قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدّق به أُولئك هم المتّقون)(1)
قال السيّد:
«وقد صدّقوا بالصّدق، فشهد لهم الحقّ تبارك اسمه فقال: (والذي جاء بالصّدق وصدّق به أُولئك هم المتّقون)».
فقال في الهامش:
«الذي جاء بالصّدق رسول اللّه، والذي صدّق به أمير المؤمنين، بنصّ الباقر والصادق والكاظم والرضا وابن عبّاس وابن الحنفية وعبداللّه بن الحسن والشهيد زيد بن عليّ بن الحسين وعليّ بن جعفر الصادق، وكان أمير المؤمنين يحتجّ بها لنفسه.
وأخرج ابن المغازلي في مناقبه، عن مجاهد، قال: الذي جاء بالصّدق محمّد، والذي صدّق به عليّ. وأخرجه الحافظان ابن مردويه وأبونعيم، وغيرهما»(2).
فقيل:
«من طريق أبي نعيم، عن مجاهد، (وصدّق به) قال: عليّ.
وقول مجاهد وحده ـ لو ثبت عنه ـ ليس بحجّة، كيف؟! والثابت عنه خلاف هذا، وهو أنّ الصدق القرآن، والذي صدّق به هو من عمل به.
وماذكر معارض بما هو أشهر عند المفسّرين وهو: أنّ الذي صدّق به أبو بكر الصدّيق. ذكره ابن جرير وغيره.
وقد سئل أبو جعفر الفقيه ـ غلام الخلاّل ـ عن هذه الآية فقال: نزلت في أبي بكر. فقال السائل: بل في عليّ. فقال أبو جعفر الفقيه: إقرأ ما بعدها فقرأ إلى قوله (الزمر: 35): (ليكفّر اللّه عنهم أسوأ الذي عملوا) فقال: عليّ عندك معصوم لا سيّئة له، فما الذي يُكفَّر عنه؟! فبهت السائل!
ولفظ الآية عامّ مطلق، دخل في حكمها أبو بكر وعليّ وخلق.
قال ابن جرير: «والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ اللّه تعالى ذكره عنى بقوله: (والذي جاء بالصدق وصدّق به) كلّ من دعا إلى توحيد اللّه وتصديق رسوله والعمل بما ابتعث به رسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من بين رسول اللّه وأتباعه والمؤمنين به، وأنْ يقال: الصدق هو القرآن وشهادة أن لا إله إلا اللّه، والمصدّق به: المؤمنون بالقرآن من جميع خلق اللّه، كائناً من كان من نبيّ اللّه وأتباعه.
واعلم أنّ (الذي) في الآية بمعنى «الّذين» بدليل قوله بعده: (أُولئك هم المتّقون)و«الذي» تأتي بمعنى «الّذين» في القرآن وفي كلام العرب…».
أقول:
أوّلاً: لم يكن مجاهد وحده في القول المذكور، فقد ذكر السيّد جماعةً من القائلين به من أئمّة أهل البيت عليهم السلام ومن غيرهم ولم يذكر البعض الآخر، فقد رواه السيوطي عن ابن مردويه عن أبي هريرة(3).
وقال أبو حيّان: «وقال أبو الأسود ومجاهد وجماعة: الذي صدّق به هو عليّ بن أبي طالب»(4).
وبذلك يكون هذا القول هو المشهور المتّفق عليه.
وثانياً: إنّه لا تعارض بين قولَي مجاهد، إلاّ أنّه قد عيّن في الرواية الأولى عنه مصداق «من عمل به»، لكنّ القول الثاني غير ثابت عنه، فلم يذكره القرطبي وغيره(5).
وثالثاً: كيف يُدّعى التعارض بين التفسير المذكور وتفسير الآية بأبي بكر، والحال أنّ الأوّل متّفق عليه بين المسلمين دون الثاني؟!
ورابعاً: إنّ تفسيرها بأبي بكر خلاف الصواب عند ابن جرير، وقد وصف هذا المفتري محمّد بن جرير الطبري بـ«شيخ المفسّرين»!
وخامساً: إنّ ما صوَّبه الطبري في تفسير الآية وشيّده هذا المفتري هو الأخذ بالعموم، ومن المعلوم أن لا تنافي بين العامّ والخاصّ، فقد ذكر أئمّة أهل البيت وغيرهم المصداق التامّ لهذا العامّ.
هذا، ولا يخفى أنّ كلّ ما ذكره هذا المتقوّل فهو من ابن تيميّة، وحتّى الحكاية التي أوردها، قال ابن تيميّة: «وفي هذا حكاية ذكرها بعضهم عن أبي بكر عبدالعزيز بن جعفر غلام أبي بكر الخلاّل: إنّ سائلاً سأله عن هذه الآية فقال له ـ هو أو بعض الحاضرين ـ: نزلت في أبي بكر؛ فقال السائل: بل في عليّ! فقال أبو بكر بن جعفر: إقرأ ما بعدها (أُولئك هم المتّقّون) ـ إلى قوله: ـ (ليكفّر اللّه عنهم أسوأ الذي عملوا) فبهت السائل»(6).
وانظر كم هو الفرق بين اللفظين، بغضّ النظر عن الخطأ في الاسم؟!!
والذي يظهر من الحكاية أنّ السائل من أهل السُنّة القائلين بنزول الآية في عليّ عليه السلام، فأراد المجيب أن يصرفه عن هذا الرأي، من جهة أنّ عليّاً عليه السلام لم يصدر منه ما يصدق معه قوله تعالى في ذيل الآية: (ليكفّر اللّه عنهم…)….
فنقول: نعم، لم يصدر منه شيء من ذلك، كما لم يصدر من النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ومع ذلك جاء في الخطاب له: (ليغفر لك اللّه ما تقدَّم من ذنبك وما تأخّر)(7)والجواب هو الجواب، وملخّصه: أنّه ليس المراد من «الذنب» هنا، و«أسوأ الذي عملوا» هناك، هو المحرّمات، بل المراد هو «الذنب» و«الأسوأ» عند القوم!
وعلى الجملة، فإن المقصود هو الإستدلال بالقول المتّفق عليه بين الطرفين؛ لأنّ الإحتجاج به أقوى، والإلزام به أتمّ، وقد عرفت أنّ القائل به منهم جماعة من الصحابة وكبار المفسّرين، والقول بأنّ المراد أبو بكر لا قائل به من الأكابر المعتمدين، ولذا اضطرّوا إلى نسبته إلى عليٍّ أمير المؤمنين!!
(1) سورة الزمر 39 : 33.
(2) المراجعات: 36.
(3) الدرّ المنثور 7 : 228.
(4) البحر المحيط 9 : 203.
(5) الجامع لأحكام القرآن 15 : 256.
(6) منهاج السُنّة 7 : 189.
(7) سورة الفتح 48 : 2.