تنبيهٌ على تحريفات قبيحة ومحاولات فاشلة:
ولا بأس هنا بالتنبيه على بعض تصرفاتهم في أخبار الواقعة بالقدر المرويّ منها:
أخرج ابن عبدالبرّ(1) ما رواه ابن أبي شيبة، بنفس السند، فوضع كلمة: «لأفعلنْ ولأفعلنْ» بدل «أن يحرَّق عليهم البيت».
ووضع في كتاب الأموال في الرواية عن أبي بكر: «وددت أني لم أكشف بيت فاطمة…» كلمة «وددت أني لم أكن فعلت كذا وكذا»(2).
أمّا ابن تيمية، فلم ينكر، ولم يتصرّف في اللفظ، وإنما قال: «كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال اللّه الذي يقسّمه وأن يعطيه لمستحقّه»(3).
ووضعوا حديثاً في أن الإمام عليه السلام أبلغ أبا بكر بموت الزهراء فجاء أبو بكر وصلّى عليها وكبّر أربع تكبيرات… لكنّ الحافظ ابن حجر نبّه على سقوطه(4).
أقول:
كان ذلك بيان الكيفية التي تمّت بها البيعة لأبي بكر، نقلاً عن صحاح القوم وسائر كتبهم المعتبرة المعروفة، إذ أوردنا خطبة عمر بكاملها عن صحيح البخاري، وأوضحنا السبب فيها بالاعتماد على ما جاء في شروح الكتاب المذكور، وذلك ما أشار إليه السيّد في هامش كتابه بعد أن أورد محلّ الشاهد من الخطبة في المتن، بلا مسخ أو تصرف منه فيها… لكن المفتري هو الذي اقتطع منها قِطَعاً وأغفل الباقي ولم يذكره أصلاً.
وإنّ القارئ ليلاحظ أنه لم يكن فيما بين القوم في السقيفة تشاور وحوار وتفاهم، بل صياح وطعنٌ وضرب، وأنّه لولا التهديد بالقتل والقسوة لما استسلم من استسلم من الأنصار، أمّا سعدٌ وأتباعه فالثابت عنهم عدم البيعة إلى الآخر، وحتى أنّه سعداً قد قتل في هذا السبيل… بل وجدنا في المصادر أنّ الأنصار ـ أو بعضهم ـ جعل ينادي باسم أمير المؤمنين عليه السلام وخاصةً بعد أن بايع عمر بن الخطاب لأبي بكر… تلك البيعة التي قال عنها كبار المهاجرين «كانت فلتة» فقال عمر في خطبته: «ألا وإنها قد كانت كذلك» ثم قال: «لكنّ اللّه وقى شرّها» وهذا أوّل الكلام….
إنّ كلمة «الفلتة» إنما يتّضح معناها بعد أن نعرف أنّ الذين قالوا هذه الكلمة هم الزبير ومن معه كما في الرواية المعتبرة عند ابن حجر وغيره ـ أو هو عمّار بن ياسر ومن معه ـ كما في تاريخ الطبري وابن الأثير ـ وأنّه قد قالوها متأسّفين على ما مضى وفي مقام بيان أنهم سوف يجبرون ما فرط منهم إذا مات عمر، وهذا هو الذي أغضب عمر، لأنه كان يريد الأمر لغير من يريدونه له، إذ عبّر عنهم بـ«الذين يريدون أن يغصبوهم أُمورهم»… لكنّ القوم يحاولون تفسير الكلمة بما يصحُّ معه بيعة أبي بكر، متغافلين عمّا جاء في نفس خطبة عمر وعن السبب فيها….
وقد ظهر من المصادر أنّ جماعةً كبيرةً من المهاجرين والأنصار ـ وفيهم طلحة والزبير ـ وقفوا إلى جانب علي وبني هاشم… وإنكار ذلك هو الكذب الصريح.
وقد عرفنا كيف أنّ الزهراء الطاهرة فارقت الدنيا ولم تبايع أبا بكر… وابن تيمية يدّعي أنّ بني هاشم لم يمت أحد منهم إلاّ وهو مبايعٌ لأبي بكر.
وأمّا بيعة علي عليه السلام فكانت بعد وفاة الصدّيقة الطاهرة، وبعد إعراض وجوه الناس عنه وفي ظروف خاصّة اقتضت أن يبايع… وذلك صريح صحيح البخاري وغيره.
وقد تبيّن مما ذكرناه… أنّ مثل هذه البيعة لا يجوز أن يقال بوقوعها بالإجماع من المسلمين أو الصحابة أو أهل الحلّ والعقد من الصحابة….
ولكنّ القوم في قرارة نفوسهم يعلمون بما ذكرناه بل وأكثر من ذلك، إلاّ أنهم يحاولون تبرير الأمر الواقع، وحيث يعلمونه أنه غير قابل للتبرير يضطرّون إلى أن يقولوا: ليس المقصود من دعوى الإجماع على إمامة أبي بكر هو الاتّفاق من المسلمين ولا من الصحابة ولا حتى من أهل الحلّ والعقد، فإنّ الإمامة تثبت «من غير أن يشترط إجماعهم على ذلك، ولا عدد محدود، بل ينعقد بعقد واحد منهم، ولهذا لم يتوقف أبو بكر إلى انتشار الأخبار في الأقطار، ولم ينكر عليه أحد. وقال عمر لأبي عبيدة: ابسط يدك أُبايعك. فقال: أتقول هذا وأبو بكر حاضر؟
فبايع أبا بكر، وهذا مذهب الأشعري»(5).
فانظر كيف تنازلوا عن الإجماع!
وقد تنازلوا من قبل عن الأفضلية!
بعد أن اعترفوا بعدم النص من اللّه ورسوله على أبي بكر!
فبقي الطريق الرابع، وهو القهر والغلبة، وهو الأمر الواقع.
ثم قيل:
لقد طلب الشيخ البشري في المراجعة 83 من الموسوي ـ طلب التلميذ النجيب من أستاذه القدير ـ أن يجمع له بين أمرين متعارضين عنده ألا وهو ثبوت النص على إمامة علي بعد النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بلا فصل، وتجاوز الصحابة لهذا النص الثابت.
وكأن البشري قد استيقن ثبوت النص على إمامة عليّ حتى بات حقيقة لا نزاع فيها، مع أن الحقيقة خلاف ذلك، فلم يثبت عن النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم أنه نص خلافه أحد من الصحابة بعينه صراحة، سواء كان علياً أو العباس أو أبا بكر.
والخلافة لا تثبت ولم تثبت لأحد من الخلفاء إلاّ بالبيعة واختيار أهل الحلّ والعقد، وقد أجمعت الأمة على استخلاف أبي بكر بعد النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، لما عرفوا من فضله وعلو منزلته التي لا يضاهيه فيها أحد، ولاختيار النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم له ليصلي بالناس في مرض موته، قائلين: رضيه رسول اللّه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا.
ولا أدلّ على انتفاء النص مما صرح به علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه في خطبته التي خطبها على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم في اليوم الثاني من خلافته ـ وكان ذلك يوم الجمعة 25 من ذي الحجة سنة 35 حفظ لنا الطبري نصها 6 : 157 و 1 / 3077 فقال: (أيها الناس عن ملأ وأذن، إنّ هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق إلاّ من أمَّرْتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر ـ أي على البيعة له ـ فإن شئتم قعدت لكم، وإلاّ فلا أجد) وبذلك أعلن أنه لا يستمد الخلافة من شيء سبق بل يستمدها من البيعة التي ارتضتها الأُمة.
وفي المراجعة (84) قام الأُستاذ القدير ولكن في الرفض والكذب والافتراء بالجمع بين الأمرين المتعارضين، ليخرج علينا بجملة اتهامات للصحابة رضي اللّه عنهم وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الثلاثة الذين سبقوا علياً في الخلافة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، تتلخص في:
1 ـ أنهم كانوا يفرقون بين النصوص الشرعية ويقسمونها إلى قسمين، قسم يتعلق بأُمور الدين وشئون الحياة، وهذه كانوا يتعبدون بها ويلتزمونها. وقسم يتعلق بالسياسة وشئون الدولة والحكم، فلا يتعبدون بها ولا يلتزمونها، ولهذا لم يلتزموا بالنص الثابت على إمامة علي لأنها من هذا القبيل.
2 ـ أنهم لا يخضعون للنصوص المتعلقة بشئون السياسة إلاّ بالقوة ولا يطيعون إلاّ عنوة، ولما انتفت القوة التي تحملهم على العمل بنص إمامة علي تفلتوا منه.
3 ـ أنهم كانوا ينقمون على عليّ شدته في الحق، الأمر الذي جعلهم يعملون على إقصائه من الخلافة رغم ثبوتها بالنص.
4 ـ أنّهم كانوا يحسدونه على ما آتاه اللّه من فضله، الأمر الذي دفعهم إلى الكيد به وإبعاده عن الخلافة الثابتة بالنصّ.
5 ـ تشوق الصحابة إلى الخلافة والحكم دفعهم إلى إنكار النص على إمامته أو تأويله، لأنهم لو لم يفعلوا ذلك فلا سبيل لهم بعد ذلك للوصول إلى سدة الحكم، لأنها ستكون من بعده في أبنائه المعصومين.
6 ـ عدم رضاهم عن اجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم دفعهم إلى سحب الخلافة عنهم، وجعلها في غيرهم.
والردّ على هذه التهم لا يحتاج إلى كبير عناء وكثير كلام، لأنها تهم باطلة لا أصل لها عند أهل العلم، ولا مكان لها في كتاب معتبر عند العلماء. بل هي جملة اتهامات أطلقها الموسوي أملتها عليه عقيدته في أصحاب النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، الذين شهد لهم القرآن والسنة بالإيمان والخيرية.
ولو كان ما ذكر الموسوي حقائق ثابتة لكان هذا طعناً في علي رضي اللّه عنه، إذ كيف يرى كلّ هذا في إخوانه الصحابة ولا ينكر عليهم ولو واحدة من هذه الصفات والأخلاق التي تتعارض مع إيمانهم باللّه ورسوله؟! وكيف يراهم يتحايلون للتخلص من إمامته وتعطيل النص الثابت بها ولا يذكّرهم مجرد تذكير بخطورة هذا الأمر؟! بل وكيف يبايع أبا بكر بعد ذلك ويقع هو في مخالفة النص وتعطيله؟! وكيف ينفي أن يكون قد عهد النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بشيء من الإمامة وكان هذا في الكوفة وهو صاحب الشوكة فيها؟!
كلّ هذه التساؤلات تكشف كذب الموسوي وافتراءاته وتناقضاته. تأمل هذا تجده واضحاً إن شاء اللّه تعالى.
أقول:
ثم إنّ السيّد ذكر ـ في المراجعة 84 ـ نقاطاً مهمةً من سيرة الصحابة، ومن سيرة أمير المؤمنين، مستمّدةً من الأحاديث والأخبار التاريخيّة، بيّن فيها باختصار موقف كثير من الصحابة أمام النصوص من الكتاب والسنّة، وتعاملهم مع أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسّلام، وموقفه عليه السلام منهم….
لقد أشار رحمه اللّه إلى أنّ العرب عامّةً وقريشاً خاصّةً كانوا ـ من جهة ـ ينقمون من علي عليه السّلام لسابقته في الحروب والغزوات مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ومن جهة أُخرى: كانوا يخشون عدله في الرعيّة ومساواته بين الناس، ومن جهة ثالثة: كانوا يحسدونه على ما آتاه اللّه من فضله… ومن جهة رابعة: كانوا يطمعون في الرئاسة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله….
فكلّ ذلك كان قد ترك في قلوبهم حقداً وفي صدورهم ضغينةً… لم يتمكنوا من أنْ يبدوا ذلك تجاهه إلاّ بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وهذا ما أخبر به النبي نفسه علياً وأهل بيته، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إن ممّا عهد إليّ النبيّ أن الأُمة ستغدر بي بعده»(6) وفي حديث آخر لمّا أجهش النبي باكياً قال: «قلت: يا رسول اللّه، ما يبكيك؟ قال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلاّ من بعدي. قال: قلت يا رسول اللّه، في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك»(7).
وغير هذين الحديثين كثير.
* * *
(1) الاستيعاب 3 : 975.
(2) كتاب الأموال: 144 / 353.
(3) منهاج السنّة 8 : 291.
(4) لسان الميزان 3 : 334 بترجمة عبداللّه بن محمّد بن ربيعة المصيّصي.
(5) شرح المقاصد 5 : 254.
(6) المستدرك على الصحيحين: 3 : 140 ـ 142 قال الحاكم: صحيح الاسناد ووافقه الذهبي.
(7) مجمع الزوائد 9 : 118 وهو بلفظ مبتور! في المستدرك وتلخيصه 3 : 139 مع القول بصحته.