رواية لعن من تخلّف:
2 ـ أما الكلمة المتعلقة فيمن تخلّف عن جيش أسامة، التي أرسلها الشهرستاني إرسال المسلمات، فقد جاءت في حديث مسند، أخرجه أبو بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري في كتاب السقيفة، أنقله لك بعين لفظه، قال:
حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، عن أحمد بن سيار، عن سعيد بن كثير الانصاري، عن رجاله، عن عبداللّه بن عبدالرحمن: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، في مرض موته أمّر أُسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه جلّة المهاجرين والأنصار، منهم: أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وأمره أن يغير على مؤتة حيث قتل أبوه زيد، وأن يغزو وادي فلسطين، فتثاقل أُسامة وتثاقل الجيش بتثاقله، وجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في مرضه يثقل ويخف ويؤكد القول في تنفيذ ذلك البعث، حتى قال له أُسامة: بأبي أنت وأُمي، أتأذن لي أن أمكث أياماً حتى يشفيك اللّه تعالى؟ فقال: أخرج وسر على بركة اللّه، فقال: يا رسول اللّه، إن أنا خرجت وأنت على هذه الحال، خرجت وفي قلبي قرحة، فقال: سر على النصر والعافية، فقال: يا رسول اللّه إني أكره أن أسائل عنك الركبان، فقال: أنفذ لما أمرتك به، ثم اغمي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، وقام اسامة فتجهز للخروج، فلما أفاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، سأل عن أُسامة والبعث فأخبر أنهم يتجهزون، فجعل يقول: أنفذوا بعث أُسامة لعن اللّه من تخلّف عنه، وكرّر ذلك، فخرج أُسامة واللواء على رأسه والصحابة بين يديه، حتى إذا كان بالجرف، نزل ومعه: أبو بكر، وعمر، وأكثر المهاجرين، ومن الأنصار: أسيد بن خضير، وبشير بن سعد، وغيرهم من الوجوه، فجاء رسول أُم أيمن يقول له: أُدخل، فإن رسول اللّه يموت، فقام من فوره، فدخل المدينة واللواء معه، فجاء به حتى ركزه بباب رسول اللّه، ورسول اللّه قد مات في تلك الساعة، انتهى بعين لفظه.
وقد نقله جماعة من المؤرخين، منهم العلاّمة المعتزلي في آخر ص 20 والتي بعدها من المجلد الثاني من شرح نهج البلاغة.
فقيل:
أظهرت المراجعة 89 ابتهاج الشيخ البشري بأباطيل الموسوي التي لا شبهة ولا ريب في صحتها ووضوحها ودلالاتها، حتى أنها لم تبق عذراً للمخالفين.
يا سبحان اللّه! ألهذا الحدّ يمسخ الموسوي شخصية مناظره العلمية ويلغي عقله حتى يجعله يرى في كلامه عكس ما نرى مستسلماً كلّ الاستسلام لما يلقي.
ثم تمضي المراجعة 89 لتطلب على لسان الشيخ البشري المزيد من هذه الأباطيل والمزيد من الطعن في أصحاب النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم.
وفي المراجعة 90 يضيف الموسوي فرية جديدة إلى افتراءاته السابقة على أهل الجنة بشهادة النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، فيسوق لنا قصة سرية أُسامة بن زيد بن حارثة رضي اللّه عنه، وهي آخر سرية بعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لقتال الروم وكانت قبل وفاته بأيام. ثم يقوم الموسوي بنسج ما تمليه عليه عقيدته الضالة من أكاذيب وتأويلات فاسدة ليّاً بلسانه وطعناً في الدين. فمن خلال هذه القصة ادّعى الموسوي بالآتي:
أولاً: أن أبا بكر رضي اللّه عنه كان مجنداً في جيش أسامة، وادّعى إجماع أهل السير والأخبار على ذلك. وجوابه من وجوه:
1 ـ دعوى الإجماع باطلة، فإن المحققين من المحدثين طعنوا في هذه الرواية، لأنها من رواية الواقدي بأسانيده في المغازي وهو متروك عند المحدّثين، ومن رواه من أصحاب السير نقله عن الواقدي دون تحقيق، فكيف يتم الإجماع على خبر مطعون بسنده عند أهل الحديث.
2 ـ أن هذا الخبر الذي زعم الموسوي الإجماع عليه، ينقضه إجماع المحدثين وأصحاب السير والمغازي على أن النبي استخلف أبا بكر يصلّي بالمسلمين مدّة مرضه ولم يستخلف غيره على هذا، ولم يقدّم للصلاة بالمسلمين إلاّ أبا بكر بالنقل المتواتر. فكيف يعقل أن يجنّده النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم في جيش أُسامة وقد استخلفه للصّلاة بالمسلمين.
3 ـ إنه لو فرض أن أبا بكر قد انتدب للخروج بجيش أُسامة، لأن تعبئة الجيش كانت قبل مرض النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بيوم واحد، فإن النبي استثناه في اليوم الثاني عندما مرض حيث أمره أن يصلّي بالناس.
ثانياً: ادّعى الموسوي أن الصحابة تثاقلوا عن الخروج ـ ويقصد بذلك كبارهم أبو بكر وعمر ـ ثم علّل هذا التثاقل والتخلّف عن الخروج في جيش أُسامة بالخوف على ضياع الخلافة من أيديهم حينما قال ـ قاتله اللّه ـ: (وقد تعلم، أنهم إنما تثاقلوا عن السير أوّلاً، وتخلّفوا عن الجيش أخيراً، ليحكّموا قواعد سياستهم، ويقيموا عمدها، ترجيحاً منهم لذلك على التعبد بالنص، حيث رأوه أولى بالمحافظة، فإنها تنصرف عنهم لا محالة إذا انصرفوا إلى الغزوة قبل وفاته صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم) وجوابه:
1 ـ فلم يتثاقل أحد من الصحابة عن الخروج كما زعم الموسوي، لأن التثاقل إنما يعني التباطؤ بالخروج كراهية له واستثقالاً مع محاولة التخلص منه بأيّ وسيلة. وهذا شأن المنافقين لا المؤمنين، والصحابة مبّرأون من ذلك، لا سيما رؤوسهم وشيوخهم بنصوص الكتاب والسنة التي لا ينصاع إليها الرافضة، فيرمون الصحابة بالنفاق والكفر، عليهم لعنة اللّه.
2 ـ كيف يصح عقلاً أن يتهم أبو بكر بالتثاقل وعدم الخروج مع أنه ليس مطالباً بذلك، لما تواتر من استخلاف النبي له ليصلّي بالناس مدّة مرضه.
3 ـ أن الذى حدث منهم، كان مجرّد تأخير للخروج أملاه عليهم مرضه عليه الصّلاة والسلام، فهل يسمى هذا لغة وشرعاً وعقلاً تثاقلاً؟ لا يقول هذا أحد عنده مسحة أو شيء من العلم، ولكن الرافضة قوم بهت لا عقل لهم، ولا علم عندهم.
ثم إن التأخير هذا جاء اجتهاداً من أمير الجيش نفسه، لا ممن هم تحت لوائه من الصحابة، فلو قدر أنه أخطأ في اجتهاده هذا فهو مأجور عليه، ولو صح أن يلام على اجتهاده هذا للامه عليه الرسول صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، ولكن الروايات تبين إقرار الرسول له على اجتهاده.
فقد اتفق الرواة على أن أُسامة تجهز للغزو وخرج في ثقله إلى الجرف وأقام بها أياماً لشكوى رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم أُسامة فقال: اغد على بركة اللّه والنصر والعافية ثم أغر حيث أمرتك أن تغير، قال أُسامة: يا رسول اللّه قد أصبحت ضعيفاً، وأرجو أن يكون اللّه قد عافاك، فأذن لي فأمكث حتى يشفيك اللّه، فإني إن خرجت وأنت على هذه الحالة، خرجت وفي نفسي منك قرحة، وأكره أن أسأل عنك الناس، فسكت عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، وتوفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بعد ذلك بأيام. المنهاج 3 : 122.
ومن هذا يتبين لنا: أن ما كان منهم من تأخر لا يصح أن يسمى تثاقلاً، كما سمّاه الموسوي، وإنما هو تأخر مشروع بإقرار النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم.
ولو قدّر بعد هذا كلّه أن يلاموا على التأخر، فينبغي أن يوجه اللّوم لأسامة بن زيد لا لغيره، لأنه هو أمير الجيش، فبتأخره تأخر الجيش، ولو أسرع بالخروج لخرجوا معه، فانتفى بذلك مدّعى الرافضة ـ والموسوي بالذات، بأن أبا بكر وعمر كانا وراء تأخير الجيش، لا سيما أنها دعوى لم تثبت في كافّة الروايات الصحيحة، بل إن جميعها متفقة على أن التأخير كان اجتهاداً من أُسامة، كما أوضحنا ذلك.
4 ـ أمّا ما أورده الموسوي من أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لعن من تخلّف عن جيش أُسامة، فهو حديث لا أصل له في كتب السنّة، حتى الحلبي والدحلاني في سيرتيهما قالا لم يرد فيه حديث أصلاً.
أما سند هذا الحديث كما نقله الموسوي فهو ضعيف، لجهالة رجال سعيد بن كثير الأنصاري، بالإضافة إلى أن سعيد الأنصاري له أحاديث مناكير، كما بيّن ذلك الذهبي في ميزانه.
ثم إنه لم يحدث أن تخلّف أحد من جند أُسامة عن الخروج معه يوم أن خرج بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم واستخلاف أبي بكر بعده.
أما أبو بكر فلا يعدّ متخلّفاً لأنه لم يكن معبأ في جيش أُسامة أصلاً كما سبق بيانه، أما تخلّف عمر، فإن أبا بكر يوم أن أنفذ بعث أُسامة كما أمر النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، طلب من أُسامة أن يأذن لعمر بالإقامة معه في المدينة، لأنه ذو رأي ناصح للإسلام، فأذن أسامة لعمر رضي اللّه عنه، فلا يعدّ بعد هذا متخلّفاً.
4 ـ أما قوله: إنما تثاقلوا وتخلفوا طلباً وخوفاً من فوات الخلافة، فهو محض كذب وافتراء لوجوه عدة:
منها: أنه رجم بالغيب لأنه حكم على النوايا، ومحلّها القلوب ولا تدرك إلاّ بالإفصاح عنها، فكيف أدرك الموسوي تلك النوايا، ولم يفصح أحد من الصحابة عنها ـ لا من يتهمهم ولا من يعتقد عصمتهم ـ ولو كانت تلك النوايا موجودة لكان علي رضي اللّه عنه والعترة الطاهرة أقدر على كشفها من الموسوي، لأنهم عايشوا تلك اللحظات وشاهدوها، ولما لم تنقل لنا الكتب المعتبرة شيئاً من ذلك عن هؤلاء، دلّ هذا على كذب الموسوي.
ثالثاً: أمّا الطعن في تأمير أسامة بن زيد، فقد حاول الموسوي أن ينسبه إلى الشيخين أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما زوراً وبهتاناً، والتحقيق أن الطعن في إمارة أسامة وقع من فئة فيهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي، فردّ عليه عمر بن الخطاب في حينها، ثم أخبر النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بما كان من عيّاش، فقام رسول اللّه خطيباً يرد على طعنهم مؤيداً بذلك موقف عمر من عياش. فتح الباري 8 : 152.
رابعاً: لقد جزم الموسوي بأن النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ما عبأهم في الجيش ولا حثّ على الإسراع بالخروج كما زعم، إلاّ لتخلو منهم المدينة، فيصفو الأمر فيها من بعده لعلي بن أبي طالب. وهو في هذا قد أعظم الفرية على اللّه سبحانه وتعالى وعلى رسوله صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم وعلى المؤمنين، قاتله اللّه.
ومقولته هذه واضحة البطلان لكلّ مسلم عاقل، وإنها من الكذب بمكان لا تحتاج معه إلى رد.
1 ـ ويكفي في الجواب عليها أن نقول: كيف عرف الموسوي هذا القصد وتلك الغاية، والنبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم لم يصرّح بها؟! كيف علمها الموسوي، وجهلها علي رضي اللّه عنه؟!
2 ـ ويكفي أن نطالب الرافضة بدليل على هذه الدعوى من آية أو حديث أو قول لأحد من الصحابة في كتاب معتبر عند أهل العلم.
3 ـ إن مثل هذا القول طعن بأخلاق النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، واتّهام له بالخداع والمكر بأصحابه، والجبن والضعف في بيان الحق، واللّجوء إلى أساليب يربأ عنها كلّ مؤمن بله الرسول صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم.
4 ـ إن هذا الزعم يتعارض مع ما تواتر من إبقاء النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم لأبي بكر في المدينة ليصلّي بالناس، الأمر الذي يتعارض مع ما يسعى إليه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم من الخلاص منهم وإخراجهم من المدينة ـ كما زعم الموسوي ـ.
خامساً: أما قوله: وإنما أمّر عليهم أسامة وهو ابن سبع عشر سنة ليّاً لأعنة بعضهم، وردّاً لجماح أهل الجماح منهم… الخ.
فمن هؤلاء البعض الذين أراد الرسول صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم أن يلوي أعنتهم ويكبح جماحهم؟! إن المعنيين بذلك في نظر الموسوي وبالدرجة الأولى هما أبو بكر وعمر، فجوابه ما مضى في الشبهة التي قبلها، لأنها تهمة لا تقلّ ولا تختلف عن سابقتها.
أقول:
عمدة البحث هنا قضيّة كون أبي بكر في جيش أسامة…(1).
ولقد جعلوا صلاة أبي بكر في مكان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في مرضه أحسن دليل لهم على إمامة أبي بكر وخلافته بعد رسول اللّه، إلاّ أنهم يصطدمون بخبر كونه في جيش أُسامة مع تأكيد النبي على خروج الجيش ولعنه من تخلَّف عنه… فإن صدّقوا بهذا الخبر خسروا أحسن الأدلّة على إمامة أبي بكر، ولذا لم يجد ابن تيمية وأتباعه مناصاً من تكذيب الخبر… قال ابن تيمية:
«إنّ هذا من الكذب المتفق على أنه كذبٌ عند كلّ من يعرف السيرة، ولم ينقل أحدٌ من أهل العلم أنّ النبيّ أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة، وإنما روي ذلك في عمر، وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة وقد استخلفه يصلّي بالمسلمين مدّة مرضه؟»(2).
وكرّر التكذيب غير مرّة مدّعياً الإجماع!! قال: «فأمّا تأمير أسامة عليه فمن الكذب المتفق على كذبه»(3) وقال: «هذا إنّما يكذبه ويفتريه من هو من أجهل الناس بأحوال الرسول والصحابة وأعظم الناس تعمّداً للكذب، وإلاّ فالرسول طول مرضه يأمر أبا بكر أن يصلي بالناس»(4) قال: «إنّ هذا كذب بإجماع علماء النقل، فلم يكن في جيش أسامة لا أبو بكر ولا عثمان وإنما قد قيل إنه كان فيه عمر، وقد تواتر عن النبي أنه استخلف أبا بكر على الصلاة حتى مات… فكيف يكون مع هذا قد أمره أن يخرج في جيش أسامة؟»(5) قال: «وأما قوله: إنه أمّر أسامة رضي اللّه عنه على الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر، فمن الكذب الذي يعرفه من له أدنى معرفة بالحديث، فإنّ أبا بكر لم يكن في ذلك الجيش، بل كان النبي يستخلفه في الصلاة»(6).
أقول:
فهنا مطلبان:
الأوّل: هل كان أبو بكر في جيش أسامة أم لا؟
إن الذين نصّوا على وجود أبي بكر في جيش أسامة، من أعلام القوم كثيرون جدّاً، نذكر منهم:
1 ـ محمّد بن عمر الواقدي.
2 ـ أحمد بن يحيى البلاذري.
3 ـ محمّد بن سعد، صاحب الطبقات الكبرى.
4 ـ ابن إسحاق صاحب السيرة.
5 ـ ابن عساكر الدمشقي.
6 ـ أبو الفرج ابن الجوزي.
7 ـ علاء الدين مغلطاي
8 ـ قطب الدين الحلبي
9 ـ ابن الأثير صاحب الكامل في التاريخ
10 ـ ابن حجر العسقلاني
11 ـ محمّد بن يوسف الصالحي صاحب سبل الهدى والرشاد
12 ـ ابن الأثير صاحب أُسد الغابة
13 ـ الحلبي صاحب السيرة
14 ـ زيني دحلان
وهذه عبارة الحافظ ابن حجر في كتاب فتح الباري ـ الذي طالما استند إليه المفتري ـ:
«كان تجهيز أُسامة يوم السبت، قبل موت النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بيومين… فبدأ برسول اللّه وجعه في اليوم الثالث، فعقد لأُسامة لواءً بيده، فأخذه أسامة فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف، وكان ممّن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار منهم: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم. فتكلّم في ذلك قوم… ثم اشتد برسول اللّه وجعه فقال: أنفذوا جيش أسامة.
وقد روي ذلك عن الواقدي وابن سعد وابن إسحاق وابن الجوزي وابن عساكر»(7).
وقال الصالحي الدمشقي: «تنبيهان. الأوّل: ذكر محمّد بن عمر وابن سعد أنّ أبا بكر كان ممّن أمَره رسول اللّه بالخروج مع أسامة إلى اُبنى، وجرى عليه في المورد، وجَزمَ به في العيون والإشارة والفتح في مناقب زيد بن حارثة.
وأنكر ذلك الحافظ أبو العبّاس بن تيميّة فقال في كتابه الذي ردّ فيه على ابن المطّهر الرافضي: لم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي أرسل أبا بكر وعثمان في جيش اسامة، فقد استخلفه يصلّي بالمسلمين مدّة مرضه إلى أن مات، وكيف يتصوّر أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس. وبسط الكلام على ذلك.
فقلت: وفيما ذكره نظر من وجهين، أوّلهما قوله: لم ينقل أحد من أهل العلم… فقد ذكره محمّد بن عمر وابن سعد، وهما من أئمّة المغازي. ثانيهما قوله: كيف يرسل أبا بكر في جيش اسامة؟ ليس بلازم، فإنّ إرادة النبي بعث جيش أسامة كان قبل ابتداء مرض رسول اللّه، فلما اشتدّ به المرض استثنى أبا بكر وأمره بالصّلاة بالناس. وقال ابن سعد: حدثنا عبدالوهاب بن عطاء العجلي قال: حدثنا المعمري عن نافع عن ابن عمر: إن رسول اللّه بعث سرية فيها أبو بكر وعمر، واستعمل عليهم أسامة بن زيد، وكان الناس طعنوا فيه أي في صغره، فبلغ ذلك رسول اللّه… فذكر الحديث»(8).
أقول: فظهر سقوط كلام ابن تيمية. أمّا أنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم استثنى أبا بكر، فهذا موضوع المطلب:
الثاني: هل إن رسول اللّه أمر أبا بكر بالصّلاة؟
لقد حققنا هذا الموضوع في رسالة منفردة منتشرة(9)، وثبت أنّ صلاة أبي بكر في مرض النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم تكن بأمر منه، فمن شاء التفصيل فليرجع إليها… وقد ذكرنا هناك في بعض الوجوه: كيف يتصوّر أن يأمره بالصلاة في مكانه وقد أمره بالخروج في الغزاة مع أُسامة؟
أقول:
فقد ظهر الحق في عمدة البحث في هذا المقام….
ولا شك في أنّ القوم قد تثاقلوا ولم يخرجوا، فكانوا قد عصوا أمر النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم المكرّر والمؤكّد بإنفاذ هذا الجيش… وأمّا أنه قال: لعن اللّه من تخلّف عن جيش أُسامة، فقد روي هذا مسنداً في كتاب السقيفة للجوهري، وأرسله الشهرستاني صاحب الملل والنحل إرسال المسلّم، وأُذعن به وبتثاقل القوم الآمدي وصاحب كتاب شرح المواقف، فقد جاء فيه ما نصّه:
«تذييل للكتاب، في ذكر الفرق التي أشار إليها الرسول صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بقوله: ستفترق أُمّتي ثلاثاً وسبعين فرقةً كلّها في النار إلاّ واحدة وهي ما أنا عليه وأصحابي، وكان ذلك من معجزاته حيث وقع ما أخبر به.
قال الآمدي: كان المسلمون عند وفاة النبي عليه السلام على عقيدة واحدة وطريقة واحدة ـ إلاّ من كان يبطن النفاق ويظهر الوفاق ـ ثم نشأ الخلاف فيما بينهم أوّلاً في امور اجتهادية لا توجب إيماناً ولا كفراً، وكان غرضهم منها إقامة مراسم الدين وإدامة مناهج الشرع القويم، وذلك:
كاختلافهم عند قول النبي في مرض موته: ايتوني بقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي، حتى قال عمر: إن النبي قد غيّبه(10) الوجع حسبنا كتاب اللّه، وكثر اللغط في ذلك حتى قال النبي: قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع.
وكاختلافهم بعد ذلك في التخلّف عن جيش اسامة، فقال قوم بوجوب الإتباع، لقوله عليه السلام: جهّزوا جيش اسامة لعن اللّه من تخلَّف عنه، وقال قوم: بالتخلّف انتظاراً لما يكون من رسول اللّه في مرضه.
وكاختلافهم بعد ذلك في موته، حتى قال عمر: من قال إن محمداً قد مات علوته بسيفي، وانّما رفع إلى السماء كما رفع عيسى بن مريم….
وكاختلافهم بعد ذلك في موضع دفنه.
وكاختلافهم في الإمامة وثبوت الإرث عن النبي كما مرّ…»(11).
(1) وللتفصيل في القضيّة يرجع إلى كتابنا (شرح منهاج الكرامة في معرفة الإمامة).
(2) منهاج السنة 5 : 486.
(3) المصدر 5 : 491.
(4) المصدر 6 : 320.
(5) المصدر 8 : 292.
(6) المصدر 4 : 276.
(7) فتح الباري بشرح البخاري 8 : 124 باب بعث أسامة بن زيد.
(8) سبل الهدى والرشاد 6 : 250 ـ 251.
(9) انظر كتاب: الرسائل العشر في الأحاديث الموضوعة في كتب السنّة.
(10) كذا.
(11) شرح المواقف 8 : 376.