بيان الإحتجاج بالوصية
بلى، ذكرها أمير المؤمنين على المنبر، وقد تلونا عليك ـ في المراجعة 104 ـ نصّه. وكلّ من أخرج حديث الدار يوم الإنذار فإنما أسنده إلى علي، وقد أوردناه سابقاً ـ في المراجعة 20 ـ وفيه النص الصّريح بوصايته وخلافته.
وخطب الإمام أبو محمد الحسن السبط سيد شباب أهل الجنة حين قتل أمير المؤمنين خطبته الغراء(1)، فقال فيها: وأنا ابن النبي، وأنا ابن الوصي.
وقال الإمام جعفر الصادق(2): كان علي يرى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت. (قال): وقال له صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: لولا أني خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوة، فإن لا تكن نبيّاً فإنك وصي نبي ووارثه.
وهذا المعنى متواتر عن أئمة أهل البيت كافة، وهو من الضروريات عندهم وعند أوليائهم، من عصر الصحابة إلى يومنا هذا، وكان سلمان الفارسي يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول: إن وصيي، وموضع سري، وخير من أترك بعدي، ينجز عدتي، ويقضي ديني، علي بن أبي طالب. وحدّث أبو أيوب الأنصاري أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول لفاطمة: أما علمت أن اللّه عز وجل اطلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبيّاً، ثم اطلع الثانية فاختار بعلك، فأوحى إليّ فأنكحته واتّخذته وصيّاً. وحدّث بريدة فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول: لكلّ نبي وصيّ ووارث، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب(3). وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا حدّث عن الإمام الباقر عليه السلام يقول ـ كما في ترجمة جابر من ميزان الذهبي ـ: حدثني وصيي الأوصياء. وخطبت أم الخير بنت الحريش البارقية في صفين تحرّض أهل الكوفة على قتال معاوية خطبتها العصماء، فكان مما قالت فيها: هلمّوا رحمكم اللّه إلى الإمام العادل، والوصي الوفي، والصديق الأكبر. إلى آخر كلامها(4).
هذا بعض ما أشاد السلف بذكر الوصية في خطبهم وحديثهم. ومن تتبع أحوالهم، وجدهم يطلقون الوصي على أمير المؤمنين إطلاق الأسماء على مسميّاتها، حتى قال صاحب تاج العروس في مادة الوصي ص 392 من الجزء العاشر من التاج: والوصي ـ كغني ـ: لقب علي رضي اللّه عنه.
أما ما جاء من ذلك في شعرهم، فلا يمكن أن يحصى في هذا الإملاء، وإنّما نذكر منه ما يتمّ به الغرض:
قال عبداللّه بن العباس بن عبدالمطلب:
وصي رسول اللّه من دون أهله *** وفارسه إن قيل هل من منازل
وقال المغيرة بن الحارث بن عبدالمطلب من أبيات يحرّض فيها أهل العراق على حرب معاوية بصفين:
هذا وصي رسول اللّه قائدكم *** وصهره وكتاب اللّه قد نشرا
وقال عبداللّه بن أبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب:
ومنّا علي ذاك صاحب خيبر *** وصاحب بدر يوم سالت كتائبه
وصي النبي المصطفى وابن عمّه *** فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه
وقال أبو الهيثم بن التيهان، وكان بدرياً، من أبيات أنشأها يوم الجمل أيضاً:
يا وصيّ النبي قد أجلت الحر *** ب الأعادي وسارت الأظعان
وقال رضي اللّه عنه:
أعائش خلّي عن علي وعيبه *** بما ليس فيه إنما أنت والده
وصي مع رسول اللّه من دون أهله *** وأنت على ما كان من ذاك شاهده
وقال عبداللّه بن بديل بن ورقاء الخزاعي، يوم الجمل، وهو من أبطال الصحابة، وقد استشهد في صفين هو وأخوه عبدالرحمن:
يا قوم للخطة العظمى التي حدثت *** حرب الوصي وما للحرب من آسي
ومن شعر أمير المؤمين في صفين:
ما كان يرضى أحمد لو أخبرا *** أن يقرنوا وصيّه والأبترا
وقال جرير بن عبداللّه البجلي الصحابي، من أبيات أرسلها إلى شرحبيل بن السمط وقد ذكر فيها عليّاً:
وصيّ رسول اللّه من دون أهله *** وفارسه الحامي به يضرب المثل
وقال عمر بن حارثة الأنصاري، من أبيات له في محمد ابن أمير المؤمنين المعروف بابن الحنفية:
سمي النبي وشبه الوصي *** ورايته لونها العندم
وقال عبدالرحمن بن جعيل، إذ بايع الناس عليّاً بعد عثمان:
لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة *** على الدين معروف العفاف موفقا
عليّاً وصيّ المصطفى وابن عمه *** وأول من صلّى أخا الدين والتقى
وقال رجل من الأزد يوم الجمل:
هذا علي وهو الوصي *** آخاه يوم النجوة النبي
وقال هذا بعدي الولي *** وعاه واع ونسى الشقي
وخرج يوم الجمل شاب من بني ضبّة معلم من عسكر عائشة، وهو يقول:
نحن بنو ضبة أعداء علي *** ذاك الذي يعرف قدماً بالوصي
وفارس الخيل على عهد النبي *** ما أنا عن فضل علي بالعمي
لكنني أنعى ابن عفان التقي
وقال سعيد بن قيس الهمداني يوم الجمل، وكان مع علي:
أيّة حرب أضرمت نيرانها *** وكسّرت يوم الوغى مرانها
قل للوصي أقبلت قحطانها *** فادع بها تكفيكها همدانها
هم بنوها وهم إخوانها
وقال زياد بن لبيد الأنصاري يوم الجمل، وكان من أصحاب علي:
كيف ترى الأنصار في يوم الكلب *** إنا أناس لا نبالي من عطب
ولا نبالي في الوصي من غضب *** وإنما الأنصار جدّ لا لعب
هذا علي وابن عبدالمطلب *** ننصره اليوم على من قد كذب
من يكسب البغي فبئس ما اكتسب
وقال حجر بن عدي الكندي في ذلك اليوم أيضاً:
يا ربّنا سلّم لنا عليّاً *** سلّم لنا المبارك المضيّا
المؤمن الموحّد التقيّا *** لا خطل الرأي ولا غويّا
بل هادياً موفقاً مهديّا *** واحفظه ربي واحفظ النبيّا
فيه فقد كان له وليّا *** ثم ارتضاه بعده وصيّا
وقال عمر بن احجية يوم الجمل في خطبة الحسن بعد خطبة ابن الزبير:
حسن الخير يا شبيه أبيه *** قمت فينا مقام خير خطيب
قمت بالخطبة التي صدع اللّـ *** ـه بها عن أبيك أهل العيوب
لست كابن الزبير لجلج في القو *** ل وطاطا عنان فسل مريب
وأبى اللّه أن يقوم بما قا *** م به ابن الوصي وابن النجيب
إن شخصاً بين النبي لك الخيـ *** ـر وبين الوصي غير مشوب
وقال زحر بن قيس الجعفي يوم الجمل أيضاً:
أضربكم حتى تقرّوا لعلي *** خير قريش كلّها بعد النبي
من زانه اللّه وسمّاه الوصي
وقال زحر بن قيس يوم صفين:
فصلّى الإله على أحمد *** رسول المليك تمام النعم
رسول المليك ومن بعده *** خليفتنا القائم المدعم
عليّاً عنيت وصيّ النبي *** يجالد عنه غواة الأُمم
وقال الأشعث بن قيس الكندي:
أتانا الرسول رسول الامام *** فسرّ بمقدمه المسلمونا
رسول الوصي وصي النبي *** له السبق والفضل في المؤمنينا
وقال أيضاً:
أتانا الرسول رسول الوصي *** علي المهذب من هاشم
وزير النبي وذي صهره *** وخير البرية والعالم
وقال النعمان بن العجلان الزرقي الأنصاري في صفين:
كيف التفرق والوصي إمامنا *** لا كيف إلا حيرة وتخاذلا
فذروا معاوية الغوي وتابعوا *** دين الوصي لتحمدوه آجلا
وقال عبدالرحمن بن ذؤيب الأسلمي، من أبيات يهدد فيها معاوية بجنود العراق:
يقودهم الوصي إليك حتى *** يردك عن ضلال وارتياب(5)
وقال عبداللّه بن أبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب:
إن ولي الأمر بعد محمد *** علي وفي كلّ المواطن صاحبه
وصي رسول اللّه حقاً وصنوه *** وأول من صلّى ومن لان جانبه
وقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين:
وصي رسول اللّه من دون أهله *** وفارسه مذ كان في سالف الزمن
وأوّل من صلّى من الناس كلّهم *** سوى خيرة النسوان واللّه ذو منن
وقال زفر بن حذيفة الأسدي:
فحوطوا علياً وانصروه فإنه *** وصي وفي الاسلام أول أول(6)
وقال أبو الأسود الدؤلي:
أحب محمداً حباً شديداً *** وعباساً وحمزة والوصيا
وقال النعمان بن العجلان، وكان شاعر الأنصار وأحد ساداتهم، من قصيدة له(7)يخاطب فيها ابن العاص:
وكان هواناً في علي وإنه *** لأهل لها يا عمرو من حيث تدري ولا تدري
فذاك بعون اللّه يدعو إلى الهدى *** وينهى عن الفحشاء والبغي والنكر
وصي النبي المصطفى وابن عمه *** وقاتل فرسان الضلالة والكفر
وقال الفضل بن العباس من أبيات له(8):
ألا إن خير الناس بعد نبيهم *** وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر
وأول من صلّى وصنو نبيه *** وأول من أردى الغواة لدى بدر
وقال حسان بن ثابت من أبيات(9) يمدح فيها علياً بلسان الأنصار كافة:
حفظت رسول اللّه فينا وعهده *** إليك ومن أولى به منك من ومن
ألست أخاه في الهدى ووصيه *** وأعلم منهم بالكتاب وبالسنن؟
وقال بعض الشعراء يخاطب الحسن بن علي عليهما السلام:
يا أجلّ الأنام يا ابن الوصي *** أنت سبط النبي وابن علي(10)
وقالت أُم سنان بنت خيثمة بن خرشة المذحجية، من أبيات(11) تخاطب فيها علياً وتمدحه:
قد كنت بعد محمد خلفاً لنا *** أوصى إليك بنا فكنت وفيّا
هذا ما نالته يد العجالة ووسعه ذرع هذا الإملاء من الشعر المنظوم في هذا المعنى على عهد أمير المؤمنين، ولو تصدينا للمتأخر عن عصره لأخرجنا كتاباً ضخماً، ثم اعترفنا بالعجز عن الاستقصاء، على أن استيعاب ما قيل في ذلك مما يوجب الملل، وقد نخرج به عن الموضوع الأصلي، إذن، فلنكتف باليسير من كلام المشاهير، ولنجعله مثالاً لسائر ما قيل في هذا المعنى:
قال الكميت بن زيد في قصيدته الميمية الهاشمية:
والوصي(12) الذي أمال التجوبي *** به عرش امة لانهدام
كان أهل العفاف والمجد والخيـ *** ـر ونقض الأُمور والإبرام
والوصي الولي(13) والفارس المعـ *** ـلم تحت العجاج غير الكهام
ووصي الوصي ذي الخطبة الفصـ *** ـل ومردي الخصوم يوم الخصام
وقال كثير بن عبدالرحمن بن الأسود بن عامر الخزاعي، ويعرف بكثير عزة:
وصي النبي المصطفى وابن عمه *** وفكاك أعناق وقاضي مغارم
وقال أبو تمام الطائي من قصيدته الرائية(14):
ومن قبله أحلفتم لوصيه *** بداهية دهياء ليس لها قدر
فجئتم بها بكراً عواناً ولم يكن *** لها قبلها مثلاً عوان ولا بكر
أخوه إذا عدّ الفخار وصهره *** فلا مثله أخ ولا مثله صهر
وشدّ به أزر النبي محمد *** كما شدّ من موسى بهارونه الأزر
وقال دعبل بن علي الخزاعي في رثاء سيد الشهداء:
رأس ابن بنت محمد ووصيه *** يا للرجال على قناة يرفع
وقال أبو الطيب المتنبي ـ إذ عوتب على تركه مديح أهل البيت كما في ديوانه ـ:
وتركت مدحي للوصي تعمّداً *** إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا
وإذا استطال الشيء قام بنفسه *** وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا
وقال يمدح أبا القاسم طاهر بن الحسين بن طاهر العلوي، كما في ديوانه أيضاً:
هو ابن رسول اللّه وابن وصيه *** وشبههما شبهت بعد التجارب
إلى ما لا يحصى ولا يستقصى من أمثال هذا.
فقيل:
لقد بدا من المراجعة رقم 101 المنسوبة إلى الشيخ البشري أنه قد تقبّل أُصول الرافضة على النحو الذي عرضه الموسوي، وكأنه بات يتهيأ لخلع ثياب أهل السنة والجماعة، ليستبدلها بثياب الرفض كما فصلها الموسوي في مراجعاته، والعياذ باللّه.
وحينئذ تخطر على قلب البشري شبهة يسارع إلى عرضها على الموسوي، يفصح عنها بسؤاله له: لِمَ لَمْ يحتج الامام يوم السقيفة بنصوص الخلافة والوصية التي تعكف الرافضة عليها؟.
ويأتي هذا السؤال بمثابة صفعة قوية مفاجئة للموسوي، فيجيب عليه بأكاذيب يناقض بعضها بعضاً.
ففي المراجعة 102 أجاب أولاً بما يفيد عدم وقوع الاحتجاج من علي رضي اللّه عنه، وعلل ذلك بتعليلات كاذبة:
أحدها: أنه لم يشهد البيعة، ولا دخل السقيفة، لانشغاله وبني هاشم في تجهيز النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم وتكفينه ودفنه.
وجوابه: إن البيعة وقعت في يومين متتاليين، بيعة أهل الحلّ والعقد من المهاجرين والأنصار كانت يوم الإثنين الذي توفي فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم في سقيفة بني ساعدة، وبيعة العامة من المهاجرين والأنصار كانت في اليوم الثاني لوفاته عليه الصّلاة والسلام في مسجد الرسول صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم.
وكلا البيعتين وقعتا في المدينة على مقربة من الحجرات الطاهرة التي توفي فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، الأمر الذي يسهِّل على عليّ رضي اللّه عنه أن يظهر احتجاجه في المكانين، لقربهما من المكان الذي هو مشغول فيه.
ولو قدر أنه لشدة انشغاله لم يتمكن من الحضور لإعلان احتجاجه، فكان الواجب عليه شرعاً أن يظهر للصحابة هذه الوصية الواجبة بنفسه، فإن لم يستطع فله أن يستعين بغيره من بني هاشم لينوب عنه في إظهارها. لكنه رضي اللّه عنه لم يفعل ذلك كله، وسكت في وقت لا يصح له السكوت فيه مع وجود الوصية، الأمر الذي يدلّ على أنه لا وصية بالخلافة لعلي ولا لغيره من الصحابة رضي اللّه عنهم.
ثانياً: أنه ترك الاحتجاج إيثاراً للمصلحة، فهذا باطل أيضاً حتى عند الموسوي، إذ عاب على أبي بكر وعمر أُموراً هي من مثل ما وقع من علي رضي اللّه عنه. انظر كلامه في ما أسماه برزية يوم الخميس، وسرية أُسامة، وقتل المارق. ولم يقبل الأعذار فيها، وحكم عليهم بعدم التعبد بأوامر النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم فيما يتعلق بجانب السياسة والحكم مقدمين في ذلك المصلحة.
وعليّ رضي اللّه عنه عطّل نص الوصية أيضاً، ولم يظهر في وقت الحاجة تقديماً للمصلحة، فلماذا لا يعاب عليه كما أعاب الموسوي على أبي بكر وعمر.
ثالثاً: لقد نقلنا في ردّنا على المراجعة 79 و 80 من كلام المحدّثين والمحققين من أهل العلم بما يغني من إعادته هنا، من أن علياً قد بايع أبا بكر طائعاً مختاراً، ونقلنا من كلامهم الحوار الذي دار بين أبي بكر وعليّ وعذر علي في تأخير بيعته، واعترافه بفضل أبي بكر وأحقيته في الخلافة.
أما أنه أكره على البيعة إكراهاً، فهذا ما لا ذكر له في كتاب من الكتب المعتبرة عند أهل العلم.
رابعاً: أما اعتذاره لعدم الاحتجاج، بأن أولي الأمر أعلنوا ما يسمّى في زماننا بالأحكام العرفية، ومنعوا الناس من الكلام والتعبير عن آرائهم أو التحدث بما ثبت عن النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، فهذا محض افتراء وكذب واعتماد منه على قياس الماضي بالحاضر ليس إلاّ، قائلاً: فقس الماضي على الحاضر، فالناس ناس، والزمان زمان، ولا يخفى فساد هذا القياس من الناحيتين العقلية والشرعية، وفيه ما فيه من المعارضة للعقل والمنطق السليم، ولما ثبت في الأحاديث الصحيحة «ما من يوم يأتي إلاّ والذي بعده شر منه» فهل ساوى النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بين الأيام والأزمان في هذا الحديث؟!! وهل ساوى النبي بين أهل بدر وغيرهم من الصحابة، وهل جعل القرون كلّها واحد عندما قال: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».
وفي المراجعة 102 عاد وناقض نفسه عندما زعم أن عليّاً والعترة الطاهرة رضي اللّه عنهم نشروا نصوص الخلافة بين الصحابة والتابعين معبّرين بذلك عن احتجاجهم ولكن بأسلوب حكيم، وكان من قبل ذلك قد قرّر أنهم لم يحتجوا والتمس لهم الأعذار في ذلك. إنه لتناقض مخجل يخجل منه الجهلاء قبل العلماء.
وفي المراجعات ذات العدد الزوجي 104، 106، 108 يبدو فيها أن جعبة الموسوي خلت من السهام المسمومة التي كان يوجهها إلى حملة رسالة النبوة وحماتها، ومثبتي دعائمها أبو(15)بكر وعمر رضي اللّه عنهما، ومعين الكذب عنده بدأ ينضب، فراح يقتطع أجزاء من الخطب المنسوبة كذباً إلى علي رضي اللّه عنه، وفاطمة الزهراء رضي اللّه عنها، وابن عباس، والحسن والحسين رضي اللّه عنهم، في كتاب نهج البلاغة، وهو كتاب غني عن التعريف.
كما راح يعيد أحاديثاً(16) سبق له الاحتجاج بها وسبق لنا الردّ عليها، فاستشهد في حديث الوليمة التي أولمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم في دار عمّه يوم نزل قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين) وسبق لنا الردّ عليه في الردّ على المراجعة 20، وبحديث غدير خم «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» وقد مضى الردّ عليه في الردّ على المراجعة 23، 24، 56.
وفي المراجعة 108 عاد الموسوي إلى الاحتجاج بالوصية، مستدلاًّ بالخطبة الشقشقية المنسوبة كذباً إلى علي رضي اللّه عنه في نهج البلاغة. وكلّ ما جاء في هذه الخطبة المزعومة يتعارض مع خطبته يوم أن ولي الخلافة، فقد روى الطبري (6 : 157 و 1 : 3077) جزءاً منها، قال علي: «أيها الناس عن ملأ وأُذن، إن هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق إلاّ من أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر (أي على البيعة له) فإن شئتم قعدتُ لكم، وإلاّ فلا أجد على أحد» وبذلك أعلن أنه لا يستمدّ الخلافة من شيء سبق، بل يستمدّها من البيعة إذا ارتضتها الأمة.
وقد مضى الرد على صحة هذه الوصية عند كلامنا على المراجعة رقم 20 فليراجع.
أما ما أخرجه الحاكم في مستدركه من خطبة الحسن بن علي يوم مقتل أبيه، فلا صحّة لها كما حكم بذلك الذهبي في تلخيصه 3 : 172، ولا صحّة لما أورده الموسوي عن جعفر الصادق: كان علي يرى مع رسول اللّه قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت. وكذا حديث: لولا أني خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوة فإن لا تكن نبياً فوصي نبي. فهي أقوال لا أصل لها في كتب السنة المعروفة، وليس لها سند معروف.
أما حديث بريدة، فقد مضى الكلام عليه في الرد على المراجعة 68 فليراجع.
أما قول الموسوي: ومن تتبع أحوال السلف وجدهم يطلقون الوصي على أمير المؤمنين علي إطلاق الأسماء على مسمياتها، فإنه محض كذب وافتراء، فإن وصف علي بأنه (وصي) ما عرف إلاّ في أواخر خلافة عثمان بن عفان سنة 30، ولم يعرفه أحد من قبل هذا، والذي اخترعه هو ابن سبأ باتفاق أهل السنة والرافضة.
فقد نقل المامقاني في ترجمة عبداللّه بن سبأ من كتابه (تنقيح المقال في أحوال الرجال 2 : 184) وهو أبسط كتب الرافضة وأهمها في الجرح والتعديل: أن الكشي ـ من كبار علماء الرافضة ـ قال ما نصه: (وذكر أهل العلم أن عبداللّه بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً، وكان يقول ـ وهو على يهوديته ـ في يوشع بن نون (وصي موسى)، فقال في اسلامه ـ بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ـ في علي مثل ذلك (أي أن دعوى كون علي وصي محمد صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم اختراع يهودي حدث بعد النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ـ وكان (أي عبداللّه بن سبأ) أول من شهر القول بإمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه وكفرهم، فمن هنا قال من خالف الشيعة: إن أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهود) انتهى بنصه عن إمامهم الكشي، انظر مختصر التحفة الاثني عشرية: 299.
أقول:
كان حاصل التحقيق في أمر السقيفة وما جرى فيها على ضوء كتب القوم وأخبارهم المعتبرة: أنّ بيعة أبي بكر كانت بالقهر والغلبة، فلا نصّ ولا أفضلية ولا اتّفاق من المسلمين….
ثمّ رأينا ما فعلوا برئيس الأنصار سعد بن عبادة، وأنهم لم يتركوه حتى قتلوه.
ورأينا ما كان منهم بالنسبة إلى بيت الزهراء الطاهرة ومن فيه من بني هاشم والمهاجرين كطلحة والزبير وأمثالهما، والأنصار كخزيمة بن ثابت والبراء بن عازب وأمثالهما… الذين لم يحضروا السقيفة وتخلّفوا عن بيعة أبي بكر….
فهل كان ينفع الاحتجاج في مثل تلك الظروف؟
بل إنّ الامام عليه السلام لم ير للاحتجاج عليهم يومئذ أثراً إلاّ الفتنة، التي كان يؤثر ضياع حقّه على حصولها في تلك الظروف….
إذن… رأى عليه الصّلاة والسلام أن الصّبر أحجى….
لكنّ مجرّد عدم حضوره للبيعة تلك المدّة، وعدم أمره لبني هاشم وغيرهم من المهاجرين والانصار بالبيعة مع أبي بكر، ثم وفاة الصديقة الطاهرة بلا بيعة معه… هو احتجاجٌ قويٌّ ليس لهم عنه جوابٌ، لأنّه لو قدّر أنه لشدّة انشغاله بأمر النبي صلّى اللّه عليه وآله ثم بجمع القرآن، لم يتمكّن من الحضور للبيعة، فهلاّ أمر الزهراء الطاهرة؟ وهلاّ أمر بني هاشم العبّاس وغيره؟ وهلاّ أمر من كان من المهاجرين والأنصار بأمره؟
ألم يقل النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ في الحديث المتفق عليه ـ بأنّ من مات من بات ليلةً وليس في عنقه بيعة… فمات، فميتته ميتة جاهليّة؟ أكان الامام عليه السلام يجهل هذا؟ أكان أصحابه جاهلين بهذا؟
وهل ماتت الزهراء ـ ولم تبايع أبا بكر ـ ميتة جاهلية ـ والعياذ باللّه؟ فلماذا لم يبايع؟ ولماذا لم يبايعوا؟ ولماذا لم تبايع بضعة الرسول الطاهرة؟
لقد احتجّ الإمام عليه السّلام، واحتجّت الزهراء، واحتجّ بنو هاشم، واحتج أهل الحلّ والعقد من المهاجرين والأنصار كالزبير وطلحة وغيرهم… لأنّ مجرَّد عدم الحضور للبيعة احتجاج ليس فوقه احتجاج!
فهو عليه السلام ـ وأتباعه ـ لم يتركوا الاحتجاج، إلاّ أنهم رجّحوا هذه الطريقة من الإحتجاج على غيرها من الطرق، بمقتضى الظروف والأحوال المحيطة بهم، حتى حملوا على البيعة وأُكرهوا عليها… كما قرأنا عن المصادر الحديثية والتاريخية المعتبرة عند أهل السنة.
نعم، كان أُسلوب احتجاجهم في بادىء الأمر أُسلوب المقاطعة الهادئة….
حتى إذا تغيّرت الظروف، وتبدّلت الأحوال، ووجد المجال واجتمع حوله الرجال، جعل يعلن عن عدم رضاه ببيعة أبي بكر ثم بيعة عمر، وينشر النصوص الصحيحة، ويذكّر الناس بأقوال الرسول الصريحة، بل جعل يناشد من حضر من الصحابة ما سمعوه ووعوه عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في حقّه… كما تقدّم طرف من ذلك في المراجعات المتعلّقة بحديث غدير خم وغيرها.
كما أنّ الزهراء الطّاهرة عليها السّلام قد احتجّت على القوم يوم خاطبتهم مطالبةً بفدك وغير فدك ممّا اغتصب منها….
وابن عبّاس متى وجد الفرصة تكلّم في ذلك، كالمحاورة التي جرت بينه وبين عمر، التي رواها الطبري وابن الأثير(17) وغيرهما، وقد أوردها ـ كغيرها ـ السيد رحمه اللّه.
وللإمام المجتبى والسبط الأكبر مواقف في ذلك، أشار السيد رحمه اللّه إلى بعضها، ولم يتكلّم الخصم إلاّ على خطبته عليه السلام يوم مقتل أمير المؤمنين، هذه الخطبة التي تكلّمنا حولها وأوضحنا أسانيدها في كتب القوم في ذيل مباحث قوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجراً الا المودّة في القربى) فليراجع من شاء.
كما بحثنا فيما سبق عن أحاديث الوصيّة بشيء من التفصيل، فلا نعيد.
وقول جابر بن يزيد الجعفي، نقله السيّد عن الذهبي في ميزان الإعتدال ولم يتعرّض الخصم للجواب عنه!
كما لم يتعرّض لمطالب أُخرى ذكرها السيّد قدس سره.
وأمّا زعمه الخصم أخيراً من أنّ وصف علي بأنه «وصيّ» اخترعه ابن سبأ باتّفاق أهل السنة والرافضة، واستشهد لهذا الزعم بكلام الشيخ المامقاني في تنقيح المقال عن الكشي، فنقل الكلام قائلاً: «قال ما نصّه: وذكر أهل العلم…».
فقد راجعنا تنقيح المقال في الجزء والصفحة ـ كما ذكر ـ ووجدنا النصّ هكذا: «وذكر أهل العلم أنّ عبداللّه بن سبأ كان يهوديّاً فأسلم ووالى علياً عليه السلام، وكان يقول ـ وهو على يهوديته ـ في يوشع بن نون وصيّ موسى ـ على نبيّنا وآله وعليهما السلام ـ بالغلو، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول اللّه في علي مثل ذلك، وكان أوّل من شهر القول بفرض إمامة علي وأظهر البرائة من أعدائه وكاشف مخالفيه وكفّرهم، فمن هنا قال من خالف الشيعة أنّ أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهود» انتهى.
فانظر رحمك اللّه أيها القارىء، كيف يتصرّف النواصب في الكلمات لإنكار الحقائق!!
لقد أسقط هذا المفتري كلمة «الغلّو» من العبارة، وجعل كلمة «مثل ذلك» متعلّقة بكون علي وصيّ محمّد!!
لقد حرّف الكلام… ثم قال: «انتهى بنصّه عن إمامهم الكشي».
إنّ أمثال هذا التحريف كثيرة جدّاً، وإنّ هذا المورد منها بوحده ليكفي لمعرفة أمانة النواصب وديانتهم… فتّباً وتعساً لمذهب أُسّس منذ اليوم الأول على الكذب والخيانة والتحريف!!
* * *
(1) اخرجه الحاكم في ص 172 ج 3 من صحيحه المستدرك.
(2) كما في ص 210 ج 13 من شرح نهج البلاغة في آخر شرح الخطبة القاصعة.
(3) حديث بريدة هذا، وحديثا أبي أيوب وسلمان المتقدمان أوردناهما في المراجعة 68.
(4) أخرجه الإمام أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر البغدادي في ص 54 من كتاب بلاغات النساء، بسنده إلى الشعبي.
(5) هذا البيت وجميع ما قبله من الأشعار والأراجيز، مذكورة في كتب السير والأخبار، ولا سيما المختصة منها بوقعتي الجمل وصفين، ونقلها بأجمعها العلامة المتتبع ابن أبي الحديد في ص 143 وما بعدها إلى ص 150 ج 1 من شرح نهج البلاغة، طبع مصر، وذلك حيث شرح خطبة أمير المؤمنين المشتملة على ذكر آل محمد وقوله فيهم: ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة. وبعد نقل هذه الأشعار والأراجيز قال ما هذا لفظه: والأشعار التي تتضمن هذه اللفظة «الوصية» كثيرة جداً، ولكنا ذكرنا منها هاهنا بعض ما قيل في هذين الحزبين ـ يعني كتاب وقعة الجمل لأبي مخنف وكتاب نصر بن مزاحم في صفين ـ (قال): فأما ما عداهما فانه يجلّ عن الحصر، ويعظم عن الإحصاء والعد، ولولا خوف الملالة والاضجار لذكرنا من ذلك ما يملأ اوراقاً كثيرة. اهـ.
(6) إن بيت زفر هذا، وبيتي خزيمة السابقين عليه، وبيتي عبداللّه بن أبي سفيان المتقدمين عليهما، قد رواها عنهم الإمام الاسكافي في كتابه نقض العثمانية، ونقلها ابن أبي الحديد في آخر شرح الخطبة القاصعة ص 232 وما بعدها من المجلد الثالث عشر من شرح النهج طبع مصر.
(7) ذكرها الزبير بن بكار في الموفقيات، ونقلها علامة المعتزلة ص 31 ج 6 من شرح النهج، لكن ابن عبدالبر اورد هذه القصيدة في ترجمة النعمان من الإستيعاب، فحذف محل الشاهد منها (وكذلك يفعلون).
(8) اوردها ابن الأثير في آخر احوال عثمان ص 189 ـ 190 ج 3 من تاريخه الكامل، غير انه قال: ألا ان خير الناس بعد ثلاثة. البيت.
(9) اوردها الزبير بن بكار في الموفقيات، ونقلها ابن أبي الحديد ص 35 ج 6 من شرح النهج.
(10) نقله الشيخ محمد حشيشو الحنفي الصيداوي في هامش ص 65 من كتابه: آثار ذوات السوار، اذ ذكر غانمة بنت عامر ومعاوية، وانها انشدت هذا البيت أمام معاوية في كلام جابهته فيه.
(11) ذكرها الإمام أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر البغدادي حين ذكر ام سنان في ص 80 من بلاغات النساء، ونقلها ايضاً عن ام سنان الشيخ محمد علي حشيشو الحنفي في آخر ص 78 من آثار ذوات السوار.
(12) قال العلامة الشيخ محمد محمود الرافعي حين انتهى إلى شرح هذا البيت من شرحه هاشميات الكميت: المراد به علي كرمه اللّه وجهه، سمي وصياً لأن رسول اللّه أوصى إليه، فمن ذلك ما روي عن ابن بريدة عن أبيه مرفوعاً انه قال: لكل نبي وصي وان علياً وصيي ووارثي (قال) واخرج الترمذي عن النبي انه قال: من كنت مولاه فعلي مولاه (قال) وروى البخاري عن سعد: ان رسول اللّه خرج إلى تبوك واستخلف علياً، فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى ألا انه لا نبي بعدي (قال) قال ابن قيس الرقيات:
نحن منا النبي احمد والصـ *** ـديق منا التقي والحكماء
وعلي وجعفر ذو الجنا *** حين هناك الوصي والشهداء
(قال): وهذا شيء كانوا يقولونه ويكثرون فيه، ثم استشهد على ذلك بما نقلناه في الأصل عن كثير عزة.
(13) قال الشارح محمد محمود الرافعي ما هذا لفظه: يعني ولي العهد بعد رسول اللّه.
(14) التي مطلعها ـ أظبية حيث استنت الكثب العفر ـ وهي في ديوانه.
(15) كذا.
(16) كذا.
(17) تاريخ الطبري 4 : 223، الكامل 3 : 63 حوادث سنة 23.