الاحتجاجات
قال السيّد:
الناس كافّة يعلمون أنّ الإمام ـ وسائر أوليائه من بني هاشم وغيرهم ـ لم يشهدوا البيعة ولا دخلوا السقيفة يومئذ، وكانوا في معزل عنها و عن كلّ ما كان فيها، منصرفين بكلّهم إلى خطبهم الفادح بوفاة رسول اللّه، وقيامهم بالواجب من تجهيزه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، لا يعنون بغير ذلك، وما واروه في ضراحه الأقدس حتى أكمل أهل السقيفة أمرهم، فأبرموا البيعة، وأحكموا العقد، وأجمعوا ـ أخذاً بالحزم ـ على منع كلّ قول أو فعل يوهن بيعتهم، أو يخدش عقدهم، أو يدخل التشويش والإضطراب على عامّتهم، فأين كان الإمام عن السقيفة وعن بيعة الصدّيق ومبايعيه ليحتجّ عليهم؟ وأنّى يتسنى الإحتجاج له أو لغيره بعد عقد البيعة، وقد أخذ أولوا الأمر والنهي بالحزم، وأعلن أولوا الحول والطول تلك الشدّة، وهل يتسنّى في عصرنا الحاضر لأحد أن يقابل أهل السّلطة بما يرفع سلطتهم ويلغي دولتهم؟ وهل يتركونه وشأنه لو أراد ذلك؟ هيهات هيهات، فقس الماضي على الحاضر، فالناس ناس والزمان زمان.
على أن عليّاً لم ير للإحتجاج عليهم يومئذ أثراً إلاّ الفتنة التي كان يؤثر ضياع حقه على حصولها في تلك الظروف، إذ كان يخشى منها على بيضة الإسلام وكلمة التوحيد كما أوضحناه سابقاً حيث قلنا: إنه مني في تلك الأيام بما لم يمن به أحد، إذ مثل على جناحيه خطبان فادحان، الخلافة بنصوصها ووصاياها إلى جانب تستصرخه وتستفزّه بشكوى تدمي الفؤاد، وحنين يفتت الأكباد، والفتن الطاغية إلى جانب آخر تنذره بانتفاض شبه الجزيرة، وانقلاب العرب، واجتياح الاسلام، وتهدده بالمنافقين من أهل المدينة، وقد مردوا على النفاق، وبمن حولهم من الأعراب، وهم منافقون بنص الكتاب، بل هم أشدّ كفراً ونفاقاً وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله، وقد قويت شوكتهم بفقده صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وأصبح المسلمون بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، بين ذئاب عادية، ووحوش ضارية، ومسيلمة الكذاب، وطليحة بن خويلد الأفاك، وسجاح بنت الحرث الدجالة، وأصحابهم الرعاع الهمج، قائمون ـ في محق الإسلام وسحق المسلمين ـ على ساق، والرومان والأكاسرة والقياصرة وغيرهم كانوا للمسلمين بالمرصاد، إلى كثير من هذه العناصرة الجياشة بكلّ حنق من محمد وآله وأصحابه، وبكلّ حقد وحسيكة لكلمة الإسلام تريد أن تنقض أساسها وتستأصل شأفتها، وإنها لنشيطة في ذلك مسرعة متعجلة، ترى الأمر قد استتب لها، والفرصة ـ بذهاب النبي إلى الرفيق الأعلى ـ قد حانت، فأرادت أن تسخّر الفرصة، وتنتهز تلك الفوضى قبل أن يعود الاسلام إلى قوة وانتظام، فوقف عليّ بين هذين الخطرين، فكان من الطبيعي له أن يقدّم حقّه قرباناً لحياة المسلمين(1)، لكنه أراد الإحتفاظ بحقّه في الخلافة، والإحتجاج على من عدل عنه بها على وجه لا تشق بهما للمسلمين عصاً ولا تقع بينهم فتنة ينتهزها عدوّهم، فقعد في بيته حتى أخرجوه كرهاً بدون قتال، ولو أسرع إليهم ما تمت له حجّة، ولا سطع لشيعته برهان، لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين. والاحتفاظ بحقه من خلافة المسلمين، وحين رأى أن حفظ الاسلام وردّ عادية أعدائه موقوفان في تلك الأيام على الموادعة والمسالمة، شقّ بنفسه طريق الموادعة، وآثر مسالمة القائمين في الأمر، احتفاظاً بالأمة واحتياطاً على الملّة، وضناً بالدين، وإيثاراً للآجلة على العاجلة، وقياماً بالواجب شرعاً وعقلاً من تقديم الأهم ـ في مقام التعارض ـ على المهم، فالظروف يومئذ لا تسع مقاومة بسيف، ولا مقارعة بحجة.
2 ـ ومع ذلك فإنه وبنيه، والعلماء من مواليه، كانوا يستعملون الحكمة في ذكر الوصية، ونشر النصوص الجلية، كما لا يخفى على المتتبعين.
(1) وقد صرّح عليه السلام بذلك في كتاب له بعثه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لمّا ولاّه أمارتها إذ قال: أما بعد، فإنّ اللّه سبحانه بعث محمداً صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نذيراً للعالمين ومهيمناً على المرسلين، فلمّا مضى عليه السلام، تنازع المسلمون الأمر من بعده، فواللّه ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن أهل بيته، ولا أنهم منحّوه عني من بعده، فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون إلى محق دين محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه. إلى آخر كلامه، فراجعه في نهج البلاغة.