تظاهر عائشة وحفصة على النبيّ ونزول القرآن
أقول:
قال اللّه تعالى: (بسم اللّه الرحمن الرحيم * يا أيها النبيّ لم تحرّم ما أحلّ اللّه لك تبتغي مرضات أزواجك واللّه غفور رحيم قد فرض اللّه لكم تحلّة أيمانكم واللّه مولاكم وهو العليم الحكيم وإذ أسّر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلمّا نبّأت به وأظهره اللّه عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإنّ اللّه هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير عسى ربّه إن طلّقكن أن يبدله أزواجاً منكنّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيّبات وأبكاراً)(1).
هذه هي الآيات، ويتمّ المقصود ببيان أُمور:
* معنى «صغت» في تفسير الطبري وغيره عن ابن عباس: «زاغت قلوبكما، يقول أثمت قلوبكما» وعن مجاهد قال: «كنّا نرى أنّ قوله (فقد صغت قلوبكما)شيء هيّن، حتى سمعت قراءة ابن مسعود: «إن تتوبا إلى اللّه فقد زاغت قلوبكما»(2) وقال البغوي: «أي: زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما التوبة. قال ابن زيد: مالت قلوبكما بأنّ سرّهما ما كره رسول اللّه»(3).
* معنى «تظاهرا عليه» عند البغوي: «أي تتظاهرا وتتعاونا على أذى النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم»(4) وفي الكشاف: (وإن تظاهرا) وإن تعاونا (عليه)بما يسوءه»(5).
وقال ابن الجوزي: «ثم خاطب عائشة وحفصة فقال: (إن تتوبا إلى اللّه)من التعاون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بالإيذاء (فقد صغت قلوبكما) قال ابن عباس: زاغت وأُثمت، قال الزجاج: عدلت وزاغت عن الحق. قال مجاهد: كنا نرى قوله تعالى (فقد صغت قلوبكما) شيئاً هيّناً حتى وجدنا في قراءة ابن مسعود: فقد زاغت قلوبكما… (وإن تظاهرا)… أي تعاونا على النبي بالإيذاء…»(6).
وقال القرطبي: «قوله تعالى: (وإن تظاهرا عليه) أي: تتظاهرا وتتعاونا على النبي بالمعصية والإيذاء»(7).
وهكذا في غيرها من التفاسير.
من المرأتان اللّتان تظاهرتا؟
وما هو سبب النزول؟
قد أجمع أهل التفسير على أنهما عائشة وحفصة.
وقد ذكر في الدر المنثور بعد الآيات مباشرةً: «أخرج ابن سعد وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً، فتواصيت أنا وحفصة…»(8).
وقال القرطبي: «قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرّم ما أحلّ اللّه) فيه خمس مسائل.الاولى: قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرّم ما أحل اللّه لك) ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أنّ النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً (قال): «وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، فجرى ما جرى، فحلف ألاّ يشربه وأسرّ ذلك ونزلت الآية في الجميع»(9).
وفي شرح النووي عن القاضي عياض: «الصحيح أنّها في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح»(10).
وفي تفسير ابن كثير ـ في سبب النزول ـ: «والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العسل كما قال البخاري عند هذه الآية: ثنا ابراهيم بن موسى…» (قال): «وفي كتاب الأيمان والنذور: ثنا الحسن بن محمد…» (قال): «وهكذا رواه في كتاب الطلاق…» (قال): «وقد روى مسلم هذا الحديث في كتاب الطلاق…» ثم قال:
«والغرض: إن هذا السياق فيه: إن حفصة هي الساقية للعسل، وهو من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن خالته عائشة. وفي طريق ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة أن زينب بنت جحش هي التي سقت العسل، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه، فاللّه أعلم. وقد يقال إنّهما واقعتان، ولا بُعد في ذلك، إلاّ أن كونهما سبباً لنزول هذه الآية فيه نظر، واللّه أعلم.
(قال): «وممّا يدلّ على أن عائشة وحفصة هما المتظاهرتان: الحديث الذي رواه الامام أحمد في مسنده حيث قال: ثنا عبدالرزاق، أنا معمر، عن الزهري عن عبيداللّه بن عبداللّه بن أبي ثور عن ابن عباس قال: لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم اللتين قال اللّه تعالى (إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما) حتى حجّ عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالأداوة فتبرز ثم أتاني، فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي اللّتان قال اللّه تعالى (إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما)؟ فقال عمر: واعجباً لك يا ابن عباس ـ قال الزهري: كره واللّه ما سألته عنه ولم يكتمه ـ قال: هي حفصة وعائشة»(11).
فظهر:
1 ـ إن عائشة وحفصة تعاونتا على أذى النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم… والقضيّة مذكورة في كتب القوم المسمّاة بالصحّاح….
2 ـ قال ابن كثير: بأنّ أخبار الصحّاح مختلفة، فبعضها تفيد أن الساقية «حفصة» وبعضها أنها «زينب» قال: «وقد يقال إنهما واقعتان، ولا بُعد في ذلك، إلاّ أن كونهما سبباً لنزول الآية فيه نظر». فهذا كلام ابن كثير لا ما نسبه إليه المفتري، فلاحظ.
3 ـ إن المرأتين قد تظاهرتا على النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، أي تعاونتا على إيذائه، فقول المفتري: «لم تكن تقصد بها أذى النبي» جهلٌ أو كذب.
4 ـ كما أنّ دفاع غيره بالكذب والزور لا يفيد.
ثم إنّه ليس الكلام في أن المرأتين قد تابتا أولا؟ وهل قبلت توبتهما أو لا؟
لقد كان المقصود أوّلاً وبالذات معرفة حال عائشة ثم حفصة، على ضوء الكتاب والسنّة، والفوائد المترتبة على ذلك كثيرة كما لا يخفى، والمقصود بعد ذلك المقارنة بين حالهما وحال السيدة أُمّ سلمة، حتى يظهر جانبٌ من سبب تقديمها على المرأتين!!
5 ـ ومن العجب دفاع المفتري عن عائشة بقوله: «وفي الحديث الصحيح: إن بعض أُمّهات المؤمنين غارت على الأُخرى…» وذلك: لأنّ هذه ـ بعض أُمهات المؤمنين ـ هي عائشة نفسها كما في رواية أحمد عن عائشة: «قالت: بعثت صفيّة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بطعام قد صنعته له وهو عندي، فلمّا رأيت الجارية أخذتني رعدة حتى استقلّني أفكل، فضربت القصعة فرميت بها، قالت: فنظر إليَّ رسول اللّه، فعرفت الغضب في وجهه، فقلت: أعوذ برسول اللّه أن يلعنني اليوم…»(12).
فليتأمّل القارئ الكريم!
أوّلاً: هي عائشة نفسها، ولا فائدة في إخفاء اسمها من أيّ أحد كان!!
وثانياً: قد اعترف بأنّها قد أتلفت الإناء بما فيه، وهو حرام، مع أنّه كان لغيرها!
وثالثاً: قد اعترفت بإهانة النعمة.
ورابعاً: قد اعترفت بإغضاب النبيّ، ولا شك أنّه يغضب من فعل الحرام، سواء اعترفت أو لا؟
قيل:
2 ـ أما قول الموسوي: ولا ضرب امرأة نوح وامرأة لوط لها مثلاً، فجوابه:
أوّلاً: إن اللّه لم يضرب امرأة نوح وامرأة لوط مثلاً لعائشة بل، ضربهما مثلاً للكافرين الذين يخالطون المسلمين ويعاشرونهم، بياناً منه سبحانه وتعالى أن تلك العشرة والخلطة لا تجدي الكافرين نفعاً عند اللّه سبحانه وتعالى ما لم يصاحبها إيمان باللّه ورسوله، فلهذا ضرب اللّه هذا المثل. يدل على هذا صريح قوله تعالى: (ضرب اللّه مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من اللّه شيئاً…) الآية، وآيات القرآن الدالة على هذا المعنى كثيرة جداً، كقوله تعالى: (ألا تزر وازرة وزر أُخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، وقوله تعالى: (يوم لا تغني نفس عن نفس شيئاً والأمر يومئذ للّه)، وقوله تعالى: (كلّ نفس بما كسبت رهينة) ومنه أيضاً قوله عليه الصّلاة والسلام: «يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من اللّه شيئاً». وقوله عليه الصّلاة والسلام: من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه»، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على أن الإنسان مجزيّ بإيمانه وعمله ولا تنفعه قرابة ولا خلّة.
أما ما ذهب إليه الموسوي من أن اللّه ضرب امرأة نوح وامرأة لوط مثلاً لعائشة رضي اللّه عنها، فهذا محض كذب وافتراء، إذ لم يقل به أحد من أهل العلم، ولا جاء في كتاب معتبر، بل هو مخالف لإجماع أهل العلم من المفسرين والمحدثين.
ثانياً: إن الموسوي يعلم أن هذا القول هو قول الرافضة أنفسهم، ولا يوجد إلاّ في كتبهم، لهذا لم يعزو هذا القول إلى كتاب ولو كان غير معتبر عند أهل العلم.
ثالثاً: إن قول الموسوي هذا أن هناك وجه شبه بين امرأة نوح وامرأة لوط من جهة وبين أُم المؤمنين عائشة رضي اللّه عنها، فلو سألنا أنفسنا السؤال التالي: ما وجه الشّبه بين الطرفين عند الموسوي؟! فإنه سؤال لا نجد في كلام الموسوي جواباً صريحاً عليه.
ولكن القرآن الكريم يحدّثنا أن هاتين المرأتين كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما، ونتيجة لتلك الخيانة قرّرت الآية الكريمة أنهما من أهل النار، ولا ينفعهما أنهما زوجتا نبيين من أنبياء اللّه سبحانه وتعالى.
لا جدال في خيانة هاتين المرأتين بعد أن وصفهما اللّه بذلك، ولكن ما نوع تلك الخيانة؟ فقد اتفق أهل العلم بالتفسير أن الخيانة كانت خيانة في العقيدة والاتباع فلم يوافقاهما على الإيمان باللّه، ولا صدّقاهما في الرسالة، ولم تكن خيانة عرض ووقوع بالزنا والفاحشة.
قال ابن كثير عند تفسير الآية قال: «(فخانتاهما) أي في الإيمان، لم يوافقاهما على الإيمان، ولا صدّقاهما في الرسالة، وليس المراد بقوله: (فخانتاهما) في فاحشة بل في الدين، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة، لحرمة الأنبياء».
قال ابن عباس: (فخانتاهما) قال: ما زنتا، أما خيانة امرأة نوح فكانت تخبر أنّه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدلّ قومها على أضيافه.
وقال العوفي عن ابن عباس قال: كانت خيانتهما أنهما كانتا على عورتيهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سرّ نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحداً أخبرت به أهل المدينة ممّن يعمل السوء.
وقال الضحاك عن ابن عباس، قال: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين.
بعد ما تبين لنا يقيناً نوع خيانة امرأة نوح وامرأة لوط، وأنهما كانت في الدين لا في العرض، فهل في سيرة السيّدة الطاهرة أُم المؤمنين ما يشبه سيرة هاتين المرأتين حتى يُضربا مثلاً لها كما قال الموسوي؟!
مثل هذا لا يقوله مسلم عاقل منصف، بل لا يقوله إلاّ من أصيب بدينه أو عقله. فهل في سيرة السيدة الطاهرة أُم المؤمنين أنها كانت على غير عقيدة التوحيد التي جاء بها زوجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم؟، كيف يقال هذا وهي التي كانت تعلّم الرجال وتنشر هدي النبوة، وتبلغ رسالة الإسلام، في حياة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وبعد وفاته.
وهل في سيرتها ما يدلّ على أنها غير مخلصة في إيمانها؟! وهل في سيرتها ما يدل على وقوفها إلى جانب أعداء النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم تفشي لهم بأسراره وتتعاون معهم ضدّه أو ضدّ أحد من المؤمنين كما كانت تفعل كلّ من امرأة نوح وامرأة لوط؟!
ولو قدّر صحة كلام الموسوي، فإنه يتعارض مع ما يؤمن به أهل السنّة والرافضة معاً من عصمة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، إذ كيف يبقى على عائشة زوجة له وهي خائنة لدينه؟ كيف يشهد لها بالجنّة وهي من أهل النار ـ والعياذ باللّه ـ شأنها شأن امرأة نوح وامرأة لوط؟
أما إن كان الموسوي قد جعل وجه الشّبه بين امرأة نوح وامرأة لوط من جهة، وبين أُم المؤمنين عائشة من جهة أُخرى، هو الوقوع في الفاحشة والبغاء، فلا عجب من ذلك، فإن الرافضة ـ قاتلهم اللّه ـ يرون أن الزنا جائز على نساء الأنبياء، مستدلّين على ذلك بالآية (ضرب اللّه مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما)، ويرمون عائشة بالزنا، لأن اللّه ضرب هاتين المرأتين مثلاً لها بجامع الوقوع بالفاحشة كما صرح بذلك الموسوي، مضاهين بذلك المنافقين والفاسقين من أهل الإفك أمثال عبداللّه بن أبي سلول وغيره الذين رموا عائشة بالفاحشة ثم لم يتوبوا رغم نزول براءتها من فوق سبع سماوات، وفيهم خطب النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم فقال: «أيها الناس من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، واللّه ما علمت على أهلي إلاّ خيراً، ولقد ذكروا رجلاً واللّه ما علمت عليه إلاّ خيراً».
يقول ابن تيمية في منهاج السنة 2 : 192: ومن المعلوم أن من أعظم أنواع الأذى للإنسان أن يكذب على امرأته فيقول: أنها بغيّ ويجعل الزوج أنه زوج قحبة، فإن هذا من أعظم ما يشتم به الناس بعضهم بعضاً، والرّمي بالفاحشة دون سائر المعاصي جعل اللّه فيه حدّ القذف، لأن الأذى الذي يحصل به للمرمي لا يحصل مثله بغيره. أ هـ.
أقول:
لقد طال الكلام بلا جدوى، واتّهم السيّد بالكذب والافتراء….
إنّ المهمّ من كلامه هو: «إنّ اللّه لم يضرب امرأة نوح وامرأة لوط مثلاً لعائشة… لم يقل به أحد من أهل العلم ولا جاء في كتاب معتبر، بل هو مخالف لإجماع أهل العلم من المفسرين والمحدّثين».
وإليك كلمات أعلام التفسير والحديث من القوم:
* قال ابن الجوزي: «قوله تعالى: (ضرب اللّه مثلاً…) قال المفسّرون ـ منهم مقاتل ـ هذا المثل يتضمّن تخويف عائشة وحفصة أنّها إن عصيا ربّهما لم يغن رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم عنهما شيئاً…»(13).
* وقال القرطبي: قوله تعالى: (وضرب اللّه مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون)واسمها آسية بنت مزاحم. قال يحيى بن سلاّم: قوله: (ضرب اللّه مثلاً للذين كفروا)، مثل ضربه اللّه يحذّر به عائشة وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا على رسول اللّه…»(14).
* وقال الخازن: «وفي هذا المثل تعريض بأُميّ المؤمنين عائشة وحفصة وما فرط منهما، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه»(15).
* وقال الزمخشري: «وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأُمّي المؤمنين المذكورتين في أوّل السّورة وما فرط منهما على التظاهر على رسول اللّه بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه لما في التمثيل من ذكر الكفر..، وإشارة إلى أن من حقّهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين، وألاّ تتكلا على أنهما زوجا رسول اللّه»(16).
* وقال النسفي: «وفي طيّ هذين التمثيلين…» إلى آخر عبارة الزمخشري(17).
* وقال الرازي: «وفي ضمن هذين التمثيلين تعريض بأُمّي المؤمنين وهما حفصة وعائشة، لما فرط منهما…»(18)
* وأورد الشوكاني كلام يحيى بن سلاّم المذكور ثم قال: «وما أحسن من قال، فإن ذكر امرأتي النبيّين بعد ذكر قصتهما ومظاهرتهما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يرشد أتمّ إرشاد ويلوّح أبلغ تلويح إلى أنّ المراد تخويفهما…»(19).
* وقال الآلوسي: «وفي هذا ـ على ما قيل ـ تصوير لحال المرأتين المحاكية لحال الكفرة في خيانتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بالكفر والعصيان، مع تمكّنهم التام من الإيمان والطاعة… وفيه تعريض لأُمّهات المؤمنين وتخويف لهنّ بأنه لا يفيدهنّ إن أتين بما حظر عليهنّ كونهن تحت نكاح النبيّ…»(20).
أقول: فظهر كذب من قال أن لا علاقة للآية بعائشة وحفصة، وأنه لم يقل به أحد من أهل العلم، بل هو مخالف لإجماع أهل العلم من المفسّرين والمحدّثين.
وأمّا أن المراد من «الخيانة» ما هو؟
فأقوال القوم كثيرة، فقيل: الكفر، وقيل: النفاق، وقيل: إفشاء السّر، وقيل: الزنا… فراجع التفاسير المذكورة بذيل الآية المباركة… ولسنا بصدد التحقيق في ذلك.
والمقصود هو الوقوف على حال عائشة وحفصة على ضوء الكتاب والسنّة وأقوال العلماء، وبذلك يعرف حال السيّدة أُمّ سلمة، التي لم يصدر منها شيء من هذا القبيل حتى يرد في حقّها ذلك!! فيكون وجهاً من وجوه تفضيلها وتقديم حديثها.
قيل:
3 ـ وأما قول الموسوي: ولا قام النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم خطيباً على منبره فأشار بنحو مسكنها قائلاً: ها هنا الفتنة ها هنا الفتنة، حيث يطلع قرن الشيطان.
فجوابه، وباللّه التوفيق.
أولاً: إن حديث الفتنة ها هنا حديث صحيح رواه الشيخان من طرق مختلفة، من المهم أن نوردها ليتعرف عليها القارئ، ومن خلال ذلك يتّضح له خطأ الموسوي وسوء فهمه لها واعوجاج عقيدته التي بين جنبيه.
روى البخاري في كتاب فرض الخمس عن نافع عن عبداللّه بن عمر رضي اللّه عنهما قال: قام النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال: «هنا الفتنة، ثلاثاً من حيث يطلع قرن الشيطان»(21).
وروى البخاري في كتاب الفتن بسنده عن النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم أنه قام إلى جنب المنبر فقال: «الفتنة ها هنا، الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان، أو قال: قرن الشمس»(22).
وروى البخاري في كتاب الفتن أيضاً بسنده عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم وهو مستقبل المشرق يقول: «ألا إنّ فتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان»(23).
وروى البخاري أيضاً في الكتاب نفسه بسنده عن ابن عمر رضي اللّه عنهما: «ذكر النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا، قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول اللّه وفي نجدنا، فأظنه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان»(24).
وأخرج البخاري في أول كتاب الفتن بسنده عن أُسامة بن زيد رضي اللّه عنهما قال: «أشرف النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم على أطم من آطام المدينة فقال: هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا، قال: فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر»(25).
أما الإمام مسلم، فقد أخرج الحديث في كتاب الفتن وأشراط الساعة بسنده عن ابن عمر أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم وهو مستقبل المشرق يقول: «ألا إن الفتنة ها هنا ألا إنّ الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان(26)».
وأخرج أيضاً في الكتاب نفسه عن سالم بن عبداللّه عن أبيه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم قال وهو مستقبل المشرق: «ها إن الفتنة ها هنا، ها إن الفتنة ها هنا، ها إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان»(27).
وأخرج أيضاً في الكتاب نفسه بسنده عن ابن عمر قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم من بيت عائشة فقال: رأس الكفر من ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان «يعني المشرق»(28).
وأخرج بسنده عن ابن عمر قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم يشير بيده نحو المشرق ويقول: ها إن الفتنة ها هنا، ها إن الفتنة ها هنا ثلاثاً حيث يطلع قرن الشيطان(29).
ثانياً: من خلال هذا العرض لروايات الحديث في الصحيحين يتضح ما يأتي:
أ ـ أنه لا عبرة لذكر المكان الذي قال الرسول فيه هذا الحديث سواء كان ذلك على المنبر، أو أمام بيت حفصة، أو عند خروجه من بيت عائشة أو وهو مشرف على أطم من آطام المدينة كما ذكرت ذلك الروايات الصحيحة التي ذكرناها سابقاً. فذكر الزمان أو المكان الذي قيل فيه الحديث لا علاقة له في معنى الحديث، ولهذا فإن اختلاف الروايات في ذكر المكان لا يؤثر على فهم الحديث، ولا يوجد فيه تعارضاً ولا تضارباً، لأنه ليس هو المقصود بيانه في الحديث، وإنما المقصود بيان جهة الفتنة إنما هي جهة المشرق، وعلى هذا اتفاق كافة أهل العلم بالحديث. وكلّ ما يمكن أن يفيده تعدّد الأمكنة التي قيل فيها الحديث هو التكرار الذي يفيد التأكيد على أن الفتنة تأتي من جهة المشرق لا غير.
قال ابن حجر رحمه اللّه: واعترض الإسماعيلي بأن ذكر المسكن لا يناسب ما قصد ـ يعنى ما قصده النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ـ في الحديث، لأنه يستوي فيه المالك والمستعين وغيرهما(30).
ب ـ أن الروايات كلّها متفقة على أن جهة الفتنة إنما هي جهة المشرق بالنسبة لمقام النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم آنذاك المدينة ومكة وما حولهما من أرض الحجاز، وإلى تلك الجهة كان يشير النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بيده، وإليها يتّجه عندما يحدث أصحابه بهذا الحديث. انظر في الروايات التي سبقت تجدها صريحة في ذلك.
والأرض التي تحدّ الحجاز شرقاً هي أرض نجد، وأرض العراق. ففيهما الفتنة، وفيها يطلع قرن الشيطان، ويؤكد هذا وأيّده الحديث الذي أخرجه البخاري عن ابن عمر والذي دعا فيه النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم أن يبارك في الشام واليمن، وأحجم عن الدعاء لنجد رغم تذكير القوم بها، وطلبهم الدعاء لها، ثم قال عليه الصّلاة والسلام عن نجد: «هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان» وكان هذا القول ردّاً على من طلب الدعاء لها وبياناً لعلة ترك الدعاء لها، ووصفاً لما يكون من حالها.
أما دخول أرض العراق في المشرق الذي تكون منه الفتنة وبه يطلع قرن الشيطان، يدل عليه الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في كتاب الفتنة، عن ابن فضيل عن أبيه قال: سمعت سالم بن عبداللّه بن عمر يقول: (يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركَبَكم للكبيرة، سمعت أبي عبداللّه بن عمر يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم يقول: «إن الفتنة تجيء من ها هنا، وأومأ بيده نحو المشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان»، وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض)(31).
ج ـ إن الموسوي قد افترى على اللّه ورسوله وخالف الأحاديث الصحيحة، حيث اعتبر موطن الفتنة المشار إليه إنما هو بيت عائشة لا جهة المشرق ـ أرض نجد والعراق ـ.
أما استدلاله على ما ذهب إليه بالرواية التي فيها: فأشار النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نحو مسكن عائشة وهو يخطب. فهو استدلال باطل واه ـ أوهى من بيت العنكبوت ـ ويعبر عن جهله وحقده. فالنبي يوم كان يخطب بأصحابه على منبره، من المحتم أنه كان متجهاً إلى الشمال ومستدبراً القبلة، وهذا أمر لا نزاع فيه بحكم اتجاه منبره عليه الصّلاة والسلام، فيوم أن أشار إلى جهة المشرق التي تظهر فيه الفتن ويطلع فيها قرنا الشيطان، فإن إشارته تكون جهة بيوت أُمهات المؤمنين حيث كانت كلّها على يمين منبره عليه الصّلاة والسّلام وشرقيّه، وهذا أمر لا يقبل جدالاً ولا مراءاً، وبيوته عليه الصّلاة والسلام ما زالت ماثلة قائمة إلى يومنا هذا في الاتجاه نفسه. والروضة بين بيته ومنبره وفيه يقول عليه الصّلاة والسلام في الحديث الصحيح «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة».
د ـ لو كانت عائشة فتنة، وفي بيتها يطلع قرنا الشيطان، فكيف يبقي الرسول عائشة زوجة له، وهو يعلم أنها فتنة؟! كيف يبقى عليها ولا يتجنبها وهو يحذّر الناس منها؟! وكيف يقبل المقام في بيت يعلم أنه يطلع منه قرنا الشيطان؟! إن هذا لعمري من أشرّ أنواع الكذب وأشدّه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، بل هو طعن في رسالته ونبوّته عليه الصّلاة والسلام، والعياذ باللّه.
كيف نوفّق بين قول الموسوي، وما ثبت من حب رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم لعائشة والانس الذي كان يجده في بيتها وفي ليلتها حتى أنه استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة، حتى مات ودفن فيه عليه الصّلاة والسّلام.
(1) أوّل سورة التحريم.
(2) جامع البيان 28 : 104.
(3) معالم التنزيل 5 : 411.
(4) معالم التنزيل 5 : 414.
(5) الكشاف 6 : 159.
(6) زاد المسير 8 : 310.
(7) تفسير القرطبي 18 : 189.
(8) الدر المنثور 8 : 213.
(9) تفسير القرطبي 18 : 177 و 179.
(10) صحيح مسلم بشرح النووي 10 : 77.
(11) تفسير القرآن العظيم 8 : 160 ـ 162، وانظر صحيح مسلم بشرح النووي 10 : 77.
(12) مسند أحمد بن حنبل 7 : 394 / 25834.
(13) زاد المسير 8 : 314.
(14) تفسير القرطبي 18 : 202، و«يحيى بن سلاّم» من علماء التفسير والقراءات، توفي سنة 200.
(15) تفسير الخازن 4 : 317.
(16) الكشاف 6 : 164.
(17) تفسير النسفي 2 : 704.
(18) تفسير الرازي 30 : 49.
(19) فتح القدير 5 : 256.
(20) روح المعاني 28 : 162 ـ 163.
(21) صحيح البخاري 2 : 342 / 3104.
(22) صحيح البخاري 4 : 440 / 7092.
(23) صحيح البخاري 4 : 440 / 7093.
(24) صحيح البخاري 4 : 440 / 7094.
(25) صحيح البخاري 4 : 431 / 7060.
(26) صحيح مسلم 4 : 657 / 2905.
(27) صحيح مسلم 4 : 658 / 47.
(28) صحيح مسلم 4 : 658 / 48.
(29) صحيح مسلم 4 : 658 / 49.
(30) فتح الباري 6 : 160.
(31) صحيح مسلم 4 : 658 / 50.