تزييف الاعتذار لهم:
قال السيد:
سلّمتم ـ سلّمكم اللّه تعالى ـ بتأخرهم في سرية أُسامة عن السير وتثاقلهم.
وسلّمتم بطلبهم من أبي بكر عزله بعد غضب النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، من طعنهم في إمارته، وخروجه بسبب ذلك محموماً معصّباً مدّثراً، وتنديده بهم في خطبته تلك على المنبر التي قلتم: إنها كانت من الوقائع التاريخية، وقد أعلن فيها كون أسامة أهلاً لتلك الإمارة.
وسلّمتم بطلبهم من الخليفة إلغاء البعث الذي بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وحلّ اللواء الذي عقده بيده الشريفة، مع ما رأوه من اهتمامه في إنفاذه، وعنايته التامة في تعجيل إرساله، ونصوصه المتوالية في وجوب ذلك.
وسلّمتم بتخلّف بعض من عبأهم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في ذلك الجيش، وأمرهم بالنفوذ تحت قيادة أسامة.
سلّمتم بكلّ هذا كما نص عليه أهل الأخبار، واجتمعت عليه كلمة المحدثين وحفظة الآثار، وقلتم إنهم كانوا معذورين في ذلك، وحاصل ما ذكرتموه عن عذرهم إنهم إنما آثروا في هذه الأُمور مصلحة الاسلام بما اقتضته أنظارهم لا بما أوجبته النصوص النبوية، ونحن ما ادّعينا ـ في هذا المقام ـ أكثر من هذا. وبعبارة أُخرى: موضوع كلامنا إنما هو في أنّهم هل كانوا يتعبدون في جميع النصوص أم لا؟ اخترتم الأوّل، ونحن اخترنا الثاني، فاعترافكم الآن بعدم تعبّدهم في هذه الأوامر يثبت ما اخترناه، وكونهم معذورين أو غير معذورين خارج عن موضوع البحث كما لا يخفى، وحيث ثبت لديكم إيثارهم في سرية أسامة مصلحة الاسلام بما اقتضته أنظارهم على التعبد بما أوجبته تلك النصوص، فلم لا تقولون أنهم آثروا في أمر الخلافة بعد النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مصلحة الاسلام بما اقتضته أنظارهم على التعبد بنصوص الغدير وأمثالها.
اعتذرتهم عن طعن الطاعنين في تأمير اسامة: بأنهم إنما طعنوا بتأميره لحداثته مع كونهم بين كهول وشيوخ، وقلتم: إن نفوس الكهول والشيوخ تأبى بجبلّتها وطبعها أن تنقاد إلى الأحداث، فلم لم تقولوا هذا بعينه فيمن لم يتعبدوا بنصوص الغدير المقتضية لتأمير علي وهو شاب على كهول الصحابة وشيوخهم، لأنهم ـ بحكم الضرورة من أخبارهم ـ قد استحدثوا سنّه يوم مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، كما استحدثوا سن اسامة يوم ولاّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عليهم في تلك السرية، وشتان بين الخلافة وأمارة السرية، فإذا أبت نفوسهم بجبلتها أن تنقاد للحدث في سرية واحدة، فهي أولى بأن تأبى أن تنقاد للحدث مدة حياته في جميع الشؤون الدنيوية والاخروية.
على أن ما ذكرتموه من أن نفوس الشيوخ والكهول تنفر بطبعها من الإنقياد للأحداث. ممنوع إن كان مرادكم الإطلاق في هذا الحكم، لأن نفوس المؤمنين من الشيوخ الكاملين في إيمانهم لا تنفر من طاعة اللّه ورسوله في الانقياد للأحداث، ولا في غيره من سائر الأشياء (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)(1)، (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(2).
(1) سورة النساء: 65.
(2) سورة النساء: 65.