ورود الحديث في موارد كثيرة:
قالوا: إنّ هذا الكلام إنّما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لدى خروجه إلى تبوك بسبب تكلّم بعض المنافقين، فيكون قرينةً على عدم إرادة العموم، واختصاص الاستخلاف بذلك المورد فقط، فيسقط الاستدلال.
فأجاب السيّد رحمه اللّه بوجهين:
الوجه الأوّل: إنّ الحديث في نفسه عامّ كما علمت، فمورده ـ لو سلّمنا كونه خاصّاً ـ لا يخرجه عن العموم، لأنّ المورد لا يخصّص الوارد، كما هو مقرّر في محلّه.
قلت:
فإشكال ابن تيميّة(1) بذلك جهلٌ أو تعصّب، ولذا يقول التفتازاني بعد ذكر هذا الإشكال: «فربّما يدفع بأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»(2).
الوجه الثاني: إنّ الحديث لم تنحصر موارده باستخلاف عليّ على المدينة في غزوة تبوك، ليتشبّث الخصم بتخصيصه… فذكر رحمه اللّه موارد عديدة، مستنداً فيها إلى كتب القوم.
قلت:
وقد كتبت سابقاً رسالةً(3) في موارد حديث المنزلة، وصحّحت بعض أسانيدها، وأنا ذاكرٌ هنا خلاصة تلك الرسالة:
المورد 1 و 2: المؤاخاة الأُولى والثانية؛ روى ذلك: أحمد بن حنبل(4)، والطبراني(5)، وأبو نعيم(6)، وابن عساكر(7)، وغيرهم..
رووه عن ابن أبي أوفى، ومحدوج بن زيد الذهلي، وعبداللّه بن العبّاس، وأنس بن مالك، وعمر بن الخطّاب، ويعلى بن مرّة.
وسيأتي بعض الكلام على قضيّة المؤاخاة وأنّها كانت مرّتين، وأنّ ابن تيميّة كذّبها بالمرّة.
المورد 3 و 4: عند ولادة الحسن وولادة الحسين عليهما السلام؛ روى ذلك: الملاّ في سيرته(8)، ومحبّ الدين الطبري(9)، والخوارزمي عن البيهقي بسنده، عن الإمام عليّ بن موسى الرضا، عن آبائه، عن أسماء بنت عميس(10).
المورد 5: يوم خيبر؛ روى ذلك بالأسانيد: ابن المغازلي(11)، والموفّق الخوارزمي(12)، وأبو عبداللّه الكنجي(13).
المورد 6: عند النهي عن الرقاد في المسجد؛ روى ذلك: ابن عساكر(14).
المورد 7: عند سدّ الأبواب؛ روى ذلك: ابن المغازلي الشافعي(15).
وسيأتي الكلام على حديث سدّ الأبواب.
المورد 8: يوم خرج متّكئاً على عليّ؛ روى ذلك: المتّقي الهندي عن جماعة(16)، وابن عساكر(17)، وغيرهم.
المورد 9: في بيت أُمّ سلمة؛ روى ذلك: الطبراني(18)، وابن عساكر(19)، وغيرهما.
المورد 10: في قضية يرويها أنس بن مالك؛ روى ذلك: ابن مردويه(20).
المورد 11: في قضية بنت حمزة عليه السلام؛ روى ذلك: النَسائي(21)، وابن عساكر(22).
المورد 12: يوم غدير خمّ؛ روى ذلك ابن خلّكان في تاريخه(23).
المورد 13: في كلام له مع عقيل؛ روى ذلك: ابن عساكر(24).
أقول:
إنّ عدداً من أحاديث هذه الموارد صحيح بلا ريب، ونحن نكتفي بواحد منها ـ ومن شاء المزيد فليرجع إلى الأسانيد وإلى الرسالة التي ألَّفتها في هذا الموضوع ـ:
قال أبو القاسم الطبراني: «حدّثنا محمود بن محمّد المروزي، قال: حدّثنا حامد بن آدم، قال: حدّثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عبّاس، قال: لمّا آخى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بين أصحابه، بين المهاجرين والأنصار، فلم يؤاخ بين عليّ بن أبي طالب وبين أحد منهم، خرج عليّ مغضباً، حتّى أتى جدولاً من الأرض، فتوسّد ذراعه، فسف عليه الريح، فطلبه النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حتّى وجده، فوكزه برجله فقال له:
قم، فما صلحت أنْ تكون إلاّ أبا تراب، أغضبت علَيَّ حين واخيت بين المهاجرين والأنصار، ولم أُؤاخ بينك وبين أحد منهم؟ أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس بعدي نبيّ؟!
ألا مَن أحبّك حُفّ بالأمن والإيمان، ومن أبغضك أماته اللّه ميتة الجاهلية وحوسب بعمله في الإسلام»(25)..
* فأمّا «الطبراني»: فهو الحافظ الإمام الثقة الغني عن الترجمة.
* وأمّا «محمود بن محمّد المروزي»: فقد ترجم له الخطيب في تاريخه، وذكر أنّه قدم بغداد وحدّث بها..
قال: «روى عنه: محمّد بن مخلد، وعبدالصمد بن علي الطستي، وأبو سهل بن زياد، وإسماعيل بن علي الخطبي، وأبو علي بن الصوّاف، أحاديث مستقيمة».
ثمّ روى عن طريقه حديثاً، وأرّخ وفاته بسنة سبع وتسعين(26).
* وأمّا «حامد بن آدم»: فقد أخرج عنه الحاكم في المستدرك(27)، وذكره ابن حبّان في الثقات(28)، وقال الذهبي: مشّاه ابن عدي(29).
هذا، ولم يذكروا في المقابل إلاّ تكلُّم السعدي الجوزجاني فيه، لكنّه لا يصلح لمعارضة التوثيق؛ لأنّ ابن عدي تعقّبه بقوله: «وحامد بن آدم هذا يروي عن عبداللّه بن المبارك، ومحمّد بن الفضل بن عطية، والفضل بن موسى، والنضر بن محمّد، والنضر بن شميل، وعامّة المراوزة..
ولم أرَ في حديثه إذا روى عن ثقة شيئاً منكراً، وإنّما يؤتى ذلك إذا حدَّث عن ضعيف»(30).. هذا أوّلاً.
وثانياً: فإنّ السعدي الجوزجاني لا يعتمدون على تجريحاته، كما نصّ عليه الحافظ ابن حجر العسقلاني وغيره.
هذا، ولم يذكر الرجل في شيء من كتب الضعفاء والمتروكين للنَسائي والبخاري والدارقطني، وأورده الذهبي في المغني(31) فلم يذكر إلاّ قدح الجوزجاني، وقد عرفت ما فيه.
والظاهر وقوع الخلط على ابن حجر بينه وبين رجل آخر، فليتأمّل.
وعلى الجملة، فهذا القدر يكفينا للاحتجاج على ضوء القواعد المقرّرة.
* وأمّا «جرير» و «ليث» و «مجاهد»: فأئمّة أعلام عندهم بلا خلاف بينهم.
وتلخّص:
أوّلاً: إنّ حديث المنزلة صحيح سنداً، بل هو من أشهر الأحاديث المتواترة عن رسول اللّه، فالطعن في سنده تعصُّب.
وثانياً: إنّه ناظرٌ إلى الآيات الواردة في منازل هارون من موسى، وهي: «الأُخوّة»(32) و«الوزارة»(33) و«القرابة القريبة»(34) و«الخلافة»(35) و«شدّ الأزر»(36).
وثالثاً: إنّ لفظه ظاهر في عموم المنزلة؛ لاشتماله على «اسم الجنس المضاف» وعلى «الاستثناء» وهو معيار العموم، كما نصّ عليه الأئمّة منهم في مختلف العلوم.
ورابعاً: إنّه وارد في موارد متعدّدة، كما في كتب القوم المشهورة، وبعضها صحيح سنداً بلا إشكال، استناداً إلى كتبهم في التراجم والرجال.
وبذلك تفنّد جميع المكابرات، في السند بدعوى ضعفه ـ كما عن الآمدي ـ أو في الدلالة ـ كما عن ابن تيميّة ـ بدعوى كونه مجرّد تشبيه بين عليّ وهارون، أو أنّه وارد في خصوص تبوك، وإذا كان مورده خاصّاً فلا يبقى له عموم!!
بل يدّعي بعضهم ـ زوراً وبهتاناً ـ اتّفاق العلماء على أنّ النبيّ لم يتكلّم بحديث المنزلة إلاّ مرّةً واحدةً وذلك في غزوة تبوك!! وكأنّ الّذين نقلنا عنهم الموارد ليسوا من علمائهم بل هم من جهّالهم!!
فانظر كيف يسوقهم العناد مع الحقّ إلى الكذب وإلى سوء الأدب والافتراء على أكابر علمائهم أيضاً!! والطعن في أعلام التابعين ومشاهير رواة الحديث!!
وعلى الجملة، فعلماؤهم الكبار يروون الموارد التي ذكرها السيّد ـ والموارد الأُخرى التي أضفناها إليها ـ في كتبهم المعروفة المشهورة، وبأسانيد كثيرة، فإذا كانوا كاذبين على اللّه ورسوله فما ذنبنا؟!
ولكنّ الذي يتّهم العلماء بذلك هو ابن تيميّة وأتباعه، وقد انتقد هذه الطريقة منه علماء السُنّة الكبار حتّى من اشتهر منهم بالتعصّب كالذهبي، وابن حجر العسقلاني..
يقول ابن حجر ـ بترجمة ابن تيميّة ـ: «استشعر أنّه مجتهد، فصار يردّ على صغير العلماء وكبيرهم، قديمهم وحديثهم»، قال: «كان إذا حوقق وأُلزم يقول: لم أرد هذا انّما أردت كذا. فيذكر احتمالاً بعيداً»، قال: «وافترق الناس فيه شيعاً، فمنهم من نسبه إلى التجسيم ومنهم من نسبه إلى الزندقة، ومنهم من نسبه إلى النفاق»، قال: «وجدته كثير التحامل إلى الغاية في ردّ الأحاديث التي يوردها ابن المطهّر، ردّ في ردّه كثيراً من الأحاديث الجياد… وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدّته أحياناً إلى تنقيص عليّ رضي اللّه عنه»(37).
هذا، في حين أنّه يدافع عن معاوية، فينكر أن يكون باغياً على أمير المؤمنين عليه السلام وأنّه قد أمر بسبّه على المنابر، ويزعم أنّ الحديث الذي دار بين معاوية وسعد بن أبي وقّاص المخرّج في صحيح مسلم وغيره، لا يدلّ على أنّه كان يأمر بلعن الإمام عليه السلام؟!
وعلى الجملة، فالخطاب في بحوثنا هذه موجّه إلى المسلمين المنصفين، الّذين يريدون التحقيق في أمور الدين، وليس الكلام مع المنافقين الحاقدين على أمير المؤمنين وأهل بيت النبيّ الطاهرين.
(1) منهاج السُنّة 7 : 327.
(2) شرح المقاصد 5 : 276.
(3) مطبوعة في آخر الجزء (18) من كتابنا الكبير نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار.
(4) كما في كنز العمّال 9 : 167 ح 25554، وج 13 : 105 ح 36345.
(5) المعجم الكبير 11 : 75 ح 11092.
(6) كما في طريق ابن عساكر.
(7) تاريخ مدينة دمشق 42 : 52 ـ 53 وص 169.
(8) وسيلة المتعبّدين 5 : 225.
(9) ذخائر العقبى: 209.
(10) مقتل الحسين 1 : 87 ـ 88.
(11) مناقب عليّ بن أبي طالب: 237 / 285.
(12) المناقب للخوارزمي: 128 / 143.
(13) كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب: 264.
(14) تاريخ مدينة دمشق 42 : 139.
(15) مناقب عليّ بن أبي طالب: 255 / 303.
(16) كنز العمّال 13 : 122 ح 36392.
(17) تاريخ مدينة دمشق 42 : 167.
(18) المعجم الكبير 12 : 18 ح 12341.
(19) تاريخ مدينة دمشق 42 : 42.
(20) وعنه في كشف الغمّة في معرفة الأئمّة 1 : 343.
(21) خصائص أمير المؤمنين عليّ: 88. طبع مكتبة نينوى الحديثة. تحقيق: محمد هادى الأميني.
(22) تاريخ مدينة دمشق 42 : 170.
(23) وفيات الأعيان 5 : 231.
(24) تاريخ مدينة دمشق 41 : 17 ـ 18.
(25) المعجم الكبير 11 : 75 ح 11092.
(26) تاريخ بغداد 13 : 94.
(27) لسان الميزان 2 : 163.
(28) الثقات 8 : 218.
(29) المغني 1 : 229.
(30) الكامل في الضعفاء ـ لابن عدي ـ 3 : 409.
(31) المغني 1 : 229.
(32) سورة مريم 19 : 53.
(33) سورة طه 20 : 29، سورة الفرقان 25 : 35، سورة القصص 28 : 34.
(34) سورة طه 20 : 29 و 30.
(35) سورة الأعراف 7 : 142.
(36) سورة طه 20 : 31.
(37) راجع: الدرر الكامنة 1 : 153 ـ 156، ولسان الميزان 6 : 319، كلاهما للحافظ ابن حجر العسقلاني.