في قضيّة الإفك على السيّدة مارية
أقول:
قد كذب المفترى هنا ثلاث كذبات:
أمّا الأُولى: فإنّ الحديث الذي أشار إليه هو والسيّد، أخرجه الحاكم بإسناده عن عائشة: «قالت: أهديت مارية إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ومعها ابن عمّ لها، قالت: فوقع عليها وقعةً، فاستمرّت حاملاً، قالت: فعزلها عند ابن عمّها. قالت: فقال أهل الإفك والزور: من حاجته إلى الولد ادّعى ولد غيره وكانت أمةً قليلة اللبن، فابتاعت له ضأنة لبون، فكان يغذّى بلبنها، فحسن عليه لحمه. قالت عائشة رضي اللّه عنها: فدخل به علي النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ذات يوم فقال: كيف ترين؟ فقلت: من غذي بلحم الضأن يحسن لحمه، قال: ولا الشبه؟ قالت: فحملني ما يحمل النساء من الغيرة أن قلت: ما أرى شبهاً! قالت: وبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ما يقول الناس، فقال لعلي: خذ هذا السيف، فانطلق فاضرب عنق ابن عمّ مارية حيث وجدته، قالت: فانطلق، فإذا هو في حائط على نخلة يحترف رطباً، قال: فلمّا نظر إلى علي ـ ومعه السيف ـ استقبلته رعدة، قال: فسقطت الخرقة، فإذا لم يخلق اللّه عزّ وجلّ له ما للرجال، شيء ممسوح»(1).
وأخرجه ابن كثير باسناد آخر عن الزهري عن عروة عن عائشة…(2) ولم يتكلّم على سنده.
فالحديث عن عائشة، وليس «من حديث أنس».
وأمّا الثانية: فلقد أخرجه الحاكم ـ وتبعه الذهبي في تلخيصه ـ: «حدثني علي بن حمشاذ العدل، ثنا أحمد بن علي الأبار، ثنا الحسن بن حماد سجادة، حدثني يحيى بن سعيد الاموي، ثنا أبو معاذ سليمان بن الأرقم الأنصاري، عن الزهري، عن عروة عن عائشة…».
فقوله: «وفي سنده عبداللّه بن لهيعة» كذب.
وأمّا الثالثة: فقوله بالتالي: «وأمّا المرتضى الرافضي صاحب كتاب الأمالي، فقد افترض صحّة حديث أنس المتقدّم…» لأنّ السيّد المرتضى ـ رحمه اللّه ـ قال في كتابه المذكور ما نصّه: «روى محمد بن الحنفيّة ـ رحمة اللّه عليه ـ عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام قال: «كان قد كثر على مارية القبطيّة أُم ابراهيم في ابن عم لها قبطي كان يزورها ويختلف إليها، فقال لي النبي صلّى اللّه عليه وآله: خذ هذا السيف وانطلق، فإن وجدته عندها فاقتله. قلت: يا رسول اللّه، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكّة المحماة، أمضى لما أمرتني أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال لي النبي صلّى اللّه عليه وآله: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب.
فأقبلت متوشّحاً بالسيف، فوجدته عندها، فاخترقت السيف، فلمّا أقبلت نحوه عرف أني أُريده، فأتى نخلةً فرقى إليها، ثم رمى بنفسه على قفاه وشغر برجليه، فإذا إنّه أجبّ أمسح، ماله ما للرجال قليل ولا كثير. قال: فغمدت السيف ورجعت إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله فأخبرته، فقال: الحمد للّه الذي يصرف عنا أهل البيت.
قال سيّدنا الشريف المرتضى: في هذا الخبر أحكام، وغريب. ونحن نبدأ بأحكامه، ثم نتلوها بغريبه…»(3).
فالحديث عن أمير المؤمنين لا عن أنس، ولا ذكر فيه لعائشة أصلاً….
وقد روى هذا الحديث ابن كثير في تأريخه بإسناد له عن محمد بن الحنفية عن أمير المؤمنين، وبآخر من طريق أحمد بن حنبل عن محمّد بن عمر بن أمير المؤمنين عليه السلام وقال: إسناده رجال ثقات(4).
ثم إن الحاكم أخرج بإسناده عن أنس بن مالك ما نصّه: «إنّ رجلاً كان يتهم بأُمّ ابراهيم ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لعلي: إذهب فاضرب عنقه، فأتاه علي رضي اللّه عنه، فإذا هو في ركّي يتبرّد فيها، فقال له علي: أخرج، فناوله يده فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر.
(قال الحاكم) هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه».
وهذا الحديث ليس فيه «عبداللّه بن لهيعة» ولا ذكر فيه عن «عائشة».
فانظر إلى كذب هذا الرجل وَدَجله.
وأمّا أن «عبداللّه بن لهيعة» ثقة عندهم أولا؟ فهذا بحث آخر، ربما نتعرض له، فنذكر من وثّقه ونبيّن السبب في تكلّم بعضهم فيه ان اقتضت الحاجة إلى ذلك.
وبعد، فأيّ مسلم يرضى بأن تنفي عائشة شبه سيدنا إبراهيم برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فتؤيّد إفك الآفكين ـ إن لم تكن هي منهم بل على رأسهم، لأنّ ابن كثير يقول: وغار نساء رسول اللّه واشتدّ عليهنّ حين رزق منها الولد(5) ـ، ثم يعتذر لها ـ بما اعتذرت هي ـ بغيرة النساء؟!
وهل مثل هذه المرأة لا يحملها «ما يحمل النساء من الغيرة» على إنكار «الوصية لعلي»؟
قيل:
2 ـ أما استدلاله على أنها رضي اللّه عنها نزلت على حكم العاطفة بحديث المغافير. فجوابه:
إن أهل السنة لا ينازعون في صحة الحديث بعد ثبوته في الصحاح وتخريج أعلام أهل العلم بالحديث له، كالبخاري ومسلم وغيرهم من العلماء المعتبرين، ولكن ينازعون في توظيف هذا الحديث ليكون دليلاً على عقيدة الرافضة في الصحابة عموماً وفي عائشة رضي اللّه عنها بشكل خاص، كما ينازعون في حمل هذا الحديث وجعله مطعناً في عدالة أُم المؤمنين عائشة، ثم تحميله من المعاني الفاسدة ما لا يحتمل جرياً وراء الأهواء.
إن ما حدث من عائشة رضي اللّه عنها في هذا الحديث لم يكن سيراً وراء عاطفتها على حساب الحق، ولم يكن تغليباً للعاطفة على نص شرعي، سواء كان آية من كتاب اللّه أو حديثاً حفظته عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، كما أراد أن يصوّر الموسوي. بل إن ما حدث منها لهو أمر فطري عادي، فعائشة وغيرها من أُمهات المؤمنين كغيرهن من النساء، جبلن جميعاً على الغيرة، لا سيما من الضرائر، فتأخر النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم عند زوجه زينب أجج نار الغيرة في قلب عائشة، الأمر الذي جعلها تحتال لضرتها هذه باتفاق مع بعض ضرائرها بالطريقة التي حكتها لنا الأحاديث الصحيحة.
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه وبطلان مذهب الموسوي: عدم إنكار النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم لفعلتهن هذه بادىء ذي بدء، فلو كان ما وقع منهن مخالفة لنص أو معارضة له، لما جاز له عليه الصّلاة والسلام إلاّ أن ينكر عليهن ذلك، ومما يؤكّد صحة ما ذهبنا إليه أن الآيات في أول سورة التحريم ما نزلت إلاّ بعد وقوع هذا الأمر، حيث اقتضت إرادة اللّه أن يكون منهن ما يكون، لتنزل هذه الآيات مبيّنة حكم تحريم الحلال، سواء كان طعاماً أو غيره.
وقد ترجم البخاري في صحيحه لهذا الحديث باباً فقال: «باب ما يكره من احتيال المرأة على الزوج والضرائر وما نزل على النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم في ذلك» انظر كتاب الحيل، باب 12.
وفي شرح هذا الباب قال ابن حجر في الفتح: قال ابن المنير: إنما ساغ لهن أن يقلن: «أكلت مغافير» لأنهن أوردنه على طريق الاستفهام بدليل جوابه بقوله: «لا»، وأردن بذلك التعريض لا صريح الكذب. فهذا وجه الاحتيال التي قالت عائشة: «لتحتالن له» ولو كان كذباً محضاً لم يسم حيلة إذ لا شبهة لصاحبه. انظر الفتح 12 : 344.
(1) المستدرك على الصحيحين 4 : 39.
(2) البداية والنهاية 5 : 304 ـ 305.
(3) الأمالي للسيد المرتضى 1 : 77.
(4) البداية والنهاية 5 : 304.
(5) البداية والنهاية 5 : 304.