* الجمع بين ثبوت النص وحملهم على الصحة.
* الوجه في قعود الإمام عن حقّه.
* أفادتنا سيرة كثير من الصحابة أنهم إنما كانوا يتعبدّون بالنصوص إذا كانت متمحضة للدين، مختصة بالشؤون الأُخروية، كنصّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على صوم شهر رمضان دون غيره، واستقبال القبلة في الصلاة دون غيرها، ونصّه على عدد الفرائض في اليوم والليلة، وعدد ركعات كلّ منها وكيفيّاتها، ونصّه على أن الطواف حول البيت أسبوع، ونحو ذلك من النصوص المتمحضة للنفع الأُخروي.
أما ما كان منها متعلّقاً بالسياسة، كالولايات والإمارات وتدبير قواعد الدولة، وتقرير شؤون المملكة وتسريب الجيش، فإنهم لم يكونوا يرون التعبّد به والإلتزام في جميع الأحوال بالعمل على مقتضاه، بل جعلوا لأفكارهم مسرحاً للبحث ومجالاً للنظر والإجتهاد، فكانوا إذا رأوا في خلافه رفعاً لكيانهم، أو نفعاً في سلطانهم، عدلوا عنه إلى ما يرفع كيانهم أو ينفع سلطانهم، ولعلّهم كانوا يحرزون رضا النبي بذلك، وكان قد غلب على ظنّهم أن العرب لا تخضع لعلي ولا تتعبّد بالنص عليه إذ وترها في سبيل اللّه، وسفك دماءها بسيفه في إعلاء كلمة اللّه، وكشف القناع منابذاً لها في نصرة الحق، حتى ظهر أمر اللّه على رغم كلّ عاتي كفور، فهم لا يطيعونه إلاّ عنوة، ولا يخضعون للنص عليه إلاّ بالقوّة، وقد عصبوا به كلّ دم أراقه الإسلام أيام النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، جرياً على عادتهم في أمثال ذلك، إذ لم يكن بعد النبي في عشيرته صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أحد يستحق أن تعصب به تلك الدماء عند العرب غيره، لأنهم إنما كانوا يعصبونها في أمثل العشيرة، وأفضل القبيلة، وقد كان هو أمثل الهاشميين، وأفضلهم بعد رسول اللّه، لا يدافع ولا ينازع في ذلك، ولذا تربص العرب به الدوائر وقلّبوا له الأُمور، وأضمروا له ولذريّته كلّ حسيكة، ووثبوا عليهم كلّ وثبة، وكان ما كان مما طار في الأجواء وطبق رزؤه الأرض والسماء.
وأيضاً، فإن قريشاً خاصّة والعرب عامّة، كانت تنقم من علي شدّة وطأته على أعداء اللّه، ونكال وقعته فيمن يتعدى حدود اللّه، أو يهتك حرماته عزّ وجلّ، وكانت ترهب من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وتخشى عدله في الرعيّة، ومساواته بين الناس في كلّ قضية، ولم يكن لأحد فيه مطمع، ولا عنده لأحد هوادة، فالقوي العزيز عنده ضعيف ذليل حتى يأخذ منه الحق، والضعيف الذليل عنده قوي عزيز حتى يأخذ له بحقه، فمتى تخضع الأعراب طوعاً لمثله وهم (أشد كفراً ونفاقاً وأجدر أَلاَّ يعلموا حدود ما أنزل اللّهُ على رسوله) (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) وفيها بطانة لا يألونهم خبالاً.
وأيضاً، فإن قريشاً وسائر العرب، كانوا يحسدونه على ما آتاه اللّه من فضله، حيث بلغ في علمه وعمله رتبة ـ عند اللّه ورسله وأولي الألباب ـ تقاصر عنها الأقران وتراجع عنها الأكفّاء، ونال من اللّه ورسوله بسوابقه وخصائصه منزلة تشرئب إليها أعناق الأماني وشأواً تنقطع دونه هوادي المطامع، وبذلك دبّت عقارب الحسد له في قلوب المنافقين، واجتمعت على نقض عهده كلمة الفاسقين والناكثين والقاسطين والمارقين، فاتّخذوا النص ظهريّاً، وكان لديهم نسياً منسيّاً.
فكان ما كان مما لست أذكره *** فظنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر
وأيضاً، فإن قريشاً وسائر العرب، كانوا قد تشوّقوا إلى تداول الخلافة في قبائلهم واشرأبّت إلى ذلك أطماعهم، فأمضوا نياتهم على نكث العهد، ووجّهوا عزائمهم إلى نقض العقد، فتصافقوا على تناسي النص، وتبايعوا على أن لا يذكر بالمرّة، وأجمعوا على صرف الخلافة من أوّل أيّامها عن وليّها المنصوص عليه من نبيّها، فجعلوها بالانتخاب والاختيار، ليكون لكلّ حيّ من أحيائهم أمل في الوصول إليها ولو بعد حين، ولو تعبّدوا بالنص فقدّموا عليّاً بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، لما خرجت الخلافة من عترته الطاهرة، حيث قرنها يوم الغدير وغيره بمحكم الكتاب، وجعلها قدوة لأُولي الألباب إلى يوم الحساب، وما كانت العرب لتصبر على حصر الخلافة في بيت مخصوص ولا سيما بعد أن طمحت إليها الأبصار من جميع قبائلها، وحامت عليها النفوس من كلّ أحيائها.
لقد هزلت حتى بدا من هزالها *** كلاها وحتى استامها كلّ مفلس
وأيضاً، فإن من ألمّ بتاريخ قريش والعرب في صدر الإسلام، يعلم أنهم لم يخضعوا للنبوّة الهاشميّة إلاّ بعد أن تهشموا ولم يبق فيهم من قوة، فكيف يرضون باجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم، وقد قال الإمام عمر لابن عباس في كلام دار بينهما: إن قريشاً كرهت أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة فتجحفون على الناس(1).
* والسلف الصالح لم يتسنّ له أن يقهرهم يومئذ على التعبد بالنص، فرقاً من انقلابهم إذا قاومهم، وخشية من سوء عواقب الاختلاف في تلك الحال، وقد ظهر النفاق بموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وقويت بفقده شوكة المنافقين، وعتت نفوس الكافرين، وتضعضعت أركان الدين، وانخلعت قلوب المسلمين، وأصبحوا بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، بين ذئاب عادية ووحوش ضارية، وارتدّت طوائف من العرب، وهمّت بالردّة أُخرى، كما فصّلناه في المراجعة 82. فأشفق علي في تلك الظروف أن يظهر إرادة القيام بأمر الناس مخافة البائقة وفساد العاجلة، والقلوب على ما وصفنا والمنافقون على ما ذكرنا، يعضّون عليهم الأنامل من الغيظ، وأهل الردّة على ما بيّنا، والأُمم الكافرة على ما قدّمنا، والأنصار قد خالفوا المهاجرين، وانحازوا عنهم يقولون: منّا أمير ومنكم أمير. و. و. فدعاه النظر للدين إلى الكفّ عن طلب الخلافة، والتجافي عن الأمور، علماً منه أن طلبها والحال هذه، يستوجب الخطر بالأُمة، والتغرير في الدين، فاختار الكفّ إيثاراً للإسلام، وتقديماً للصالح العام، وتفضيلاً للآجلة على العاجلة.
غير أنه قعد في بيته ـ ولم يبايع حتى أخرجوه كرهاً ـ احتفاظاً بحقّه، واحتجاجاً على من عدل عنه، ولو أسرع إلى البيعة ما تمّت له حجّة ولا سطح له برهان، لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين والإحتفاظ بحقّه من إمرة المؤمنين، فدلّ هذا على أصالة رأيه، ورجاحة حلمه، وسعة صدره، وإيثاره المصلحة العامة، ومتى سخت نفس امرئ عن هذا الخطب الجليل، والأمر الجزيل، ينزل من اللّه تعالى بغاية منازل الدين، وإنما كانت غايته مما فعل أربح الحالين له، وأعود المقصودين عليه، بالقرب من اللّه عزّ وجلّ.
أما الخلفاء الثلاثة وأولياؤهم، فقد تأوّلوا النص عليه بالخلافة للأسباب التي قدّمناها، ولا عجب منهم في ذلك بعد الذي نبّهناك إليه من تأوّلهم واجتهادهم في كلّ ما كان من نصوصه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، متعلّقاً بالسياسات والتأميرات، وتدبير قواعد الدولة وتقرير شؤون المملكة، ولعلّهم لم يعتبروها كأُمور دينيّة، فهان عليهم مخالفته فيها، وحين تمّ لهم الأمر، أخذوا بالحزم في تناسي تلك النصوص، وأعلنوا الشدّة على من يذكرها أو يشير إليها، ولمّا توفقوا في حفظ النظام، ونشر دين الإسلام، وفتح الممالك، والاستيلاء على الثروة والقوّة، ولم يتدنّسوا بشهوة، علا أمرهم، وعظم قدرهم، وحسنت بهم الظنون وأحبّتهم القلوب، ونسج الناس في تناسي النص على منوالهم، وجاء بعدهم بنو أُمية ولا همّ لهم إلاّ اجتياح أهل البيت واستئصال شأفتهم، ومع ذلك كلّه، فقد وصل إلينا من النصوص الصريحة، في السنن الصحيحة، ما فيه الكفاية، والحمد للّه.
فقيل:
احتج البشري على خلافة الصدّيق بإجماع الأُمّة. جاء ذلك في المراجعة (79)، وفي المراجعة التي تليها، رقم (80) نفى الموسوي هذا الإجماع، مدّعياً أن خلافة أبي بكر تمّت بمبايعة نفر من الأُمة، قامت فيما بعد بإكراه أهل الحلّ والعقد على البيعة لمن بايعوه خليفة عليهم ـ يعني أبا بكر رضي اللّه عنه ـ ثم أوضح هذا فقال: وإنما قام بها ـ أي البيعة ـ الخليفة الثاني وأبو عبيدة ونفر معهما، ثم فاجأوا بها أهل الحلّ والعقد، وساعدتهم تلك الظروف على ما أرادوا.
إن إنكار الموسوي لإجماع الأُمة على خلافة الصدّيق رضي اللّه عنه، أمر ظاهر البطلان من وجوه:
أوّلاً: إن إنكاره هذا جاء انطلاقاً من الأُصول التي يؤمن بها، والعقيدة الضالّة التي يعتقدها، والتي تركت بصماتها على أدلّة الإحتجاج عنده، شأنه شأن سائر علماء الرافضة.
وبمعنى أوضح، فإن الأدلّة الكليّة التي يحتج بها عند الرافضة أربعة: كتاب، وخبر، وإجماع، وعقل، ولكن عقيدتهم المنحرفة جعلت لكلّ دليل من هذه الأدلّة مفهوماً منحرفاً.
فالكتاب عندهم ليس هو القرآن الذين بين يدي المسلمين، وإنما هو ما أخذ بواسطة الأئمة المعصومين، وحجّتهم في عدم جواز الاستدلال به التحريف الذي وقع فيه، والسّور التي سقطت منه بزعمهم، والأمر الثاني أن نقلة هذا القرآن كانوا منافقين ومداهنين والعياذ باللّه، فعقيدتهم الزائفة تركت أثراً في معنى الكتاب الذي يحتج به عندهم.
وكذا الإجماع، فإنهم لا يقولون بحجيّته أصلاً بل لكون قول المعصوم في ضمنه، فمدار حجيّة الإجماع على قول المعصوم لا على نفس الإجماع. والذي أودى بهم إلى هذا الإنحراف في فهم الإجماع قولهم بعصمة الأئمة.
ثانياً: أن الكيفية التي تمّت بها البيعة لأبي بكر لم تكن كما عرضها الموسوي ومسخها، بل إن عرضه لها جاء مخالفاً لما ثبت في الصحيحين والسنن، فقد روى الشيخان ـ البخاري ومسلم ـ في صحيحيهما، أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه خطب الناس مرجعه من الحج فقال في خطبته: قد بلغني أن فلاناً منكم يقول لو مات عمر بايعت فلاناً فلا يغترنّ امرؤ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، ألا وإنها كذلك إلاّ أن اللّه وقى شرها، وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّة أن يقتلا وإنه قد كان في خبرنا حين توفّى اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، أن الأنصار خالفونا، واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين، فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم، فقلت: واللّه لنأتينّهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة. انتهى.
وهناك سمع أبو بكر وعمر مقالة الأنصار، والتي انتهت بقولهم للمهاجرين: منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش.
قال عمر: وإنا واللّه ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم من بعدنا، فإمّا بايعناهم على ما لا نرضى، وإمّا أن نخالفهم فيكون فساد. انتهى. فتح الباري 12 : 144.
فالرواية تثبت أن هناك حواراً دار بين المهاجرين والأنصار في شأن الخلافة، قبل مبايعة أبي بكر، وأن السّاعي لهذا الحوار هم المهاجرون بقيادة الشيخين أبي بكر وعمر. كما تثبت الرواية اتفاق المهاجرين على أحقيّة أبي بكر بالخلافة، ولا ينافي هذا تأخّر علي والزبير رضي اللّه عنهما بادئ الأمر. كما تثبت الرواية على أن الأنصار لم ينفوا أهليّة أبي بكر للخلافة، ولا ينافي هذا تأخّر سعد بن عبادة رضي اللّه عنه، وقول الحباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير.
ولكن موقف بعض الأنصار، أوجد لغطاً وبلبلة، أدّت بالكثرة الكاثرة من المهاجرين والأنصار ـ سوى ما ذكرنا من الطرفين ـ إلى الإسراع في حسم الموقف والقضاء على هذه الفتنة في مهدها، بمبايعة رجل لا تقطع الأعناق إليه باتّفاقهم جميعاً، حتى من كان له موقف من المهاجرين والأنصار، فلم يكن موقفهم هذا اعتراضاً على استحقاق أبي بكر للخلافة، وإنما لأُمور أُخرى.
فما أنْ بايع عمر رضي اللّه عنه أبا بكر حتى رأيت المهاجرين والأنصار يبايعونه في سقيفة بني ساعدة فكانت بيعة أهل الحل والعقد. ثم أخذت بيعة العامة على المنبر في مسجد النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم. على خلاف ما زعم الموسوي من أن البيعة كانت من عمر وأبي عبيدة ثم أكرهوا أهل الحلّ والعقد على البيعة.
أمّا ما رواه عن قول أبي بكر: إن بيعتي كانت فلتة. فهو قول لا أصل له، ولم يأت في كتاب من الكتب المعتبرة. أما خطبة عمر فصحيحة، ولكن الموسوي أوّلها بما يوافق مذهبه وعقيدته، إذ اعتبر ما جاء في خطبة عمر اعترافاً منه بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة ـ أي خطأ ـ، إذ لم تتم بالشورى ومبايعة أهل الحلّ والعقد.
وفي تعليق الموسوي على قول عمر: من بايع رجلاً من غير مشورة فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّة أن يقتلا. قال الموسوي: كان من مقتضيات العدل الذي وصف به عمر، أن يحكم بهذا الحكم على نفسه وعلى صاحبه كما حكم به على الغير.
ويغمز الموسوي في كلامه هذا بعدل عمر حيث اتّهمه بالوقوع بما نهى الناس عنه، فهو ينهى عن مبايعة الرجل للرجل بعيداً عن أهل الحلّ والعقد، وهو من قبل قد بايع أبا بكر بنفس الطريقة التي حذّر منها.
ولكن الفهم الصحيح لهذه العبارة ما أوضحه العلماء عند كلامهم على خطبة عمر.
قال ابن حجر رحمه اللّه: الفلتة الليلة التي يشك فيها هل هي من رجب أو من شعبان، وهل من المحرّم أو من صفر، كان العرب لا يشهرون السلاح في الأشهر الحرم، فكان من له ثأر تربص، فإذا جاءت تلك الليلة انتهز الفرصة من قبل أن يتحقق انسلاخ الشهر فيتمكن من إيقاع الشر وهو آمن، فيترتب على ذلك الشرّ الكثير، فشبه عمر الحياة النبويّة بالشهر الحرام والفلتة بما وقع من أهل الردّة، ووقى اللّه شرّ ذلك ببيعة أبي بكر لما وقع منه من النهوض في قتالهم وإخماد شوكتهم. فتح الباري 12 : 149.
وقال ابن تيميّة: ومعنى ذلك أنها وقعت فجأة لم نكن قد استعددنا لها ولا تهيّأنا، لأن أبا بكر كان متعيناً لذلك، فلم يكن يحتاج في ذلك إلى أن يجتمع لها الناس، إذ كلّهم يعلمون أنه أحق بها، وليس بعد أبي بكر من يجتمع الناس على تفضيله واستحقاقه كما اجتمعوا على ذلك في أبي بكر، فمن أراد أن ينفرد ببيعة رجل دون ملأ من المسلمين فاقتلوه. وعمر لم يسأل وقاية شرها بل أخبر أن اللّه وقى شرّ الفتنة بالإجماع على بيعة أبي بكر. انتهى. المنهاج 4 : 216.
وقال ابن حجر عند قول عمر «ولكن اللّه وقى شرّها» قال: أي وقاهم ما في العجلة غالباً من الشر، وقد بيّن عمر سبب إسراعهم ببيعة أبي بكر لما خشوا أن يبايعوا الأنصار سعد بن عبادة، قال أبو عبيدة: عاجلوا ببيعة أبي بكر خيفة انتشار الأمر، وأن يتعلّق به من لا يستحقه فيقع الشر.
وفي معنى «كانت فلتة» قال الكرابيسي ـ صاحب الشافعي ـ: المراد أن أبا بكر ومن معه تفلّتوا في ذهابهم إلى الأنصار فبايعوا أبا بكر بحضرتهم، وفيهم من لا يعرف ما يجب عليه من بيعته فقال: منا أمير ومنكم أمير، فالمراد بالفلتة ما وقع من مخالفة الأنصار، وما أرادوه من بيعة سعد بن عبادة.
وقال ابن حبان: معنى قوله «كانت فلتة» أن ابتداؤها كان من غير ملأ كثير، والشيء إذا كان كذلك يقال له: فلتة، فيتوقّع فيه ما لعلّه يحدث من الشر بمخالفة من يخالف في ذلك عادة، فكفى اللّه المسلمين الشر المتوقع في ذلك عادة، لا أن بيعة أبي بكر كان فيه الشر. انتهى فتح الباري 12 : 150.
ثالثاً: أما قول الموسوي: ومن المعلوم بحكم الضرورة من أخبارهم أن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة لم يحضر البيعة أحد منهم قط، وقد تخلّفوا عنها في بيت علي، ومعهم سلمان، وأبو ذر، والمقداد، وعمار، والزبير، وخزيمة، وفروة، والبراء بن عازب، وخالد بن سعيد، وغير واحد من أمثالهم. فهو محض كذب وافتراء على هؤلاء جميعاً، فإن مبايعة هؤلاء لأبي بكر أشهر من أن تنكر، وهذا ممّا اتفق عليه أهل العلم بالحديث والسير والمنقولات خلفاً عن سلف.
أمّا بنو هاشم، فكلّهم بايعه باتفاق الناس، لم يمت أحد منهم إلاّ وهو مبايع له، لكن بيعة علي رضي اللّه عنه قيل تأخرت ستة أشهر، وقيل بل بايعه ثاني يوم، وبكّل حال فقد بايعوه من غير إكراه، ولم يكن تأخر علي عن البيعة جحوداً لفضل أبي بكر وأحقيته بالخلافة، وإنما لترك مشورته كما بيّنت ذلك الروايات الصحيحة في هذا.
فقد روى البخاري عن عائشة أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله عن ميراثها من النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم مما أفاء اللّه على رسوله من المدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم قال: «لا نورث ما تركناه صدقة» إنما يأكل آل محمّد من هذا المال، وإني واللّه لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم عن حالها التي كانت عليه في عهده، ولأعملنّ فيها بما عمل، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفّيت، وعاشت بعد النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ستة أشهر، فلمّا توفيت دفنها زوجها عليّ ليلاً ولم يؤذن بها أبو بكر، وصلّى عليها، وكان لعليّ من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر عليّ وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر: أن ائتنا ولا يأت معك أحد، فدخل عليهم أبو بكر، فتشهّد عليّ فقال: إنا قد عرفنا فضلك، وما أعطاك اللّه، ولم ننفس عليك خيراً ساقه اللّه إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنّا نرى لقرابتنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم أن لنا نصيباً، حتى فاضت عينا أبي بكر، فلما تكلّم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم أحب إليّ من أصل قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال، فإن لم آل فيه عن الخير، ولم أترك أمراً رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم يصنعه فيها إلاّ صنعته. فقال علي: موعدك العشية للبيعة، فلما صلّى أبو بكر الظهر رقى المنبر، فتشهد وذكر شأن علي وتخلّفه عن البيعة بالذي اعتذر إليهم. ثم استغفر وتشهد علي، فعظم حق أبي بكر، وحدّث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكار للذي فضله اللّه به، ولكنّا كنا نرى لنا في هذا الأمر ـ أي المشورة، كما يدل عليه بقية الروايات ـ نصيباً، فاستبد علينا فوجدنا في أنفسنا، فسُرّ بذلك المسلمون، وقالوا أصبت، وكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر بالمعروف. انتهى.
فتأمّل هذه الرواية الصحيحة وما اشتملت عليه من اعتراف علي بفضل أبي بكر وأحقيته بالخلافة، ومن اعتذاره عن تأخير البيعة، ومن تراجعه عن موقفه ومبايعته على ملأ من المسلمين دون إكراه من أحد. إذا تأمّلت ذلك جيّداً يتّضح لك كذب الموسوي الرافضي، ويزداد لك كذب الموسوي وضوحاً إذا علمت أن المقصود بالاستبداد الذي جاء في رواية عائشة على لسان علي إنما هو ترك المشورة، فقول عليّ لأبي بكر: «استبددت» أي لم تشاورنا، كما اتفق على ذلك أهل العلم، وكما صرّحت بذلك الروايات الصحيحة، فقد أخرج الدارقطني من طرق كثيرة، أنهما قالا ـ يعني علي والزبير ـ لأبي بكر: إلاّ أنّا أخّرنا عن المشورة، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها ـ أي بالخلافة.
وقال المازري: «استبدّ علينا» إشارة إلى أنه لم يستشره في عقد الخلافة له أوّلاً. وقال: والعذر لأبي بكر أنه خشي من التأخر عن البيعة الاختلاف لما وقع من الأنصار كما تقدم في حديث السقيفة، فلم ينتظره.
وقال القرطبي: من تأمل ما دار بين أبي بكر وعلي من المعاتبة والاعتذار وما تضمّن ذلك من الإنصاف، عرف أن بعضهم يعترف بفضل الآخر، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحياناً ولكن الديانة ترد ذلك. واللّه الموفق.
وقال ابن حجر العسقلاني: وقد تمسّك الرافضة بتأخّر عليّ عن بيعة أبي بكر إلى أن ماتت فاطمة، وهذيانهم في ذلك مشهور، وفي هذا الحديث ما يدفع حجتهم. انظر فتح الباري 7 : 494، 495.
أما خالد بن سعيد: كان نائباً للنبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، فلمّا مات النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم قال: لا أكون نائباً لغيره، فترك الولاية ولكنه ما ترك بيعة أبي بكر، وكان من المقرّبين في خلافة أبي بكر الصديق. ذكره ابن تيمية في المنهاج 4 : 230.
أما القول: بأنه لم يبايع من بني هاشم أحد، فهي رواية ضعّفها البيهقي، لأنها من قول الزهري ولم يسندها، ومعارضة برواية ابن حبان وغيره من حديث أبي سعيد الخدري وغيره «أن علياً بايع أبا بكر في أوّل الأمر».
إلاّ أن بعض العلماء جمع بين الروايتين على النحو التالي: قالوا إن علياً قد وقعت منه بيعتان: الأولى كانت أوّل الأمر، ثم كانت البيعة الثانية بعد موت فاطمة، لإزالة ما كان وقع بسبب الميراث. واللّه أعلم. فتح الباري 7 : 495.
وعلى ما تقدّم بيانه وإيضاحه يتضح إجماع الأُمة على بيعة أبي بكر، لأن من ترك البيعة أول الأمر عاد فبايع، ولم يتخلّف عن البيعة مطلقاً إلاّ سعد بن عبادة الأنصاري، وتخلّف سعد قد عرف سببه، وأنه كان يطلب الإمارة لنفسه، وأن يقسّم صف المسلمين إلى قسمين مهاجرين وأنصار، وأن يكون لكل أمير، وهو مطلب غير شرعي، لمعارضته للكتاب والسنّة وإجماع الأُمة. وإذ تبين ذلك، فإن مخالفة سعد وتركه للبيعة كان شذوذاً عن الجماعة، لا يقدح في صحة إجماع الأُمة على بيعة أبي بكر، لأنه لم يظهر حجة شرعيّة على مطلبه حتى يعتد بخلافه. فمن المقرر عند الأُصوليين أنه لا يعتد برأي الواحد إذا خالف جمهور العلماء وإجماعهم في مسألة ما، إلاّ إذا أظهر دليلاً شرعيّاً من الكتاب والسنة.
قال ابن تيمية رحمه اللّه: ولا ريب أن الإجماع المعتبر في مسألة الإمامة لا يضر فيه تخّلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة، فإنه لو اعتبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع على إمامة، فإن الإمامة أمر معين، فقد يتخلّف الرجل لهوى لا يعلم، كتخلّف سعد، فقد استشرف إلى أن يكون أميراً من جهة الأنصار فلم يحصل له ذلك، فبقي في نفسه بقية هوى، ومن ترك الشيء لهوى لم يؤثر تركه، بخلاف الإجماع على الأحكام العامة كالإيجاب والتحريم والإباحة.
وقال رحمه اللّه: وسعد كان مراده أن يوّلوا رجلاً من الأنصار، وقد دلّت النصوص الكثيرة عن النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم أن الإمام من قريش، فلو كان المخالف قرشيّاً واستقرّ خلافه لكان شبهة، بل علي كان من قريش، وقد تواتر أنه بايع الصدّيق طائعاً مختاراً. انتهى. المنهاج 4 : 231، 232.
رابعاً: لو سلّمنا جدلاً بقول الموسوي: بأن هؤلاء الذين ذكرهم من الصحابة لم يبايعوا، فإن ذلك لا يقدح في ثبوت خلافة أبي بكر، فإنه لا يشترط في ثبوتها إلاّ اتفاق أهل الشوكة، والجمهور الذي يقام بهم الأمر كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه اللّه، وقد تحقّق هذا لأبي بكر من بداية الأمر حيث بايعه كبار الصّحابة من المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، وهم أهل الحلّ والعقد، وأصحاب الشوكة، ثم كانت بيعة العامة بعد ذلك على المنبر في مسجد النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، وهذا هو الجمهور من المهاجرين والأنصار الذي يقام به أمر الخلافة.
خامساً: إذا كان الموسوي قد أنكر الاجماع على خلافة أبي بكر الذي بايعته الأُمة بما فيها العترة الطاهرة، فليس له ولا لأحد من الرافضة أن يحتجّ على خلافة عليّ رضي اللّه عنه بالإجماع من باب أولى، لأنه لم يحصل لبيعة علي من إجماع الأُمة ما حصل لأبي بكر.
قال ابن تيمية رحمه اللّه تعالى: إن إجماع الأُمة على خلافة أبي بكر كان أعظم من اجتماعهم على مبايعة عليّ، فإن ثلث الأُمة أو أقل أو أكثر لم يبايعوا عليّاً بل قاتلوه، والثلث الآخر لم يقاتلوا معه وفيهم من لم يبايعه أيضاً، والذين لم يبايعوه منهم من قاتله، ومنهم من لم يقاتله، فإن جاز القدح في الإمامة بتخلّف بعض الأُمة عن البيعة، كان القدح في إمامة عليّ أولى بكثير. انتهى 4 : 232.
سادساً: أمّا ما زعمه الموسوي من أن عليّاً وأصحابه قد بايعوا أبا بكر خوفاً من السيف أو التحريق، فهو محض كذب وافتراء لم تثبت عند أهل العلم بالحديث والسير والمنقولات، بل إنها دعوى معارضة بالأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم، وقد سقنا رواية عائشة في الصحيحين، وفيها التصريح بأن علياً طلب من أبي بكر مصالحته ومبايعته، وقد فعل ذلك طائعاً مختاراً أمام جماهير الصحابة من الأنصار والمهاجرين في المسجد النبوي.
كما أنها دعوى معارضة بما عرف من سيرة علي والزبير من الشجاعة في الحق الأمر الذي لا تنكره الرافضة ولا يجحده أهل السنة. فلو لم يكن أبا بكر(2) على حق لنازعه علي، كما نازع معاوية مع قوة شوكة معاوية عدّة وعدداً على شوكة أبي بكر، فإذا لم يبال علي بقوة شوكة معاوية فكيف يبالي بشوكة أبي بكر، ولم تكن له شوكة آنذاك كالتي كانت لعلي.
ثم إنها دعوى تناقض عقيدتهم في شجاعة علي وصلابته في الحق، فكلام الموسوي يجعل سعد بن عبادة أكثر شجاعة وثباتاً على الحق من عليّ، حيث لم يلن ولم يضعف أمام التهديد كما ضعف علي رضي اللّه عنه. تأمل هذا تجده واضحاً.
وقد تناقض الموسوي مع نفسه عندما اعتبر بيعة علي لأبي بكر كانت مؤازرة منه لأهل السلطة، فعبّر عن ذلك بقوله: (فإن لعلي والأئمة المعصومين من بنيه مذهباً في مؤازرة السلطة الاسلامية معروفاً) فلو صحّ مثل هذا الكلام، فإن بيعة علي كانت بمحض إرادته مؤازرة منه للسلطة. ثم عاد الموسوي في آخر المراجعة 82 ليقول: (فإنما خضعوا عنوة، واستسلموا للقوة، فهل يكون العمل بمقتضيات الخوف من السيف أو التحريق بالنار إيماناً بعقد البيعة؟). أرأيت هذا التناقض المخجل الذي يخجل منه الجهلاء قبل العلماء؟!
أقول:
إنّ مباحث الإمامة والخلافة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ـ عندنا ـ مبنيّة على ركنين أساسيين هما:
1 ـ إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من الكتاب والسنّة المعتمدة عند الفريقين.
2 ـ نفي إمامة أبي بكر.
أمّا الركن الأوّل، فقد أقام السيّد في كتابه الأدلّة الرصينة والبراهين القاطعة عليه، من الكتاب والسنّة، وعلى ضوء كلمات علماء الجمهور في مختلف العلوم، وقد شيّدنا ما أورده حول الركن الأوّل، بنفس الأسلوب الذي مشى عليه… والحمد للّه.
وأمّا في الركن الثاني، فقد كتب فيه أصحابنا منذ القرون السّالفة الكتب المفصّلة المستندة إلى الأدلّة الموثوقة لدى المسلمين، ولنا أيضاً مؤلّفات فيه(3) والذي نريد أنْ نقوله هنا بإيجاز هو:
إن الإمامة والخلافة تثبت ـ عند القوم ـ بالطرق التالية:
1 ـ النصُّ، بأن يقوم على إمامة الشخص دليلٌ من الكتاب أو السنة أو كليهما.
2 ـ الإختيار من المسلمين، بأن يتّفقوا على اختياره للإمامة ويجمعوا على ذلك.
3 ـ الأفضليّة، بأن يكون واجداً لصفات الأفضلية من غيره، فيتقدّم، من باب قبح تقدّم المفضول على الأفضل عند العقل.
4 ـ القهر والغلبة، بأن يتسلّط على المسلمين وشئونهم بالقهر والغلبة، فيجب قبول ذلك على المسلمين، مع عدم وجود النصّ عليه وعدم كونه أفضل من غيره، بل كونه مفضولاً.
وحينئذ نسأل:
ما الدليل على دعوى الإمامة والخلافة لأبي بكر من الكتاب؟
وما الدليل على ذلك من السنّة؟
قالوا: لا دليل على إمامة أبي بكر وخلافته بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، لا من الكتاب ولا من السنّة(4).
إذن… فما الدليل؟
منهم من قال: الأفضليّة.
ومنهم من قال: الإجماع.
أمّا دعوى الأفضليّة، فقد استدلّ لها بوجوه، بعد أن قرّروا عدم انعقاد ولاية المفضول عند وجود الأفضل، وكان من جملتهم ابن تيمية الحراني، إذ نصَّ على ذلك في غير موضع من منهاجه، حتّى أنهم أجابوا عمّا قد يشكل على عمر: لماذا جعل الشورى في اولئك الستة فقط؟ فقالوا: «إنما جعلها شورى بينهم، لأنّه رأهم أفضل ممن عداهم وأنّه لا يصلح للإمامة غيرهم».
لكنهم لمّا رأوا سقوط تلك الوجوه، وأنّها لا تصلح لإثبات أفضلية أبي بكر، اضطرّوا لأن يقولوا: «إنّ مسألة الأفضلية لا مطمع فيها في الجزم واليقين… لكنّا وجدنا السّلف قالوا بأنّ الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. وحسن ظنّنا بهم يقضي بأنّهم لو لم يعرفوا ذلك لما أطبقوا عليه، فوجب علينا اتّباعهم في ذلك، وتفويض ما هو الحق فيه إلى اللّه»(5).
«حقيقة الفضل ما هو عند اللّه، وذلك ممّا لا يطّلع عليه إلاّ رسول اللّه»(6).
«لا قاطع شاهد من العقل على تفضيل بعض الأئمة على البعض، والأخبار الواردة على فضائلهم متعارضة. لكنّ الغالب على الظنّ أن أبا بكر أفضل ثم عمر»(7).
«وأفضل البشر بعد نبيّنا أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم علي المرتضى. على هذا الترتيب وجدنا السلف، والظاهر أنه لو لم يكن لهم دليل على ذلك لما حكموا بذلك. وأما نحن، فقد وجدنا دلائل الجانبين متعارضةً وإن لم نجد هذه المسألة مما يتعلّق به شيء من الأعمال أو يكون التوقف فيه مخلاًّ بشيء من الواجبات…»(8).
وهكذا كلمات غيرهم من أعلام القوم… فلم تثبت الأفضلية لأبي بكر عندهم….
فرجع الأمر إلى حسن الظنّ بالصحابة….
فهل أجمعت الأُمة واتفقت على إمامة وخلافة أبي بكر؟
إنّ المراد بالإجماع ـ متى ما أطلق ـ هو الإتفاق، فإذا قلنا: أجمعت الأُمّة على كذا، فالمراد أنها اتفقت عليه… وإذا قلنا: أجمعت الصحابة… أي اتفقت….
ولا ريب أن لا إجماع من الأُمّة على إمامة أبي بكر.
وعلى هذا، فإنّ قوله صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ـ لا تجتمع أُمّتي… كيفما كان سنده ومعناه ـ لا يشمل بيعة أبي بكر، لعدم تحقق الإجماع من الأُمة عليها بالضرورة….
وهل أجمعت الصحابة واتفقت على إمامة أبي بكر؟
قالوا: ـ كما تقدم ـ «وجدنا السّلف قالوا… وحسن ظنّنا بهم يقضي بأنهم لو لم يعرفوا ذلك لما أطبقوا عليه».
فمن المراد من «السّلف»؟ ومتى أطبقوا؟ وكيف؟
وهنا يرحع الأمر إلى قضية سقيفة بني ساعدة… والبيعة لأبي بكر فيها….
فمن كان في السقيفة؟ وماذا جرى فيها؟ ومن أخبر عن ذلك؟
إنّه لم نجد ـ إلى الآن ـ خبر السقيفة وما جرى فيها عن أحد من حضّارها إلاّ عمر بن الخطاب، وذلك في أُخريات عمره، أي في سنة 23!! وقد أخرجه البخاري حيث قال في كتابه ما نصّه:
«حدثنا عبدالعزيز بن عبداللّه، حدثني إبراهيم بن سعد، عن صالح عن ابن شهاب عن عبيداللّه بن عبداللّه بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس، قال: كنت أُقرئ رجالاً من المهاجرين ـ منهم عبدالرحمن بن عوف ـ فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجّها، إذ رجع إليّ عبدالرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فواللّه ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة فتمّت.
فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء اللّه لقائم العشية في الناس، فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أُمورهم. قال عبدالرحمن: فقلت يا أمير المؤمنين! لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاء الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كلّ مطير وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكناً فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: أما واللّه إن شاء اللّه لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.
قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجّلنا الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمسّ ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلمّا رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولنّ العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف، فأنكر عليّ وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله! فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذّنون قام فأثنى على اللّه بما هو أهله ثم قال:
أما بعد، فإنى قائل لكم مقالة قد قدّر لي أن أقولها، لا أدري لعلّها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحلّ لأحد أن يكذب عليّ.
إنّ اللّه بعث محمّداً صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل اللّه آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه! فيضلّوا بترك فريضة أنزلها اللّه، والرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الإعتراف. ثم إنّا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه أن: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو أن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم ألا ثُمّ، إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم قال: لا تطروني كما أُطري عيسى بن مريم وقولوا: عبداللّه ورسوله.
ثم إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: واللّه لو مات عمر بايعت فلاناً! فلا يغترنّ امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن اللّه وقى شرها! وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا.
وإنه قد كان من خبرنا حين توفى اللّه نبيه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم إلاّ أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر! انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا ما تمالئ عليه القوم، فقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم فقلت: واللّه لنأتينهم! فانطلقنا، حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمّل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ماله؟ قالوا يوعك، فلمّا جلسنا قليلاً تشهّد خطيبهم فأثنى على اللّه بما هو أهله ثمّ قال:
أمّا بعد، فنحن أنصار اللّه وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفّت دافّة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم ـ وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أُريد أن اقدّمها بين يدي أبي بكر، وكنت اداري منه بعض الحدّ، فلما أردت أن أتكلّم، قال أبو بكر: على رسلك! فكرهت أن أغضبه.
فتكلّم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر، واللّه ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاّ قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت! فقال: ما ذكرتم فيكم من خير، فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيّهما شئتم.
فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجرّاح ـ وهو جالس بيننا ـ فلم أكره ممّا قال غيرها، كان واللّه أن أقدّم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحبّ إليّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر! اللهم إلاّ أن تسوّل إليّ نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن.
فقال قائل من الأنصار! أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجّب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش! فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف.
فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة فقلت: قتل اللّه سعد بن عبادة! قال عمر: وإنّا واللّه ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإمّا بايعناهم على ما لا نرضى، وإمّا نخالفهم، فيكون فساد، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا»(9).
في هذه القضيّة:
1 ـ إن من الأصحاب من كان يتأسّف على السكوت وتضييع الفرصة عند بيعة أبي بكر، فكان ينتظر موت عمر حتى يبايع الذي لم يبايعه في تلك الفرصة.
2 ـ إن عمر لمّا بلغه ذلك في منى غضب وأراد أن يحذّر الناس «هؤلاء الذين يريدون أن يغصبونهم أمورهم».
3 ـ إنّه لمّا كان لا يريد أن يكون الأمر لمن قصدوا البيعة معه، فقد هدّد المبايع والمبايع له بالقتل.
4 ـ وبهذه المناسبة طرح فكرة الشورى.
وحينئذ، يتوجّه السؤال إلى عمر بأنّه إذا كان لا يجوز المبايعة بلا مشورة من المسلمين، ومن فعل قتل هو والمبايع له، فهل كانت ولايته هو بمشورة من المسلمين أو الأصحاب أو أهل الحلّ والعقد منهم في الأقل؟
إنّ مراجعةً سريعةً لكيفيّة ولاية عمر تكفي للعلم بعدم كونها عن مشورة بل هذا من ضروريات التاريخ، لكن الأمر بالعكس، فإنّ الناس لا سيّما أهل الحلّ والعقد منهم قد اعترضوا على أبي بكر في ذلك بشدّة قائلين له: ماذا تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر؟
روى القاضي أبو يوسف بإسناده: «لمّا حضرت الوفاة أبا بكر، أرسل إلى عمر يستخلفه، فقال الناس: أتخلّف علينا فظّاً غليظاً لو قد ملكنا كان أفظ وأغلظ؟ فماذا تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر؟ قال: أتخوّفوني بربّي! أقول: اللهم أمّرت عليهم خير أهلك»(10).
وكذا في رواية ابن أبي شيبة وابن شبة(11).
وفي رواية لابن سعد: «وسمع بعض أصحاب النبي…»(12).
وفي أُخرى: «دخل عليه فلانٌ وفلان فقالوا…»(13).
وفي ثالثة: «فدخل عليه علي وطلحة فقالا…»(14).
وفي رواية الطبري وجماعة: إنّ أبا بكر غضب من اعتراض القوم فقال: «إني ولّيت أمركم خيركم في نفسي، فكلّكم ورم أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر له دون…»(15). وروى ابن عبدربّه القرطبي خبراً فيه أنّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم اجتمعوا ـ وفيهم علي ـ في دار طلحة، وقالوا ببطلان خلافة أبي بكر وعمر كليهما، لوقوعهما بغير مشورة، فأخبر المغيرة بن شعبة عمر بن الخطاب بذلك فقصدهم وهو غضبان…»(16).
ثم إن هنا نقاطاً:
الأُولى: جاء في البخاري في قول عبدالرحمن بن عوف لعمر: «هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً…» لكن في فتح الباري يقول ابن حجر بشرحه: «ووقع في رواية ابن إسحاق أن من قال ذلك كان أكثر من واحد»(17).
الثانية: لقد أبهموا أسماء القائلين، لكنّ ابن حجر يذكر في مقدمة شرحه: «ثم وجدته في الأنساب للبلاذري بإسناد قوي، من رواية هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري بالإسناد المذكور في الأصل، ولفظه: قال عمر: بلغني أنّ الزبير قال: لو قد مات عمر بايعنا علياً»(18).
وقد أورد القسطلاني هذا عن المقدمة لابن حجر في شرح الخطبة ثم قال: «وهذا أصح»(19) يعني: من الروايات الأُخرى المعيّنة للأسماء.
الثالثة: إنه كما أُبهمت الأسماء، كذلك لم تنقل وقائع السقيفة على واقعها، فمن المحتّم أن عمر لم يذكر كلّها، وأنّ من الرواة من يحاول كتم بعضها ولربّما لم ينقل كلّ ماقاله عمر….
لقد جاء في التواريخ والسير أنه لمّا أخبر أبو بكر وعمر باجتماع السقيفة ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يفرغ من أمره، قال عمر لأبي بكر: إنطلق بنا إلى هؤلاء الأنصار حتى ننظر ما هم عليه، فخرجا وعلي عليه السلام دائب في جهاز النبي. فلقيا أبا عبيدة بن الجراح وتوجّه ثلاثتهم إلى السقيفة… فتكلّم أبو بكر ـ بعد أن منع عمر من أن يتكلَّم ـ وجعل يثني على المهاجرين، فكان ممّا قال: «فهم أوّل من عبداللّه في الأرض وآمن بالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلاّ ظالم» فقام الحباب بن المنذر وقال: «يا معشر الأنصار، املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فاجلوهم عن هذه البلاد وتولّوا عليهم هذه الأمور، فأنتم ـ واللّه ـ أحق بهذا الأمر منهم، فإن بأسيافكم دان لهذا الدين من لم يكن يدين به، أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب. أما واللّه لو شئتم لنعيدنّها جذعة، واللّه لا يرد أحد عليّ إلاّ حطّمت أنفه بالسيف.
قال عمر: إذن، يقتلك اللّه.
قال: بل إيّاك يقتل، وأخذه ووطأ في بطنه ودسّ في فيه التراب.
فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنكم كنتم أوّل من نصر وآزر، فلا تكونوا أوّل من بدّل وغيّر.
فقام بشير بن سعد الخزرجي ـ من سادة الخزرج ـ. وكان حاسداً لسعد بن عبادة، فدعا الأنصار إلى قبول قول أبي بكر قائلاً: «وأيم اللّه، لا يراني اللّه أُنازعهم هذا الأمر أبداً، فاتّقوا اللّه ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم».
فلما كثر اللغط وارتفعت الأصوات قال عمر لأبي بكر: «ابسط يدك لأُبايعك»، فسبقه إليه بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحباب: «يا بشير، عققت عقاق، أنفست على ابن عمّك الأمارة…» فوقع الانشقاق بين الأنصار، وقال بعضهم: «لا نبايع إلاّ علياً» فلما رأت الأوس ذلك قاموا فبايعوا أبا بكر، وكاد الناس يطؤن سعد بن عبادة، فقيل: اتّقوا سعداً لا تطؤه. فقال عمر: «اقتلوه قتله اللّه، إنّه منافق» ثم قام على رأسه فقال: «لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك» فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر فقال: «واللّه لو حصصت منه شعرةً ما رجعت وفي فيك واضحة» فقال أبو بكر: مهلاً يا عمر، الرفق هاهنا أبلغ، وقال سعد: «أما واللّه لو أن بي قوة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيراً يجحرك وأصحابك، أما واللّه إذاً لألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع. احملوني من هذا المكان» فحملوه فأدخلوه داره.
ثم إنّهم أتوا بأبي بكر المسجد يبايعونه، فسمع العباس وعلي التكبير في المسجد ولم يفرغوا من غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فجاء البراء بن عازب ليخبر بني هاشم ببيعة أبي بكر، فقال العباس: «فعلوها وربّ الكعبة» ثم إنه لمّا أقبلت قبيلة أسلم وبايعوا أبا بكر قال عمر: «أيقنت بالنصر»(20).
فظهر لك إلى هنا: إنه لم يكن في السقيفة مع أبي بكر إلاّ عمر وابن الجراح وربما رجل آخر، وأنّه قد تمّ الأمر لأبي بكر ببيعة عمر أو هو وأبو عبيدة.
وقد عرفت كيف بايعت الأوس، وأنّه كيف حمل سعد بن عبادة إلى داره ومعه أهله وذووه بلا بيعة منهم لأبي بكر.
وأمّا أمير المؤمنين ومن معه من بني هاشم… فإنّهم بعد أن فرغوا من دفن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم توجّهوا إلى دار فاطمة، والتحق بهم جماعة من المهاجرين والأنصار، فكان معه: العباس بن عبدالمطلب، والفضل، والزبير، وطلحة، وخالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، وعتبة بن أبي لهب، والمقداد، وأبو سفيان، وعمّار، وأبو ذر، وسلمان، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم… وقد اجتمعوا هناك ليبايعوا عليّاً(21).
أمّا سعد بن عبادة، فإنّه لم يبايع أبا بكر وعمر(22) ـ وتبعه من تبعه من أهله وولده ـ وخرج إلى الشام في أوّل خلافة عمر، فقتل هناك في سنة 15… قال بعض المؤرخين: إن سعد بن عبادة لم يبايع أبا بكر وخرج إلى الشام، فبعث عمر رجلاً وقال: أُدعه إلى البيعة واختل له، فإن أبى فاستعن باللّه عليه. فقدم الرجل الشام، فوجد سعداً في حائط بحوّارين، فدعاه إلى البيعة، فقال: لا أُبايع قرشياً أبداً، قال: فإني أقاتلك، قال: وإن قاتلتني، قال: أفخارج أنت ممّا دخلت فيه الأُمة؟ قال: أما من البيعة فإني خارج. فرماه بسهم فقتله(23).
ولمّا كانت قضية إباء سعد بن عبادة ومن تبعه عن البيعة لأبي بكر قادحةً في خلافته وخلافة أبي بكر، فإنّ القوم يسعون وراء التكتمّ عليها أو التهوين من أمرها، أمّا ابن تيمية فقد اضطرب كلامه جدّاً، فتارةً يعترف بتخلّف سعد عن البيعة(24)، لوقوف الأنصار دونه. قال: لأنهم كانوا قد عيّنوه للإمارة فبقي في نفسه ما يبقى في نفوس البشر(25)، وأُخرى يردّ على الشهرستاني قوله بأنّ الأنصار اتّفقوا على تقديم سعد، فيقول «هو باطل باتفاق أهل المعرفة بالنقل»(26). ويزعم أنّ سعداً تنازل لأبي بكر وأذعن له بالإمارة(27).
وأمّا قضية قتله، فتضرّ بخلافتهم وتنفي عدالة خلفائهم، فكان لا مناص لهم من أن يتكتموا عليها فلا يذكروها كما فعل الطبري، أو يضعوا قصّة قتل الجنّ له كما في رواية لابن عبدربه، أو يقتصروا على نقل خبر موته بشكل مريب، كما في أسد الغابة وغيره.
وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام ومن كان معه في بيت فاطمة، فقد جاء في بعض التواريخ أن أهل السقيفة قد بادروا أوّل الأمر إلى الإجتماع بالعبّاس للتفاهم معه فيترك عليّاً عليه السلام، لكنّهم ما أفلحوا… فبعث أبو بكر إلى علي مرّات فامتنع، حتى قال لعمر: «ائتني به بأعنف العنف»… فجاء عمر ومعه جماعة فيهم: خالد بن الوليد وعبدالرحمن بن عوف ومحمّد بن مسلمة واسيد بن حضير:
أخرج ابن أبي شيبة بإسناده أنه جاء عمر إلى باب فاطمة وقال: «يا بنت رسول اللّه، واللّه ما أحد أحبّ إلينا من أبيك، وما من أحد أحبّ إلينا بعد أبيك منك، وأيم اللّه، ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن أمرتهم أن يحرَّق عليهم البيت»(28).
وأخرج الطبري بسند آخر: «أتى عمر بن الخطاب منزل علي ـ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ـ فقال: واللّه لأُحرّقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مصلتاً سيفه، فعثر فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه»(29).
وفي رواية البلاذري: «إن أبا بكر أرسل إلى علي يريد البيعة فلم يبايع، فجاء عمر ومعه فتيلة، فتلقّته فاطمة على الباب فقالت فاطمة: يا ابن الخطاب، أتراك محرّقاً عليَّ بابي! قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك»(30).
وفي رواية ابن عبدربّه وغيره: «بعث إليهم أبو بكر ليخرجهم من بيت فاطمة وقال له: إن أبوا فقاتلهم. فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة…»(31).
وروى المسعودي أنّه أحضر الحَطَب ليحرّق الدار على من تخلّف عن البيعة لأبي بكر(32)….
وعن كتاب السقيفة لإبراهيم بن محمّد الثقفي بإسناده عن الإمام الصادق عليه السلام إشعال النار بالفعل(33).
وأخرج البخاري عن معمر عن الزهري في حديث مطالبة الزهراء بفدك وغير فدك من أبي بكر:
«فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ستة أشهر، فلمّا توفيت دفنها زوجها ولم يؤذن بها أبا بكر وصلّى عليها، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي، ومكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول اللّه ثم توفيت. قال معمر فقال رجل للزهري: فلم يبايعه علي ستة أشهر؟ قال: لا ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي. فلما رأى عليٌّ انصراف وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر…»(34).
وأيضاً، فقد رأى ارتداد العرب وتثاقل الناس للخروج إلى قتالهم… كما روى البلاذري:
«لمّا ارتدّت العرب، مشى عثمان إلى علي فقال: يا ابن عم، إنه لا يخرج أحد إلى قتال هذا العدو وأنت لم تبايع، فلم يزل به حتى مشى إلى أبي بكر، فقام أبو بكر إليه فاعتنقا وبكى كلّ واحد إلى صاحبه فبايعه، فسرّ المسلمون وجدّ الناس في القتال وقطعت البعوث»(35).
(1) نقله ابن أبي الحديد في ص 53 ج 12 من شرح النهج، في قضية يجدر بالباحثين أن يقفوا عليها، وقد أوردها ابن الأثير في أواخر أحوال عمر ص 63 ج 3 من كامله، قبل ذكر قصة الشورى.
(2) كذا.
(3) كتاب (الإمامة في أهم الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإمامية) وكتاب (شرح منهاج الكرامة في معرفة الإمامة) وغيرهما.
(4) شرح المواقف 8 : 354، شرح المقاصد 5 : 259 وغيرهما من المصادر.
(5) المواقف في علم الكلام، وشرحها 8 : 372.
(6) شرح المقاصد للتفتازاني عن الغزالي 5 : 301.
(7) شرح المقاصد، عن امام الحرمين 5 : 291.
(8) شرح العقائد النسفية 227 ـ 229.
(9) صحيح البخاري 4 : 343 / 6830.
(10) كتاب الخراج: 11.
(11) المصنّف 12 : 35 / 12062، تاريخ المدينة المنوّرة 2 : 671.
(12) الطبقات الكبرى 3 : 199.
(13) الطبقات الكبرى 3 : 274.
(14) الطبقات الكبرى 3 : 274، الرياض النضرة 1 : 260، كنز العمال 5 : 678 / 14178.
(15) تاريخ الطبري 3 : 429، العقد الفريد 4 : 267، الفائق في غريب الحديث 1 : 99، أساس البلاغة والنهاية في غريب الحديث ولسان العرب في «ورم».
(16) العقد الفريد 4 : 281 ـ 282.
(17) فتح الباري 12 : 121.
(18) مقدمة فتح الباري: 337.
(19) إرشاد الساري 10 : 19.
(20) تاريخ الطبري 3 : 222.
(21) العقد الفريد 4 : 259، المختصر في أخبار البشر 1 : 156، السيرة الحلبية 3 : 356 وغيرها.
(22) الاستيعاب 2 : 599، أُسد الغابة 2 : 205 وغيرهما.
(23) انساب الأشراف: 2 : 272، العقد الفريد 4 : 260.
(24) منهاج السنة 8 / 330.
(25) منهاج السنة 1 : 536.
(26) منهاج السنة 6 : 326.
(27) منهاج السنة 1 : 537.
(28) المصنف 14 : 567 / 18891.
(29) تاريخ الطبري 3 : 202.
(30) أنساب الأشراف 2 : 268.
(31) العقد الفريد 4 : 259 ـ 260.
(32) مروج الذهب 3 : 77.
(33) انظر: الشافي في الامامة 3 : 241.
(34) صحيح البخاري 3 : 91 / 2440، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر.
(35) أنساب الأشراف 2 : 270.