لم ينعقد إجماع ولم يتلاش نزاع:
إصفاقهم على مؤازرة الصدّيق والنصح له في السرّ والعلانية شيء، وصحّة عقد الخلافة له بالإجماع شيء آخر، وهما غير متلازمين عقلاً وشرعاً، فإن لعلي والأئمة المعصومين من بنيه مذهباً في مؤازرة أهل السلطة الإسلامية معروفاً، وهو الذي ندين اللّه به، وأنا أذكره لك جواباً عمّا قلت، وحاصله أن من رأيهم أن الأمة الإسلاميّة لا مجد لها إلاّ بدولة تلمّ شعثها، وترأب صدعها وتحفظ ثغورها وتراقب أُمورها، وهذه الدولة لا تقوم إلاّ برعايا تؤازرها بأنفسها وأموالها، فإن أمكن أن تكون الدولة في يد صاحبها الشرعي ـ وهو النائب في حكمه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نيابة صحيحة ـ فهو المتعين لا غير، وإن تعذر ذلك، فاستولى على سلطان المسلمين غيره، وجبت على الأمة مؤازرته في كلّ أمر يتوقف عليه عزّ الإسلام ومنعته وحماية ثغوره وحفظ بيضته، ولا يجوز شق عصا المسلمين، وتفريق جماعتهم بمقاومته، بل يجب على الأمة أن تعامله ـ وإن كان عبداً مجدّع الأطراف ـ معاملة الخلفاء بالحق، فتعطيه خراج الأرض ومقاسمتها، وزكاة الأنعام وغيرها، ولها أن تأخذ منه ذلك بالبيع والشراء، وسائر أسباب الإنتقال كالصّلات والهبات ونحوها، بل لا إشكال في براءة ذمة المتقبّل منه بدفع القبالة إليه، كما لو دفعها إلى إمام الصدق، والخليفة بالحق. هذا مذهب علي والأئمة الطاهرين من بنيه.
وقد قال(1) صلّى اللّه عليه وآله: ستكون بعدي أثرة وأُمور تنكرونها، قالوا: يا رسول اللّه، كيف تأمر من أدرك منّا ذلك؟ قال صلّى اللّه عليه وآله: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون اللّه الذي لكم. وكان أبو ذر الغفّاري رضي اللّه عنه، يقول(2): إن خليلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أوصاني أن اسمع وأطيع وإن كان عبداً مجدّع الأطراف، وقال سلمة الجعفي(3): يا نبي اللّه، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا؟ فقال صلّى اللّه عليه وآله: إسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم، وقال صلّى اللّه عليه وآله في حديث حذيفة بن اليمان(4) رضي اللّه عنه: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال حذيفة: قلت كيف أصنع يا رسول اللّه إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع له وأطع، ومثله قوله صلّى اللّه عليه وآله في حديث أُمّ سلمة: ستكون أُمراء عليكم، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم(5)، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلّوا. انتهى.
والصّحاح في ذلك متواترة، ولا سيّما من طريق العترة الطاهرة، ولذلك صبروا وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، عملاً بهذه الأوامر المقدسة وغيرها مما عهده النبي صلّى اللّه عليه وآله إليهم بالخصوص، حيث أمرهم بالصبر على الأذى والغض على القذى، احتياطاً على الأُمة، واحتفاظاً بالشوكة. فكانوا يتحرّون للقائمين بأمور المسلمين وجوه النصح وهم ـ من استئثارهم بحقّهم ـ على أمرّ من العلقم، ويتوخّون لهم مناهج الرشد وهم ـ من تبوئهم عرشهم ـ على آلم للقلب من حزّ الشفار، تنفيذاً للعهد، ووفاء بالوعد، وقياماً بالواجب شرعاً وعقلاً من تقديم الأهم ـ في مقام التعارض ـ على المهم، ولذا محض أمير المؤمنين كلاًّ من الخلفاء الثلاثة نصحه. واجتهد لهم في المشورة. ومن تتبع سيرته في أيامهم علم أنه ـ بعد أن يئس من حقّه في الخلافة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بلا فصل ـ شقّ بنفسه طريق الموادعة، وآثر مسالمة القائمين بالأمر، فكان يرى عرشه ـ المعهود به إليه ـ في قبضتهم فلم يحاربهم عليه ولم يدافعهم عنه، احتفاظاً بالأُمة واحتياطاً على الملّة، وضنّاً بالدين وإيثاراً للآجلة على العاجلة.
وقد مني بما لم يمن به غيره، حيث مثل على جناحيه خطبان فادحان، الخلافة بنصوصها وعهودها إلى جانب، تستصرخه وتستفزّه إليها بصوت يدمي الفؤاد، وأنين يفتت الأكباد، والفتن الطاغية إلى جانب آخر، تنذره بانتفاض الجزيرة وانقلاب العرب واجتياح الاسلام، وتهدّده بالمنافقين من أهل المدينة وقد مردوا على النفاق، وبمن حولهم من الأعراب وهم منافقون بنص الكتاب، بل هم أشدّ كفراً ونفاقاً وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله، وقد قويت بفقده صلّى اللّه عليه وآله وسلّم شوكتهم، إذ صار المسلمون بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، بين ذئاب عادية، ووحوش ضارية، ومسيلمة الكذاب وطليحة بن خويلد الأفاك وسجاح بنت الحرث الدجالة وأصحابهم قائمون ـ في محق الإسلام وسحق المسلمين ـ على ساق، والرومان والأكاسرة وغيرهما كانوا بالمرصاد، إلى كثير من هذه العناصر الجياشة بكلّ حنق من محمّد وآله وأصحابه، بكلّ حقد وحسيكة لكلمة الإسلام، تريد أن تنقض أساسها وتستأصل شأفتها، وإنها لنشيطة في ذلك مسرعة متعجّلة، ترى أن الأمر قد استتبّ لها، وأن الفرصة ـ بذهاب النبي صلّى اللّه عليه وآله إلى الرفيق الأعلى ـ قد حانت، فأرادت أن تسخّر الفرصة وتنتهز تلك الفوضى، قبل أن يعود الإسلام إلى قوّة وانتظام.
فوقف أمير المؤمنين بين هذين الخطرين، فكان من الطبيعي له أن يقدّم حقّه قرباناً لحياة الإسلام، وإيثاراً للصالح العام، فانقطاع ذلك النزاع وارتفاع الخلاف بينه وبين أبي بكر لم يكن إلاّ فرقاً على بيضة الدين، وإشفاقاً على حوزة المسلمين، فصبر هو وأهل بيته كافّة وسائر أوليائه من المهاجرين والأنصار وفي العين قذى وفي الحلق شجى، وكلامه مدة حياته بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله صريح بذلك، والأخبار في هذا متواترة عن أئمة العترة الطاهرة.
لكن سيد الأنصار سعد بن عبادة، لم يسالم الخليفتين أبداً، ولم تجمعه معهما جماعة في عيد أو جمعة، وكان لا يفيض بإفاضتهم، ولا يرى أثراً لشيء من أوامرهم ونواهيهم، حتى قتل غيلة بحوران على عهد الخليفة الثاني، فقالوا: قتله الجن، وله كلام يوم السقيفة وبعده لا حاجة بنا إلى ذكره(6).
أما أصحابه كحباب بن المنذر(7) وغيره من الأنصار، فإنما خضعوا عنوةً واستسلموا للقوة، فهل يكون العمل بمقتضيات الخوف من السيف أو التحريق بالنار(8) إيماناً بعقد البيعة؟ ومصداقاً للإجماع المراد من قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: لا تجتمع أمتي على الخطأ. أفتونا ولكم الأجر.
(1) في حديث عبداللّه بن مسعود، وقد أخرجه مسلم في ص 390 ج 3 من صحيحه، وغير واحد من أصحاب الصحاح والسنن.
(2) فيما أخرجه عنه مسلم أيضاً، في ج 3 ص 384 من صحيحه، وهو من الأحاديث المستفيضة.
(3) فيما أخرجه عنه مسلم وغيره.
(4) الذي أخرجه مسلم في ص 394 ج 3 من صحيحه، ورواه سائر أصحاب السنن.
(5) هذا الحديث أخرجه مسلم في ص 399 ج 3 من صحيحه، والمراد بقوله صلّى اللّه عليه وآله فمن عرف برئ، أن من عرف المنكر ولم يشتبه عليه، فقد صار له طريق إلى البراءة من إثمه وعقوبته بأن يغيره بيده أو بلسانه، فإن عجز فليكرهه بقلبه.
(6) سعد بن عبادة، هو أبو ثابت، كان من أهل بيعة العقبة ومن أهل بدر وغيرها من المشاهد، وكان سيد الخزرج ونقيبهم وجواد الأنصار وزعيمهم، وكلامه الذي أشرنا إليه، طفحت به كتب السير والأخبار، وحسبك منه ما ذكره ابن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة، وابن جرير الطبري في تاريخه، وابن الأثير في كامله، وأبو بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري في كتاب السقيفة، وغيرهم.
(7) كان حباب من سادة الأنصار وأبطالهم، بدرياً أُحدياً ذا مناقب وسوابق، وهو القائل: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، أنا أبو شبل في عرينة الأسد، واللّه لئن شئتم لنعيدنّها جذعة. وله كلام أمضّ من هذا، رأينا الإعراض عنه أولى.
(8) تهديدهم علياً بالتحريق ثابت بالتواتر القطعي، وحسبك ما ذكره الإمام ابن قتيبة في أوائل كتاب الإمامة والسياسة، والإمام الطبري في موضعين من أحداث السنة الحادية عشرة من تاريخه المشهور، وابن عبد ربه المالكي في حديث السقيفة ج 4 من العقد الفريد، وأبو بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري في كتاب السقيفة كما في ص 56 ج 2 من شرح النهج الحميدي الحديدي، والمسعودي في مروج الذهب نقلاً عن عروة بن الزبير في مقام الإعتذار عن أخيه عبداللّه، إذ همّ بتحريق بيوت بني هاشم حين تخلّفوا عن بيعته، والشهرستاني نقلاً عن النظام عند ذكره الفرقة النظامية من كتاب الملل والنحل، وأفرد أبو مخنف لأخبار السقيفة كتاباً فيه تفصيل ما أجملناه. وناهيك في شهرة ذلك وتواتره قول شاعر النيل الحافظ إبراهيم في قصيدته العمرية السائرة الطائرة:
وقولة لعلي قالها عمر *** أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرّقت دارك لا أبقي عليك بها *** إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص بقائلها *** أمام فارس عدنان وحاميها
هذه معاملتهم للإمام الذي لا يكون الإجماع حجة عندنا إلاّ إذا كان كاشفاً عن رأيه، فمتى يتم الإحتجاج بمثل إجماعكم هذا علينا والحال هذه يا منصفون؟!