حديث المنزلة
قال السيّد:
«وأنزله منه منزلة هارون من موسى، ولم يستثنِ من جميع المنازل إلاّ النبوّة، واستثناؤها دليل على العموم.
وأنت تعلم أنّ أظهر المنازل التي كانت لهارون من موسى: وزارته له، وشدّ أزره به، واشتراكه معه في أمره، وخلافته عنه، وفرض طاعته على جميع أُمّته؛ بدليل قوله: (واجعل لي وزيراً من أهلي * هارون أخي * اشدُد به أزري *وأشركه في أمري)(1).
وقوله: (اخلُفني في قومي وأصلح ولا تتّبع سبيل المفسدين)(2).
وقوله عزّ وعلا: (قد أُوتيت سؤلك يا موسى)(3).
فعليّ بحكم هذا النصّ خليفة رسول اللّه في قومه، ووزيره في أهله، وشريكه في أمره ـ على سبيل الخلافة عنه لا على سبيل النبوّة ـ وأفضل أُمّته، وأولاهم به حيّاً وميّتاً، وله عليهم من فرض الطاعة زمن النبيّ ـ بوزارته له ـ مثل الذي كان لهارون على أُمّة موسى زمن موسى، ومن سمع حديث المنزلة فإنّما يتبادر منه إلى ذهنه هذه المنازل كلّها ولا يرتاب في إرادتها منه.
وقد أوضح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم الأمر، فجعله جليّاً بقوله: إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي..
وهذا نصّ صريح في كونه خليفته، بل نصّ جليّ في أنّه لو ذهب ولم يستخلفه كان قد فعل ما لا ينبغي أن يفعل، وهذا ليس إلاّ لأنّه كان مأموراً من اللّه عزّوجلّ باستخلافه، كما ثبت في تفسير قوله تعالى: (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته)(4).
ومَن تدبّر قوله تعالى في هذه الآية: (فما بلّغت رسالته) ثمّ أمعن النظر في قول النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي، وجدهما يرميان إلى غرض واحد، كما لا يخفى.
ولا تنسَ قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في هذا الحديث: أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؛ فإنّه نصّ في أنّه وليّ الأمر وواليه والقائم مقامه فيه، كما قال الكميت رحمه اللّه تعالى:
ونعم وليّ الأمر بعد وليّه *** ومنتجع التقوى ونعم المؤدّب»(5)
حديث المنزلة من أثبت الآثار.
القرائن الحاكمة بذلك.
مخرجوه من أهل السُنّة.
السبب في تشكيك الآمدي.
* ظلم الآمدي ـ بهذا التشكيك ـ نفسه، فإنّ حديث المنزلة من أصحّ السُنن وأثبت الآثار.
* لم يختلج في صحّة سنده ريب، ولا سنح في خواطر أحد أن يناقش في ثبوته ببنت شفة، حتّى أنّ الذهبي ـ على تعنّته ـ صرّح في تلخيص المستدرك بصحّته(6)، وابن حجر الهيتمي ـ على محاربته بصواعقه ـ ذكر الحديث في الشبهة 12 من الصواعق، فنقل القول بصحّته عن أئمّة الحديث الّذين لا معوّل فيه إلاّ عليهم، فراجع(7).
ولولا أنّ الحديث بمثابة من الثبوت، ما أخرجه البخاري في كتابه، فإنّ الرجل يغتصب نفسه عند خصائص عليّ وفضائل أهل البيت اغتصاباً.
ومعاوية كان إمام الفئة الباغية، ناصب أمير المؤمنين وحاربه، ولعنه على منابر المسلمين، وأمرهم بلعنه، لكنّه ـ بالرغم عن وقاحته في عداوته ـ لم يجحد حديث المنزلة ولا كابر فيه سعد بن أبي وقّاص حين قال له ـ في ما أخرجه مسلم(8) ـ: ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه، فلن أسبّه، لأنْ تكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم، سمعت رسول اللّه يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه: أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبوّة بعدي.. الحديث(9)، فأبلس معاوية، وكفّ عن تكليف سعد.
أزيدك على هذا كلّه: إنّ معاوية نفسه حدّث بحديث المنزلة؛ قال ابن حجر في صواعقه(10): أخرج أحمد أنّ رجلاً سأل معاوية عن مسألة، فقال: سل عنها عليّاً فهو أعلم، قال: جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب عليّ، قال: بئس ما قلت! لقد كرهت رجلاً كان رسول اللّه يغرّه بالعلم غرّاً، ولقد قال له: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، وكان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذ منه. إلى آخر كلامه(11).
وبالجملة، فإنّ حديث المنزلة ممّا لا ريب في ثبوته بإجماع المسلمين على اختلافهم في المذاهب والمشارب.
* وقد أخرجه صاحب الجمع بين الصحاح الستّة(12). وصاحب الجمع بين الصحيحين(13). وهو موجود في غزوة تبوك من صحيح البخاري(14)، وفي باب فضائل عليّ من صحيح مسلم(15). وفي باب فضائل أصحاب النبيّ من سُنن ابن ماجة(16). وفي مناقب عليّ من مستدرك الحاكم(17)..
وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من حديث سعد بطرق إليه كثيرة(18)، ورواه في المسند أيضاً من حديث كلّ من: ابن عبّاس(19)، وأسماء بنت عميس(20)، وأبي سعيد الخدري(21)، ومعاوية بن أبي سفيان(22)، وجماعة آخرين من الصحابة.
وأخرجه الطبراني من حديث كلّ من: أسماء بنت عميس، وأُمّ سلمة، وحبشي بن جنادة، وابن عمر، وابن عبّاس، وجابر بن سمرة، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وعليّ بن أبي طالب(23)، وغيرهم. وأخرجه البزّار في مسنده(24). والترمذي في صحيحه(25)، من حديث أبي سعيد الخدري.
وأورده ابن عبدالبرّ في أحوال عليّ من الاستيعاب، ثمّ قال ما هذا نصّه: وهو من أثبت الآثار وأصحّها، رواه عن النبيّ سعد بن أبي وقّاص، ـ قال: ـ وطرق حديث سعد فيه كثيرة جدّاً، ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره، ـ قال: ـ ورواه ابن عبّاس، وأبو سعيد الخدري، وأُمّ سلمة، وأسماء بنت عميس، وجابر بن عبداللّه، وجماعة يطول ذكرهم. هذا كلام ابن عبدالبرّ.
وكلّ من تعرّض لغزوة تبوك من المحدّثين وأهل السير والأخبار نقلوا هذا الحديث.
ونقله كلّ من ترجم عليّاً من أهل المعاجم في الرجال من المتقدّمين والمتأخرّين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم.
ورواه كلّ من كتب في مناقب أهل البيت وفضائل الصحابة من الأئمّة، كأحمد بن حنبل وغيره ممّن كان قبله أو جاء بعده.
وهو من الأحاديث المسلّمة في كلّ خلف من هذه الأُمّة.
* فلا عبرة بتشكيك الآمدي في سنده فإنّه ليس من علم الحديث في شيء، وحكمه في معرفة الأسانيد والطرق حكم العوام لا يفقهون حديثاً، وتبحّره في علم الأُصول هو الذي أوقعه في هذه الورطة؛ حيث رآه بمقتضى الأُصول نصّاً صريحاً لا يمكن التخلّص منه إلاّ بالتشكيك في سنده، ظنّاً منه أنّ هذا من الممكن. وهيهات هيهات ذلك.
أهل الضاد يحكمون بعموم الحديث.
تزييف القول باختصاصه.
إبطال القول بعدم حجّيته.
* نحن نوكل الجواب عن قولهم بعدم عموم الحديث إلى أهل اللسان والعرف العربيّين، وأنت حجّة العرب لا تدافع، ولا تنازع، فهل ترى أُمّتك ـ أهل الضاد ـ يرتابون في عموم المنزلة من هذا الحديث؟!
كلاّ وحاشا مثلك أن يرتاب في عموم اسم الجنس المضاف وشموله لجميع مصاديقه؛ فلو قلت: منحتكم إنصافي ـ مثلاً ـ أيكون إنصافك هذا خاصّاً ببعض الأُمور دون بعض، أم عامّاً شاملاً لجميع مصاديقه؟! معاذ اللّه أن تراه غير عامّ، أو يتبادر منه إلاّ الاستغراق..
ولو قال خليفة المسلمين لأحد أوليائه: جعلت لك ولايتي على النّاس، أو منزلتي منهم، أو منصبي فيهم، أو ملكي، فهل يتبادر إلى الذهن غير العموم؟! وهل يكون مدّعي التخصيص ببعض الشؤون دون بعض إلاّ مخالفاً مجازفاً؟!
ولو قال لأحد وزرائه: لك في أيامي منزلة عمر في أيّام أبي بكر إلاّ أنّك لست بصحابي، أكان هذا بنظر العرف خاصّاً ببعض المنازل أم عامّاً؟! ما أراك ـ واللّه ـ تراه إلاّ عامّاً..
ولا أرتاب في أنّك قائل بعموم المنزلة في قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، قياساً على نظائره في العرف واللغة، ولا سيّما بعد استثناء النبوّة فإنّه يجعله نصّاً في العموم، والعرب ببابك، فسلها عن ذلك.
* أمّا قول الخصم بأنّ الحديث خاصّ بمورده، فمردود من وجهين:
الوجه الأوّل: إنّ الحديث في نفسه عامّ كما علمت، فمورده ـ لو سلّمنا كونه خاصّاً ـ لا يخرجه عن العموم، لأنّ المورد لا يخصّص الوارد كما هو مقرّر في محلّه..
ألا ترى لو رأيت الجنب يمسّ آية الكرسي ـ مثلاً ـ، فقلت له: لا يمسنّ آيات القرآن محدِث، أيكون هذا خاصّاً بمورده، أم عامّاً شاملاً لجميع آيات القرآن ولكلّ محدِث؟! ما أظنّ أحداً يفهم كونه خاصّاً بمسّ الجنب بخصوصه لآية الكرسي بالخصوص..
ولو رأى الطبيب مريضاً يأكل التمر فنهاه عن أكل الحلو، أيكون في نظر العرف خاصّاً بمورده، أم عامّاً شاملاً لكلّ مصاديق الحلو؟! ما أرى ـ واللّه ـ القائل بكونه خاصّاً بمورده إلاّ في منتزح عن الأُصول، بعيداً عن قواعد اللغة، نائياً عن الفهم العرفي، أجنبياً عن عالمنا كلّه، وكذا القائل بتخصيص العموم في حديث المنزلة بمورده من غزوة تبوك، لا فرق بينهما أصلاً.
الوجه الثاني: إنّ الحديث لم تنحصر موارده باستخلاف عليّ على المدينة في غزوة تبوك ليتشبّث الخصم بتخصيصه به، وصحاحنا المتواترة عن أئمّة العترة الطاهرة تثبت وروده في موارد أُخر، فليراجعها الباحثون، وسُنن أهل السُنّة تشهد بذلك، كما يعلمه المتتّبعون، فقول المعترض بأنّ سياق الحديث دالّ على تخصيصه بغزوة تبوك ممّا لا وجه له إذن، كما لا يخفى.
* أمّا قولهم بأنّ العامّ المخصوص ليس بحجّة في الباقي، فغلط واضح، وخطأ فاضح، وهل يقول به في مثل حديثنا إلاّ من يعتنف الأُمور، فيكون منها على غماء، كراكب عشواء، في ليلة ظلماء؟! نعوذ باللّه من الجهل، والحمد للّه على العافية.
إن تخصيص العامّ لا يخرجه عن الحجّية في الباقي إذا لم يكن المخصّص مجملاً، ولا سيّما إذا كان متّصلاً ـ كما في حديثنا ـ، فإنّ المولى إذا قال لعبده: أكرم اليوم كلّ من زارني إلاّ زيداً، ثمّ ترك العبد إكرام غير زيد ممّن زار مولاه، يعدّ في العرف عاصياً، ويلومه العقلاء، ويحكمون عليه باستحقاق الذم والعقوبة على قدر ما تستوجبه هذه المعصية عقلاً أو شرعاً، ولا يصغي أحد من أهل العرف إلى عذره لو اعتذر بتخصيص هذا العامّ، بل يكون عذره أقبح عندهم من ذنبه، وهذا ليس إلاّ لظهور العامّ ـ بعد تخصيصه ـ في الباقي، كما لا يخفى.
وأنت تعلم إنّ سيرة المسلمين وغيرهم مستمرّة على الاحتجاج بالعمومات المخصّصة بلا نكير، وقد مضى الخلف على ذلك والسلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وتابعي التابعين وتابعيهم إلى الآن، ولا سيّما أئمّة أهل البيت وسائر أئمّة المسلمين، وهذا ممّا لا ريب فيه، وحسبك به دليلاً على حجّية العامّ المخصوص، ولولا أنّه حجّة لا نسدّ على الأئمّة الأربعة وغيرهم من المجتهدين باب العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعية عن أدلّتها التفصيلية، فإنّ رحى العلم بذلك تدور على العمل بالعمومات، وما من عامّ إلاّ وقد خصّ، فإذا سقطت العمومات ارتج باب العلم، نعوذ باللّه.
(1) سورة طه 2 : 29 ـ 32.
(2) سورة الأعراف 7 : 142.
(3) سورة طه 20 : 36.
(4) سورة المائدة 5 : 67.
(5) المراجعات: 117 ـ 118.
(6) سمعت في المراجعة 26 تصريحه بصحّته.
(7) ص 74 من الصواعق.
(8) صحيح مسلم 4 : 213 / 2404.
(9) وأخرجه الحاكم أيضاً في أوّل ص 109 من الجزء الثالث من المستدرك، وصحّحه على شرط الشيخين. وأورده الذهبي في تلخيصه معترفاً بصحّته على شرط مسلم.
(10) أثناء المقصد الخامس من المقاصد التي أوردها في الآية الرابعة عشر من الباب 11 ص 273 من الصواعق.
(11) حيث قال: وأخرجه آخرون. ـ قال ـ: ولكن زاد بعضهم: قم لا أقام اللّه رجليك، ومحا اسمه من الديوان، إلى آخر ما نقله في ص 273 من صواعقه، ممّا يدلّ على أنّ جماعة من المحدّثين غير أحمد أخرجوا حديث المنزلة بالإسناد إلى معاوية.
(12) في مناقب عليّ.
(13) في فضائل عليّ، وفي غزوة تبوك.
(14) في ص 144 من جزئه الثالث.
(15) صحيح مسلم 4 : 212 / 2404.
(16) سنن ابن ماجة 1 : 90 ح 121.
(17) في أوّل ص 109 من جزئه 3، وفي أماكن أُخر يعرفها المتتبّعون.
(18) راجع ص 282 وص 285 وص 289 وص 292 وص 298 وص 301، تصفّح هذه الصحائف كلّها من الجزء الأوّل من المسند.
(19) راجع: ص 544 من الجزء الأوّل من المسند.
(20) في ص 513 وص 591 من الجزء السابع من المسند.
(21) في ص 417 من الجزء 3 من المسند.
(22) كما ذكرناه في صدر هذه المراجعة نقلاً عن المقصد الخامس من مقاصد الآية 14 من آيات الباب 11 من الصواعق المحرقة ص 273.
(23) كما نصّ عليه ابن حجر في الحديث الأوّل من الأربعين التي أوردها في الفصل الثاني من الباب 9 ص 187 من صواعقه.
وذكر السيوطي في أحوال عليّ من تاريخ الخلفاء: أنّ الطبراني أخرج هذا الحديث عن هؤلاء كلّهم، وزاد: أسماء بنت قيس.
(24) كما نصّ عليه السيوطي في أحوال عليّ من تاريخ الخلفاء ص 133.
(25) كما يدلّ عليه الحديث 2504 من أحاديث الكنز في ص 152 من جزئه السادس.