حول عائشة
بعد أن أثبت السيّد ـ رحمه اللّه ـ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الوارث والوصيّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، بالاستناد إلى أحاديث القوم في أصحّ وأشهر كتبهم، وجد نفسه مضطرّاً للتعرّض لعائشة بنت أبي بكر؛ بمناسبة روايتهم عنها أنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مات بلا وصيّة..
وهو في هذا الفصل ـ من مراجعاته أيضاً ـ معتمد كذلك على كتب القوم ورواياتهم المعتبرة، ولم يتجاوزها إلى سائر الكتب؛ التزاماً منه بأُصول البحث وقواعد المناظرة، وهو ديدن سائر علمائنا الأبرار، كما أنّه لم ينسب إليها ـ أي عائشة ـ شيئاً من الصفات والحالات، إلاّ في حدود ما دلّت عليه تلك الأحاديث الواردة عندهم عن الرواة الثقات. ونحن أيضاً سوف لا نخرج عن هذا الإطار، وباللّه التوفيق.
قال السيّد ـ رحمه اللّه ـ:
«إنّ لأمّ المؤمنين عائشة فضلها ومنزلتها، غير أنّها ليست بأفضل أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وكيف تكون أفضلهنّ مع ما صحّ عنها، إذ قالت: ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خديجة ذات يوم، فتناولتها فقلت: عجوز كذا وكذا، قد أبدلك اللّه بها خيراً منها.
قال: ما أبدلني اللّه خيراً منها؛ لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدّقتني حين كذّبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني اللّه ولدها وحرمني ولد غيرها؟! الحديث(1).
وعن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيّام، فأدركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلاّ عجوزاً! فقد أبدلك اللّه خيراً منها، فغضب حتّى اهتزّ مقدّم شعره من الغضب، ثمّ قال: لا واللّه ما أبدلني اللّه خيراً منها؛ آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء… الحديث.
فأفضل أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خديجة الكبرى، صدّيقة هذه الأُمّة، وأوّلها إيماناً باللّه، وتصديقاً بكتابه، ومواساةً لنبيّه..
وقد أوحي إليه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أن يبشّرها(2) ببيت لها في الجنّة من قصب، ونصّ على تفضيلها، فقال: أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد، وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران.
وقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: خير نساء العالمين أربع:… ثمّ ذكرهنّ.
وقال: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد وآسية امرأة فرعون….
إلى كثير من أمثال هذه النصوص، وهي من أصحّ الآثار النبويّة وأثبتها(3).
على أنّه لا يمكن القول بأنّ عائشة أفضل ممّن عدا خديجة من أُمّهات المؤمنين، والسنن المأثورة والأخبار المسطورة تأبى تفضيلها عليهنّ، كما لا يخفى على أُولي الألباب..
وربّما كانت ترى أنّها أفضل من غيرها، فلا يقرّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على ذلك، كما اتّفق هذا مع أُمّ المؤمنين صفيّة بنت حيي، إذ دخل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عليها وهي تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟
قالت: بلغني أنّ عائشة وحفصة تنالان منّي، وتقولان نحن خير من صفيّة.
قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: ألا قلتِ لهنّ: كيف تكنّ خيراً منّي وأبي هارون، وعمّي موسى، وزوجي محمّد(4).
ومن تتبّع حركات أُمّ المؤمنين عائشة في أفعالها وأقوالها، وجدها كما نقول.
أمّا إعراضنا عن حديثها في الوصيّة؛ فلكونه ليس بحجّة، ولا تسألني عن التفصيل»(5).
(1) هذا الحديث والذي بعده من صحاح السُنن المستفيضة؛ فراجعهما في أحوال خديجة الكبرى من الاستيعاب؛ تجدهما بعين اللفظ الذي أوردناه….
وقد أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما بلفظ يقارب ذلك.
(2) كما أخرجه البخاري في باب غيرة النساء ووجدهن، وهو في أواخر كتاب النكاح 3 : 471 / 5229.
(3) وقد أوردنا جملة منها في المطلب الثاني من كلمتنا الغرّاء، فليراجعها من أراد الاستقصاء.
(4) أخرجه الترمذي من طريق كنانة مولى أمّ المؤمنين صفيّة، وأورده ابن عبدالبرّ في ترجمة صفيّة من الاستيعاب، وابن حجر في ترجمتها من الإصابة، والشيخ رشيد رضا في آخر ص 589 ج 12 من مناره [ذيل الآية الثالثة من سورة النساء]، وغير واحد من نقلة الآثار.
(5) المراجعات: 210 ـ 211.