ما الوجه في الاحتجاج به مع عدم تواتره؟
[حديث الغدير متواتر عندنا وعند الجمهور؛ فلذا يتمّ الاحتجاج به على الإمامة على أُصول الفريقين، وممّا يدلّ على ذلك:]
النواميس الطبيعية تقضي بتواتر نصّ الغدير.
عناية اللّه عزّ وجلّ به.
عناية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
عناية أمير المؤمنين.
عناية الحسين.
عناية الأئمّة التسعة.
عناية الشيعة.
تواتره من طريق الجمهور.
حسبك من وجوه الاحتجاج هنا ما قلناه لك آنفاً ـ في المراجعة 24 ـ.
* على أنّ تواتر حديث الغدير ممّا تقضي به النواميس التي فطر اللّه الطبيعة عليها، شأن كلّ واقعة تاريخية عظيمة يقوم بها عظيم الأُمّة، فيوقعها بمنظر وبمسمع من الأُلوف المجتمعة من أُمّته من أماكن شتّى، ليحملوا نبأها عنه إلى مَن وراءهم من الناس، ولا سيّما إذا كانت من بعده محلّ العناية من أُسرته وأوليائهم في كلّ خلف، حتّى بلغوا بنشرها وإذاعتها كلّ مبلغ، فهل يمكن أن يكون نبؤها ـ والحال هذه ـ من أخبار الآحاد؟! كلاّ بل لابُدّ أن ينتشر انتشار الصبح، فينظم حاشيتي البرّ والبحر (ولن تجد لسُنّت اللّه تحويلاً)(1).
* إنّ حديث الغدير كان محلّ العناية من اللّه عزّ وجلّ؛ إذ أوحاه تبارك وتعالى إلى نبيّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وأنزل فيه قرآناً يرتّله المسلمون آناء الليل وأطراف النهار، يتلونه في خلواتهم وجلواتهم، وفي أورادهم وصلواتهم، وعلى أعواد منابرهم، وعوالي منائرهم: (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللّه يعصمك من الناس)(2)، فلمّا بلّغ الرسالة يومئذ بنصّه على عليّ بالإمامة، وعهده إليه بالخلافة، أنزل اللّه عزّ وجلّ عليه: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)(3)، بخ بخ (ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء)؛ إنّ من نظر إلى هذه الآيات، بخع لهذه العنايات.
* وإذا كانت العناية من اللّه عزّ وجلّ على هذا الشكل، فلا غرو أن يكون من عناية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ما كان، فإنّه لمّا دنا أجله، ونعيت إلى نفسه، أجمع ـ بأمر اللّه تعالى ـ على أن ينادي بولاية عليّ في الحجّ الأكبر على رؤوس الأشهاد، ولم يكتف بنصّ الدار يوم الإنذار بمكّة، ولا بغيره من النصوص المتوالية، وقد سمعت بعضها، فأذّن في الناس قبل الموسم أنّه حاجّ في هذا العام حجّة الوداع، فوافاه الناس من كلّ فجّ عميق، وخرج من المدينة بنحو مئة ألف أو يزيدون(4)..
فلمّا كان يوم الموقف بعرفات نادى في الناس: عليّ منّي، وأنا من عليّ، ولا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو عليّ(5).
ولمّا قفل بمن معه من تلك الألوف وبلغوا وادي خمّ، وهبط عليه الروح الأمين بآية التبليغ عن ربّ العالمين، حطّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هناك رحله، حتّى لحقه من تأخّر عنه من الناس ورجع إليه من تقدّمه منهم، فلمّا اجتمعوا صلّى بهم الفريضة، ثمّ خطبهم عن اللّه عزّ وجلّ، فصدع بالنصّ في ولاية عليّ، وقد سمعت شذرة من شذوره، وما لم تسمعه أصحّ وأصرح، على أنّ في ما سمعته كفاية..
وقد حمله عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كلّ مَن كان معه يومئذ من تلك الجماهير، وكانت تربو على مئة ألف نسمة من بلاد شتّى.
فسُنّة اللّه عزّ وجلّ التي لا تبديل لها في خلقه تقتضي تواتره، مهما كانت هناك موانع تمنع من نقله، على أنّ لأئمّة أهل البيت طرقاً تمثّل الحكمة في بثّه وإشاعته.
* وحسبك منها ما قام به أمير المؤمنين أيّام خلافته؛ إذ جمع الناس في الرحبة فقال: أُنشد اللّه كلّ امرئ مسلم سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول يوم غدير خمّ ما قال، إلاّ قام فشهد بما سمع، ولا يقم إلاّ من رآه بعينيه وسمعه بأذنيه.
فقام ثلاثون صحابياً فيهم اثنا عشر بدرياً، فشهدوا أنّه أخذه بيده، فقال للناس: أتعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟! قالوا: نعم، قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: مَن كنت مولاه فهذا مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه… الحديث.
وأنت تعلم أنّ تواطؤ الثلاثين صحابياً على الكذب ممّا يمنعه العقل، فحصول التواتر بمجرّد شهادتهم ـ إذن ـ قطعي لا ريب فيه، وقد حمل هذا الحديث عنهم كلّ مَن كان في الرحبة من تلك الجموع، فبثّوه بعد تفرّقهم في البلاد، فطار كلّ مطير.
ولا يخفى أنّ يوم الرحبة إنّما كان في خلافة أمير المؤمنين، وقد بويع سنة خمس وثلاثين، ويوم الغدير إنّما كان في حجّة الوداع سنة عشر، فبين اليومين ـ في أقلّ الصور ـ خمس وعشرون سنة، كان في خلالها طاعون عمواس، وحروب الفتوحات والغزوات على عهد الخلفاء الثلاثة..
وهذه المدّة ـ وهي ربع قرن ـ بمجرّد طولها وبحروبها وغاراتها، وبطاعون عمواسها الجارف، قد أفنت جلّ من شهد يوم الغدير من شيوخ الصحابة وكهولهم، ومن فتيانهم المتسرعين ـ في الجهاد ـ إلى لقاء اللّه عزّ وجلّ ورسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، حتّى لم يبق منهم حيّاً بالنسبة إلى مَن مات إلاّ قليل..
والأحياء منهم كانوا منتشرين في الأرض، إذ لم يشهد منهم الرحبة إلاّ من كان مع أمير المؤمنين في العراق من الرجال دون النساء.
ومع هذا كلّه فقد قام ثلاثون صحابياً، فيهم اثنا عشر بدرياً، فشهدوا بحديث الغدير سماعاً من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم..
وربّ قوم أقعدهم البغض عن القيام بواجب الشهادة، كأنس(6) بن مالك وغيره، فأصابتهم دعوة أمير المؤمنين عليه السلام.
ولو تسنّى له أن يجمع كلّ مَن كان حيّاً يومئذ من الصحابة رجالاً ونساء، ثمّ يناشدهم مناشدة الرحبة لشهد له أضعاف الثلاثين، فما ظنّك لو تسنّت له المناشدة في الحجاز قبل أن يمضي على عهد الغدير ما مضى من الزمن؟!
فتدبّر هذه الحقيقة الراهنة تجدها أقوى دليل على تواتر حديث الغدير.
وحسبك ممّا جاء في يوم الرحبة من السُنن ما أخرجه الإمام أحمد ـ من حديث زيد بن أرقم في ص 498 من الجزء الخامس من مسنده ـ عن أبي الطفيل، قال: جمع عليّ الناس في الرحبة ثمّ قال لهم: أُنشد اللّه كلّ امرئ مسلم سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول يوم غدير خمّ ما سمع لما قام. فقام ثلاثون من الناس..
(قال) وقال أبو نعيم: فقام ناس كثير، فشهدوا حين أخذه بيده، فقال للناس: أتعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!
قالوا: نعم يا رسول اللّه.
قال: مَن كنت مولاه فهذا مولاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه.
قال أبو الطفيل: فخرجت وكأنّ في نفسي شيئاً ـ أي من عدم عمل جمهور الأُمّة بهذا الحديث ـ فلقيت زيد بن أرقم، فقلت له: إنّي سمعت عليّاً يقول: كذا وكذا.
قال زيد: فما تنكر؟! قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول ذلك له. انتهى.
قلت: فإذا ضممت شهادة زيد هذه، وكلام عليّ يومئذ في هذا الموضوع، إلى شهادة الثلاثين، كان مجموع الناقلين للحديث يومئذ اثنين وثلاثين صحابياً.
وأخرج الإمام أحمد من حديث عليّ ص 191 من الجزء الأوّل من مسنده عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، قال: شهدت عليّاً في الرحبة ينشد الناس، أُنشد اللّه مَن سمع رسول اللّه يقول يوم غدير خم: مَن كنت مولاه فعليّ مولاه لما قام فشهد.
قال عبدالرحمن: فقام اثنا عشر بدرياً كأنّي أنظر إلى أحدهم، فقالوا: نشهد أنّا سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول يوم غدير خمّ: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجي أمّهاتهم؟!
فقلنا: بلى يا رسول اللّه.
قال: فمَن كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه. انتهى.
ومن طريق آخر، أخرجه الإمام أحمد في ص 192، قال: اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر مَن نصره، واخذل مَن خذله، قال: فقام إلاّ ثلاثة لم يقوموا، فدعا عليهم فأصابتهم دعوته. انتهى.
وأنت إذا ضممت عليّاً وزيد بن أرقم إلى الاثني عشر المذكورين في الحديث، كان البدريون يومئذ 14 رجلاً، كما لا يخفى.
ومن تتبّع السُنن الواردة في مناشدة الرحبة، عرف حكمة أمير المؤمنين في نشر حديث الغدير وإذاعته.
* ولسيّد الشهداء أبي عبداللّه الحسين عليه السلام موقف ـ على عهد معاوية ـ حصحص فيه الحقّ، كموقف أمير المؤمنين في الرحبة؛ إذ جمع الناس ـ أيام الموسم بعرفات ـ فأشاد بذكر جدّه وأبيه وأُمّه وأخيه، فلم يسمع سامع بمثله بليغاً حكيماً يستعبد الأسماع ويملك الأبصار والأفئدة، جمع في خطابه فأوعى، وتتبّع فاستقصى، وأدّى يوم الغدير حقّه، ووفّاه حسابه، فكان لهذا الموقف العظيم أثره في اشتهار حديث الغدير وانتشاره.
* وإنّ للأئمّة التسعة من أبنائه الميامين طرقاً ـ في نشر هذا الحديث وإذاعته ـ تريك الحكمة محسوسة بجميع الحواس….
كانوا يتّخذون اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة عيداً في كلّ عام، يجلسون فيه للتهنئة والسرور، بكلّ بهجة وحبور، ويتقرّبون فيه إلى اللّه عزّ وجلّ بالصوم والصلاة، والابتهال ـ بالأدعية ـ إلى اللّه، ويبالغون فيه بالبرّ والإحسان، شكراً لما أنعم اللّه به عليهم في مثل ذلك اليوم من النصّ على أمير المؤمنين بالخلافة والعهد إليه بالإمامة، وكانوا يصلون فيه أرحامهم، ويوسّعون على عيالهم، ويزورون إخوانهم، ويحفظون جيرانهم، ويأمرون أولياءهم بهذا كلّه.
* وبهذا كان يوم 18 من ذي الحجّة في كلّ عام عيداً عند الشيعة(7) في جميع الأعصار والأمصار، يفزعون فيه إلى مساجدهم، للصلاة فريضة ونافلة، وتلاوة القرآن العظيم، والدعاء بالمأثور، شكراً للّه تعالى على إكمال الدين وإتمام النعمة، بإمامة أمير المؤمنين، ثمّ يتزاورون ويتواصلون فرحين مبتهجين، متقرّبين إلى اللّه بالبرّ والإحسان، وإدخال السرور على الأرحام والجيران.
ولهم في ذلك اليوم من كلّ سنة زيارة لمشهد أمير المؤمنين، لا يقلّ المجتمعون فيها عند ضراحه عن مئة ألف، يأتون من كلّ فجّ عميق ليعبدوا اللّه بما كان يعبده في مثل ذلك اليوم أئمّتهم الميامين، من الصوم والصلاة والإنابة إلى اللّه، والتقرّب إليه بالمبرّات والصدقات، ولا ينفضّون حتّى يحدقوا بالضراح الأقدس فيلقوا ـ في زيارته ـ خطاباً مأثوراً عن بعض أئمّتهم، يشتمل على الشهادة لأمير المؤمنين بمواقفه الكريمة، وسوابقه العظيمة، وعنائه في تأسيس قواعد الدين، وخدمة سيّد النبيّين والمرسلين، إلى ما له من الخصائص والفضائل التي منها عهد النبيّ إليه، ونصّه يوم الغدير عليه..
هذا دأب الشيعة في كلّ عام، وقد استمرّ خطباؤهم على الإشادة في كلّ عصر ومصر بحديث الغدير مسنداً ومرسلاً، وجرت عادة شعرائهم على نظمه في مدائحهم قديماً(8) وحديثاً..
فلا سبيل إلى التشكيك في تواتره من طريق أهل البيت وشيعتهم؛ فإنّ دواعيهم لحفظه بعين لفظه، وعنايتهم بضبطه وحراسته ونشره وإذاعته، بلغت أقصى الغايات، وحسبك ما تراه في مظّانه من الكتب الأربعة وغيرها من مسانيد الشيعة المشتملة على أسانيده الجمّة المرفوعة، وطرقه المعنعنة المتّصلة، ومن ألمّ بها تجلّى له تواتر هذا الحديث من طرقهم القيّمة.
* بل لا ريب في تواتره من طريق أهل السُنّة بحكم النواميس الطبيعية، كما سمعت، (لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)(9)..
وصاحب الفتاوى الحامدية ـ على تعنّته ـ يصرّح بتواتر الحديث في رسالته المختصرة الموسومة بـ: الصلوات الفاخرة في الأحاديث المتواترة.
والسيوطي وأمثاله من الحفّاظ ينصّون على ذلك.
ودونك محمّد بن جرير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ المشهورين، وأحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة، ومحمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي، فإنّهم تصدّوا لطرقه، فأفرد له كلّ منهم كتاباً على حدة، وقد أخرجه ابن جرير في كتابه من خمسة وسبعين طريقاً، وأخرجه ابن عقدة في كتابه من مائة وخمسة طرق(10)، والذهبي ـ على تشدّده ـ صحّح كثيراً من طرقه(11)..
وفي الباب السادس عشر من غاية المرام تسعة وثمانون حديثاً من طريق أهل السُنّة في نصّ الغدير، على أنّه لم ينقل عن الترمذي، ولا عن النسائي، ولا عن الطبراني، ولا عن البزّار، ولا عن أبي يعلى، ولا عن كثير ممّن أخرج هذا الحديث..
والسيوطي نقل الحديث في أحوال عليّ من كتابه تاريخ الخلفاء عن الترمذي، ثمّ قال: وأخرجه أحمد عن عليّ، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن أرقم، وعمرو ذي مر(12).
(قال:) وأبو يعلى عن أبي هريرة، والطبراني عن ابن عمر، ومالك بن الحويرث، وحبشي بن جنادة، وجرير، وسعد بن أبي وقّاص، وأبي سعيد الخدري، وأنس.
(قال:) والبزّار، عن ابن عبّاس وعمارة وبريدة. انتهى.
وممّا يدلّ على شيوع هذا الحديث وإذاعته، ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده(13)، عن رباح بن الحارث، من طريقين إليه، قال: جاء رهط إلى عليّ فقالوا: السلام عليك يا مولانا.
قال: مَن القوم؟
قالوا: مواليك يا أمير المؤمنين.
قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟!
قالوا: سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يوم غدير خمّ يقول: مَن كنت مولاه، فإنّ هذا مولاه..
قال رباح: فلمّا مضوا تبعتهم، فسألت: مَن هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيّوب الأنصاري. انتهى.
وممّا يدلّ على تواتره ما أخرجه أبو إسحاق الثعلبي في تفسير سورة المعارج من تفسيره الكبير، بسندين معتبرين، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لمّا كان يوم غدير خمّ نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد عليّ فقال: مَن كنت مولاه، فعليّ مولاه، فشاع ذلك فطار في البلاد..
وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على ناقة له، فأناخها ونزل عنها، وقال: يا محمّد! أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّك رسول اللّه، فقبلنا منك، وأمرتنا أن نصلّي خمساً فقبلنا منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم رمضان فقبلنا، وأمرتنا بالحجّ فقبلنا، ثمّ لمّ ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك تفضّله علينا، فقلت: مَن كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شيء منك أم من اللّه؟!
فقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: فواللّه الذي لا إله إلاّ هو، إنّ هذا لمن اللّه عزّ وجلّ.
فولّى الحارث يريد راحلته وهو يقول: اللّهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّاً، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل إلى راحلته حتّى رماه اللّه سبحانه بحجر سقط على هامته، فخرج من دُبره فقتله، وأنزل اللّه تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع * من اللّه ذي المعارج)(14). انتهى الحديث بعين لفظه(15)..
وقد أرسله جماعة من أعلام أهل السُنّة إرسال المسلّمات(16).
(1) سورة فاطر 35 : 43.
(2) لا كلام عندنا في نزولها بولاية عليّ يوم غدير خمّ، وأخبارنا في ذلك متواترة عن أئمّة العترة الطاهرة، وحسبك ممّا جاء في ذلك من طريق غيرهم، ما أخرجه الإمام الواحدي في تفسير الآية من سورة المائدة ص 204 من كتابه أسباب النزول، من طريقين معتبرين عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: نزلت هذه الآية: (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك) يوم غدير خمّ في عليّ بن أبي طالب.
قلت: وهو الذي أخرجه الحافظ أبو نعيم في تفسيرها من كتابه نزول القرآن بسندين، (أحدهما) عن أبي سعيد (والآخر) عن أبي رافع، ورواه الإمام إبراهيم بن محمّد الحمويني الشافعي في كتابه الفرائد بطرق متعدّدة عن أبي هريرة، وأخرجه الإمام أبو إسحاق الثعلبي في معنى الآية من تفسيره الكبير، بسندين معتبرين.
وممّا يشهد له أنّ الصلاة كانت قبل نزولها قائمة، والزكاة مفروضة، والصوم كان مشروعاً، والبيت محجوجاً، والحلال بيّناً، والحرام بيّناً، والشريعة متّسقة، وأحكامها مستتبّة، فأي شيء غير ولاية العهد يستوجب من اللّه هذا التأكيد، ويقتضي الحثّ على بلاغه بما يشبه الوعيد؟! وأي أمر غير الخلافة يخشى النبيّ الفتنة بتبليغه، ويحتاج إلى العصمة من أذى الناس بأدائه؟!
(3) صحاحنا في نزول هذه الآية بما قلناه متواترة من طريق العترة الطاهرة، فلا ريب فيه، وإن روى البخاري أنّها نزلت يوم عرفة ـ وأهل البيت أدرى ـ.
(4) قال السيّد أحمد زيني دحلان في باب حجّة الوداع من كتابه السيرة النبوية: وخرج معه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ من المدينة ـ تسعون ألفاً، ويقال مئة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، ويقال أكثر من ذلك. (قال:) وهذه عدّة من خرج معه، وأمّا الّذين حجّوا معه فأكثر من ذلك، إلى آخر كلامه؛ ومنه يعلم أنّ الّذين قفلوا معه كانوا أكثر من مئة ألف، وكلّهم شهدوا حديث الغدير.
(5) أوردنا هذا الحديث في المراجعة 48، فراجعه تجده الحديث 15 ولنا هناك في أصل الكتاب وفي التعليقة عليه كلام يجدر بالباحثين أن يقفوا عليه.
(6) حيث قال له عليّ عليه السلام: ما لك لا تقوم مع أصحاب رسول اللّه فتشهد بما سمعته يومئذ منه؟! فقال: يا أمير المؤمنين! كبرت سنّي ونسيت. فقال عليّ: إن كنت كاذباً فضربك اللّه ببيضاء لا تواريها العمامة، فما قام حتّى ابيضّ وجهه برصاً، فكان بعد ذلك يقول: أصابتني دعوة العبد الصالح. انتهى.
قلت: هذه منقبة مشهورة ذكرها الإمام ابن قتيبة الدينوري، حيث ذكر أنساً في أهل العاهات من كتابه (المعارف) صفحة 580، ويشهد لها ما أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في صفحة 192 من الجزء الأوّل من مسنده؛ حيث قال: فقام إلاّ ثلاثة لم يقوموا فدعا عليهم، فأصابتهم دعوته.
(7) قال ابن الأثير في عدّه حوادث سنة 352 من كامله: وفيها في ثامن عشر ذي الحجّة، أمر معزّ الدولة بإظهار الزينة في البلد ـ بغداد ـ وأُشعلت النيران بمجلس الشرطة، وأظهر الفرح، وفتحت الأسواق بالليل كما يُفعل ليالي الأعياد، فعل ذلك فرحاً بعيد الغدير ـ يعني غدير خمّ ـ وضربت الدبادب والبوقات، وكان يوماً مشهوداً. انتهى بلفظه في ص 549 ج 8 من تاريخه.
(8) قال الكميت بن زيد:
ويوم الدوح دوح غدير خمّ *** أبان له الولاية لو أطيعا.. الخ
وقال أبو تمام من عبقريته الرائية، وهي في ديوانه:
ويوم الغدير استوضح الحقّ أهله *** بفيحاء لا فيها حجاب ولا سرّ
أقام رسول اللّه يدعوهم بها *** ليقربهم عرف وينآهم نكرُ
يمد بضبعيه ويعلم أنّه *** وليّ ومولاكم فهل لكم خبرٌ؟
يروح ويغدو بالبيان لمعشر *** يروح بهم غمر ويغدو بهم غمرُ
فكان له جهر بإثبات حقّه *** وكان لهم في برّهم حقّه جهرُ
أثمّ جعلتم حظّه حدّ مرهف *** من البيض يوماً حظّ صاحبه القبرُ
(9) سورة الروم 30 : 30.
(10) نصّ صاحب غاية المرام في أواخر الباب 16 ص 302، ذيل رواية التاسع والثمانون من كتابه المذكور: أنّ ابن جرير أخرج حديث الغدير من خمسة وسبعين طريقاً وأفرد له كتابا سمّاه كتاب: الولاية، وأنّ ابن عقدة أخرجه من مائة وخمسة طرق في كتاب أفرده له أيضاً.
ونصّ الإمام أحمد بن محمّد بن الصدّيق المغربي على أنّ كلاًّ من الذهبي وابن عقدة أفردا لهذا الحديث كتاباً خاصّاً به، فراجع خطبة كتابه القيّم الموسوم بـ: فتح الملك العليّ بصحّة حديث باب مدينة العلم عليّ.
(11) نصّ على ذلك ابن حجر في الفصل 5 من الباب الأوّل من صواعقه.
(12) أقول: وأخرجه أيضاً من حديث ابن عبّاس ص 545 من الجزء الأوّل من مسنده، ومن حديث البراء في ص 355 ج 5 من مسنده.
(13) راجع ص 583 ج 6.
(14) سورة المعارج 70 : 1 ـ 3.
(15) وقد نقله عن الثعلبي جماعة من أعلام السُنّة، كالعلاّمة الشبلنجي المصري في أحوال عليّ من كتابه نور الأبصار فراجع منه ص 87 إن شئت.
(16) فراجع ما نقله الحلبي من أخبار حجّة الوداع في سيرته المعروفة بـ: السيرة الحلبية، تجد هذا الحديث في آخر ص 274 من جزئها الثالث.