنده إلى عبيداللّه بن عبداللّه بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا(2) بعده، فقال عمر: إن النبي قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبي كتاباً لا تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي، قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: قوموا، فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. انتهى.
وهذا الحديث مما لا كلام في صحته ولا في صدوره، وقد أورده البخاري في عدّة مواضع من صحيحه(3)، وأخرجه مسلم في آخر الوصايا من صحيحه أيضاً(4)ورواه أحمد من حديث ابن عباس في مسنده(5)، وسائر أصحاب السنن والأخبار، وقد تصرفوا فيه إذ نقلوه بالمعنى، لأن لفظه الثابت إن النبي يهجر، لكنهم ذكروا انّه قال: إن النبيّ قد غلب عليه الوجع، تهذيباً للعبارة، وتقليلاً لمن يستهجن منها، ويدلّ على ذلك ما أخرجه أبو بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري في كتاب السقيفة(6) بالإسناد إلى ابن عباس، قال: لما حضرت رسول اللّه الوفاة، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال رسول اللّه: إئتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده، (قال): فقال عمر كلمة معناها إن الوجع قد غلب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ثم قال: عندنا القرآن حسبنا كتاب اللّه، فاختلف من في البيت واختصموا، فمن قائل: قرّبوا يكتب لكم النبي، ومن قائل ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط واللغو والاختلاف غضب صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فقال: قوموا: الحديث. وتراه صريحاً بأنهم إنما نقلوا معارضة عمر بالمعنى لا بعين لفظه.
ويدلّك على هذا أيضاً: أن المحدّثين حيث لم يصرّحوا باسم المعارض يومئذ، نقلوا المعارضة بعين لفظها، قال البخاري في باب جوائز الوفد من كتاب الجهاد والسير من صحيحه(7): حدثنا قبيصة حدثنا ابن عيينة عن سلمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حيت خضب دمعه الحصباء فقال: اشتدّ برسول اللّه وجعه يوم الخميس، فقال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم: دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه، وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، (قال) ونسيت الثالثة(8). انتهى.
هذا الحديث أخرجه مسلم أيضاً في آخر كتاب الوصية من صحيحه، وأحمد من حديث ابن عباس في مسنده(9)، ورواه سائر المحدثين.
وأخرج مسلم في كتاب الوصيّة من الصحيح عن سعيد بن جبير من طريق آخر عن ابن عباس، قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خدّيه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم: إئتوني بالكتف والدواة، أو اللوح والدواة، أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً، فقالوا: إن رسول اللّه يهجر(10). انتهى.
ومن ألمّ بما حول هذه الرزية من الصحاح، يعلم أن أوّل من قال يومئذ: هجر رسول اللّه، إنما هو عمر، ثم نسج على منواله من الحاضرين من كانوا على رأيه، وقد سمعت قول ابن عباس ـ في الحديث الأوّل(11) ـ: فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قاله عمر ـ أي يقول: هجر رسول اللّه ـ.
وفي رواية أخرجها الطبراني في الأوسط عن عمر(12) قال: لما مرض النبي قال: إئتوني بصحيفة ودواة، أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعد أبداً، فقال النسوة من وراء الستر: ألا تسمعون ما يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، قال عمر: فقلت إنكنّ صواحبات يوسف، إذا مرض رسول اللّه عصرتنّ أعينكن وإذا صحّ ركبتنّ عنقه! قال: فقال: رسول اللّه: دعوهنّ فإنهنّ خير منكم. انتهى.
وأنت ترى أنهم لم يتعبّدوا هنا بنصّه الذي لو تعبدوا به لأمنوا من الضلال، وليتهم اكتفوا بعدم الامتثال ولم يردّوا قوله إذ قالوا: حسبنا كتاب اللّه، حتى كأنه لا يعلم بمكان كتاب اللّه منهم، أو أنهم أعلم منه بخواص الكتاب وفوائده، وليتهم اكتفوا بهذا كلّه ولم يفاجئوه بكلمتهم تلك ـ هجر رسول اللّه ـ وهو محتضر بينهم، وأيّ كلمة كانت وداعاً منهم له صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وكأنهم ـ حيث لم يأخذوا بهذا النص ـ اكتفاءً منهم بكتاب اللّه على ما زعموا ـ لم يسمعوا هتاف الكتاب آناء الليل وأطراف النهار في أنديتهم (وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(13) وكأنهم حيث قالوا: هجر لم يقرأوا قوله تعالى: (إنّه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرشِ مكين * مطاع ثمّ أمين * وما صاحبكم بمجنون)(14)، وقوله عزّ من قائل: (إنّه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكّرون * تنزيلٌ من ربّ العالمين)(15) وقوله جلّ وعلا (ما ضلّ صاحبكُم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحيٌ يوحى * علّمه شديد القوى)(16) إلى كثير من أمثال هذه الآيات البيّنات المنصوص فيها على عصمة قوله من الهجر، على أن العقل بمجرّده مستقل بذلك.
لكنهم علموا أنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إنما أراد توثيق العهد بالخلافة، وتأكيد النص بها على علي خاصة، وعلى الأئمة من عترته عامّة، فصدّوه عن ذلك، كما اعترف به الخليفة الثاني في كلام دار بينه وبين ابن عباس(17).
وأنت إذا تأملت في قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: إئتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده، وقوله في حديث الثقلين: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، تعلم أن المرمى في الحديثين واحد، وأنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، أراد في مرضه أن يكتب لهم تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين.
2 ـ وإنما عدل عن ذلك، لأن كلمتهم تلك التي فاجؤوه بها اضطرّته إلى العدول، إذ لم يبق بعدها أثر لكتابة الكتاب سوى الفتنة والإختلاف من بعده في أنه هل هجر فيما كتبه ـ والعياذ باللّه ـ أو لم يهجر، كما اختلفوا في ذلك فاختصموا وأكثروا اللّغو واللغط نصب عينيه، فلم يتسنّ له يومئذ أكثر من قوله لهم: «قوموا» كما سمعت، ولو أصرّ فكتب الكتاب للجّوا في قولهم هجر، ولأوغل أشياعهم في إثبات هجره ـ والعياذ باللّه ـ فسطروا به أساطيرهم، وملأوا طواميرهم، ردّاً على ذلك الكتاب وعلى من يحتج به.
لهذا اقتضت حكمته البالغة أن يضرب صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن ذلك الكتاب صفحاً، لئلاّ يفتح هؤلاء المعارضون وأولياؤهم باباً إلى الطعن في النبوة ـ نعوذ باللّه وبه نستجير ـ وقد رأى صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أن عليّاً وأولياءه خاضعون لمضمون ذلك الكتاب، سواء عليهم أكتب أم لم يكتب، وغيرهم لا يعمل به ولا يعتبره لو كتب، فالحكمة والحال هذه توجب تركه، إذ لا أثر له بعد تلك المعارضة سوى الفتنة كما لا يخفى(18).
(1) في باب قول المريض قوموا عني من كتاب المرضى ص 12 ج 4 من صحيحه.
(2) بحذف النون مجزوماً، لكونه جواباً ثانياً لقوله هلم.
(3) أورده في كتاب العلم ص 59 ج 1، وفي مواضع أُخر يعرفها المتتبعون.
(4) ص 138 ج 3.
(5) راجع ص 534 ج 1.
(6) كما في ص 51 ج 6 من شرح النهج للعلامة المعتزلي.
(7) ص 325 ج 2.
(8) ليست الثالثة إلاّ الأمر الذي أراد النبيّ أن يكتبه حفظاً لهم من الضلال، لكن السياسة اضطرت المحدثين إلى نسيانه، كما نبه إليه مفتي الحنفية في (صور) الحاج داود الدادا.
(9) ص 137 ج 3.
(10) وأخرج هذا الحديث بهذه الألفاظ، أحمد في ص 585 ج 1 من مسنده وغير واحد من اثبات السنن.
(11) الذي أخرجه البخاري عن عبيداللّه بن عبداللّه بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس وأخرجه مسلم أيضاً، وغيره.
(12) كما في ص 644 ج 5 من كنز العمال.
(13) سورة الحشر: 7.
(14) سورة التكوير: 19 ـ 22.
(15) سورة الحاقة: 40 ـ 43.
(16) سورة الحاقة: 40 ـ 43.
(17) كما في السطر 17 ص 78 ج 12 من شرح النهج الحديدي.
(18) المراجعات: 241 ـ 245.