هل أنكر اللغوّيون مجيء «المولى» بمعنى «الأوْلى»؟
إنّ دعوى إجماع أهل العربية قاطبة على عدم مجيء «المولى» بمعنى «الأوْلى» لا تصدر إلاّ عن جهل شديد أو من متعصّب عنيد!!
وكلام المولوي عبدالعزيز الدهلوي الهندي موجود في كتابه التحفة الاثنى عشرية بالفارسية(1)، وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية ملخّصاً باسم مختصر التحفة الاثني عشرية، وهذا نصّ ما جاء فيه في ردّ دلالة حديث الغدير:
«أمّا الأحاديث التي تمسّك بها الشيعة على هذا المدّعى فهي اثنا عشر حديثاً:
الأوّل: حديث غدير خمّ المذكور عندهم بشأن عظيم، ويحسبونه نصّاً قطعيّاً في هذا المدّعى، حاصله: إنّ بريدة بن الحصيب الأسلمي روى أنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لمّا نزل بغدير خمّ حين المراجعة عن حجّة الوداع ـ وهو موضع بين مكّة والمدينة ـ أخذ بيد عليّ وخاطب جماعة المسلمين الحاضرين فقال:
يا معشر المسلمين! ألست أوْلى بكم من أنفسكم؟! قالوا: بلى. قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه.
قالت الشيعة في تقرير الاستدلال بهذا الحديث: إنّ المولى بمعنى الأوْلى بالتصرّف؛ وكونه أوْلى بالتصرّف عين الإمامة.
ولا يخفى: إنّ أوّل الغلط في هذا الاستدلال هو إنكار أهل العربية قاطبةً ثبوت ورود المولى بمعنى الأوْلى، بل قالوا: لم يجئ قطّ المفعل بمعنى أفعل في موضع ومادّة أصلاً، فضلاً عن هذه المادّة بالخصوص…»(2).
أقول:
إنّه ـ بغضّ النظر عمّا في هذا الكلام، كإيهامه انفراد «بريدة بن الحصيب» برواية حديث الغدير مع أنّ رواته من الصحابة يبلغون العشرات ـ يدّعي إجماع أهل العربية على عدم مجيء «المولى» بمعنى «الأوْلى»..
ونحن ننقل هنا نصوص جماعة من أعيان الحديث والتفسير واللّغة، الصريحة في مجيء «المولى» بمعنى «الأوْلى»، في جملة من أشهر كتبهم في تلك العلوم:
* قال الفخر الرازي بتفسير قوله تعالى: (هي مولاكم وبئس المصير)(3):
«وفي لفظ المولى ها هنا أقوال: أحدها….
والثاني: قال الكلبي: يعني أوْلى بكم. وهو قول الزجّاج والفرّاء وأبي عبيدة…»(4).
* وقال أبو حيّان الأندلسي بتفسير قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب اللّه لنا هو مولانا وعلى اللّه فليتوكّل المؤمنون)(5):
«… وقال الكلبي: أوْلى بنا من أنفسنا في الموت والحياة. وقيل: مالكنا وسيّدنا، فلهذا يتصرّف كيف شاء، فيجب الرضا بما يصدر من جهته…»(6).
فهذا رأي «محمّد بن السائب الكلبي» و«الفرّاء» و«الزجّاج» و«أبي عبيدة»..
أمّا «الكلبي» فمفسّر مشهور، توفّي سنة 146.
وأمّا «الفرّاء» فهو «أبرع الكوفيّين وأعلمهم بالنحو واللّغة وفنون الأدب»(7)، توفّي سنة 207.
وأمّا «الزجّاج» فهو «الإمام في العربية»(8)، توفّي سنة 311.
وأمّا «أبو عبيدة» فهو «معمر بن المثنّى التيمي البصري اللّغوي العلاّمة الأخباري، صاحب التصانيف، وكان أحد أوعية العلم»(9)، توفّي سنة 210.
* وقال الفخر الرازي: «إنّ أبا عبيدة قال في قوله تعالى: (مأواكم النار هي مولاكم): معناه: هي أوْلى بكم؛ وذكر هذا أيضاً: الأخفش والزجّاج وعلي بن عيسى، واستشهدوا ببيت لبيد…»(10).
و«الأخفش» هو «من أئمّة العربية»(11)، توفّي سنة 215.
و«علي بن عيسى» هو «الرمّاني»: «شيخ العربية(12)، توفّي سنة 384.
* وقال الحسين بن أحمد الزوزني(13) بشرح بيت لبيد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه *** مولى المخافة خلفها وأمامها
«قال ثعلب: إنّ المولى في هذا البيت بمعنى الأوْلى بالشيء، كقوله تعالى: (مأواكم النار هي مولاكم) أي: هي الأوْلى بكم…»(14).
وهذا رأي ثعلب؛ قال الذهبي: العلاّمة المحدّث شيخ اللّغة والعربية(15)، المتوفّى سنة 291.
* وقال الجوهري بشرح قول لبيد:
«يريد: إنّه أوْلى موضع أن يكون فيه الخوف»(16)..
قال الذهبي بترجمته: «والجوهري ـ صاحب الصحاح ـ: أبو نصر إسماعيل بن حمّاد التركي اللّغوي، أحد أئمّة اللسان…»(17).
ووصف السيوطي كتابه الصحاح بقوله: «فهو في كتب اللّغة نظير صحيح البخاري في كتب الحديث، وليس المدار في الاعتماد على كثرة الجمع بل على شرط الصحّة»(18).
* وقال البغوي بتفسير الآية: (مأواكم النار هي مولاكم):
«صاحبكم وأوْلى بكم؛ لِما أسلفتم من الذنوب»(19).
* وقال الزمخشري بتفسيرها:
«قيل: هي أولى بكم، وأنشد بيت لبيد…»(20).
* وقال في أساس البلاغة في مادّة «ولي»:
«ومولاي: سيدي وعبدي، ومولى من الولاية: ناصر، وهو أوْلى به»(21).
* وقال أبوالفرج ابن الجوزي بتفسير الآية:
«قال أبو عبيدة: أي أوْلى بكم»(22).
* وقال النيسابوري:
«قيل: المراد أنّها تتوّلى أُموركم كما تولّيتم في الدنيا أعمال أهل النار. وقيل: أراد هي أوْلى بكم؛ قال جار اللّه: حقيقته هي محراكم ومقمنكم، أي مكانكم الذي يقال فيه: هو أوْلى بكم، كما قيل: هو مئنة للكرم، أي: مكان لقول القائل: إنّه لكريم»(23).
* وبتفسير الآية: (واللّه مولاكم)(24):
«متولّي أُموركم، وقيل: أوْلى بكم من أنفسكم، ونصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم»(25).
* وقال القاضي البيضاوي بتفسير الآية: (هي مولاكم):
«هي أوْلى بكم، كقول لبيد… حقيقته: محراكم، أي مكانكم الذي يقال فيه: أوْلى بكم»(26)..
* وقال النسفي كذلك بالنصّ بتفسيرها في تفسيره الشهير(27).
* وكذا بتفسير الجلالين(28)..
* وبتفسير أبي السعود(29).
ولا يخفى: أنّ هؤلاء أئمّة التفسير عند القوم، وكتبهم أشهر التفاسير المعتمدة في ما بينهم..
واعترف بذلك كبار علماء الكلام، كالسعد التفتازاني والعلاء القوشجي وغيرهما؛ فقد جاء في شرح المقاصد وفي شرح التجريد، وهما من أشهر كتبهم في العقائد ما نصّه: «ولفظ (المولى) قد يراد به: المعتق، والحليف، والجار، وابن العم، والناصر، والأوْلى بالتصرّف..
قال اللّه تعالى: (مأواكم النار هي مولاكم) أي: أوْلى بكم؛ ذكره أبو عبيدة.
وقال النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها… أي: الأوْلى بها، والمالك لتدبير أمرها.
ومثله في الشعر كثير.
وبالجملة، استعمال المولى بمعنى: المتولّي، والمالك للأمر، والأوْلى بالتصرّف، شائع في كلام العرب، منقول عن كثير من أئمّة اللّغة. والمراد: إنّه اسم لهذا المعنى لا أنّه صفة بمنزلة الأوْلى، ليعترض بأنّه ليس من صيغة أفعل التفضيل وأنّه لا يستعمل استعماله»(30).
أقول:
وفي هذا الكلام فوائد:
1 ـ مجيء «المولى» بمعنى «الأوْلى» في الكتاب والسُنّة الصحيحة والشعر الكثير.
2 ـ إنّه منقول عن كثير من أئمّة اللّغة.
3 ـ عدم ورود الاعتراض بأنّ «المولى» لا يستعمل استعمال «الأوْلى».
وقد أشار التفتازاني والقوشجي بذلك إلى اعتراض الفخر الرازي على تلك الاستعمالات الفصيحة الشائعة، بأنّه إذا كان «المولى» يجيء بمعنى «الأوْلى»، فلماذا لا يصحّ أن يقال: «فلان مولى منك» بدلاً من: «أوْلى منك»؟!
هذا الاعتراض الذي أخذه الدهلوي، وقلّده الجهلة، في مقام الجواب عن الاستدلال بحديث الغدير، طرحه الرازي بتفسير (هي مولاكم)؛ إذ قال ـ بعد ذكر قول أئمّة اللّغة بأنّ المعنى: «أوْلى بكم» ـ:
«واعلم أنّ هذا الذي قالوه معنىّ وليس بتفسير للّفظ؛ لأنّه لو كان «مولى» و«أولى» بمعنى واحد في اللّغة، لصحّ استعمال كلّ واحد منهما في مكان الآخر، فكان يجب أن يصحّ أن يقال: هذا مولى من فلان، كما يقال: هذا أوْلى من فلان… ولمّا بطل ذلك، علمنا أنّ الذي قالوه معنىً وليس بتفسير»(31).
ولكنّه في كتاب نهاية العقول عدل عن ذلك؛ إذ قال: «إنّ المولى لو كان يجيء بمعنى الأوْلى لصحّ أن يقرن بأحدهما كلّ ما يصحّ قرنه بالآخر، لكنّه ليس كذلك، فامتنع كون المولى بمعنى الأوْلى… إنّه لا يقال: هو مولى من فلان، كما يقال: هو أوْلى من فلان…» ثمّ قال في نهاية كلامه: «وهذا الوجه فيه نظر مذكور في الأُصول»(32).
والنيسابوري ـ الذي تبع الرازي في كثير من المواضع ـ قال هنا: بأنّ في ما ذكره بحثاً لا يخفى(33).
أقول:
وجه النظر والبحث: وجود موارد كثيرة من المترادفين لا يجوز في اللّغة قيام أحدهما مقام الآخر، وأنّ بينهما فروقاً عديدة..
مثلاً: مدلول «حتّى» و«إلى» هو الغاية، إلاّ أنّ الثاني يدخل على الضمير دون الأوّل.
و: مدلول «الواو» و«حتّى» العاطفتين واحد، لكنّ بينهما فروقاً ذكرها ابن هشام في مغني اللبيب.
وكذا الحال في «إلاّ» و«غير»، و«هل» و«الهمزة» الاستفهاميّتين، كما في كتاب الأشباه والنظائر لجلال الدين السيوطي.
(1) التحفة الاثني عشرية: 208 ـ 210، ط پاكستان.
(2) مختصر التحفة الاثني عشرية: 179 ـ 180، ط الهند.
(3) سورة الحديد 57 : 15.
(4) تفسير الرازي 29 : 227.
(5) سورة التوبة 9 : 51.
(6) البحر المحيط 5 : 433.
(7) وفيات الأعيان 6 : 176 ؛ وانظر: تذكرة الحفّاظ 1 : 372، مرآة الجنان، العبر، وغيرهما.
(8) تهذيب الأسماء واللّغات 2 : 170.
(9) العبر: حوادث 210، تذكرة الحفّاظ 1 : 371، المزهر في اللّغة 2 : 402.
(10) نهاية العقول في الكلام ودراية الأُصول ـ مخطوط.
(11) وفيات الأعيان 2 : 380، مرآة الجنان: حوادث 215، وغيرهما.
(12) العبر: حوادث 384، وفيات الأعيان 3 : 299، بغية الوعاة 2 : 180.
(13) قال السيوطي بترجمته في بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 1 : 531، «الحسين بن أحمد الزوزني القاضي، أبو عبداللّه، قال عبدالغافر: إمام عصره في النحو واللّغة والعربية. مات سنة 486».
(14) شرح المعلّقات السبعة: 91.
(15) تذكرة الحفّاظ 2 : 666، تاريخ بغداد 5 : 204، وفيات الأعيان 1 : 102.
(16) صحاح اللّغة وتاج العربية، مادّة «ولي».
(17) العبر: حوادث سنة 398، بغية الوعاة 1 : 446.
(18) المزهر في اللّغة 1 : 101.
(19) معالم التنزيل 5 : 312.
(20) الكشّاف 6 : 47.
(21) أساس البلاغة، مادّة «ولي».
(22) زاد المسير في علم التفسير 8 : 167.
(23) تفسير غرائب القرآن 6 : 256.
(24) سورة التحريم 66 : 2.
(25) تفسير غرائب القرآن 6 : 320.
(26) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: 716.
(27) تفسير النسفي ـ مدارك التنزيل 2 : 648.
(28) تفسير الجلالين بهامش تفسير البيضاوي 2 : 454.
(29) تفسير أبي السعود العمادي 8 : 208.
(30) شرح المقاصد 5 : 273، شرح التجريد: 369.
(31) تفسير الرازي 29 : 227.
(32) نهاية العقول ـ مخطوط.
(33) تفسير غرائب القرآن 6 : 256.