حديث المؤاخاة
ذكر السيّد رحمه اللّه أنّ المؤاخاة كانت مرّتين، وأنّ النبيّ في كلتا المرّتين اصطفى لنفسه منهم عليّاً واتّخذه من دونهم أخاً، ثمّ روى عن كنز العمّال أنّ المؤاخاة الأُولى أخرجها أحمد في كتاب مناقب عليّ، وابن عساكر في تاريخه، والبغوي والطبراني في معجميهما، والباوردي في كتاب المعرفة، وابن عدي، وغيرهم..
وروى عن كنز العمّال أيضاً أنّ الثانية رواها الطبراني في المعجم الكبير.
ثمّ أورد أحاديث أُخرى عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وصف فيها عليّاً بالأُخوّة، عن مصادر كثيرة من كتب القوم.
فقيل:
أمّا الأحاديث التي زعمها يوم المؤاخاة الأُولى، فالجواب عليها من وجوه:
1 ـ إنّه لم ينقل لنا حديثاً واحداً منها..
2 ـ إنّ المؤاخاة الأُولى ـ والتي كانت بين المهاجرين بعضهم مع بعض من جهة، وبين الأنصار بعضهم مع بعض ـ لم تثبت في كتاب من كتب السُنّة الصحيحة، ولم تخرج حديثاً واحداً فيها.
وإنّما جاء ذلك في كتب السير والمغازي، من طريق محمّد بن إسحاق بن يسار.
وقد اختلف أهل الجرح والتعديل في الاحتجاج به، فوثّقه بعضهم ووهّاه آخرون..
وبسبب ذلك، فقد اختلف العلماء في صحّة المؤاخاة الأُولى، قال ابن تيميّة رحمه اللّه: … كلّ ما روي في ذلك باطل.
وقال ابن حجر العسقلاني رحمه اللّه منكراً على ابن تيميّة قوله هذا، ومثبتاً صحّة المؤاخاة الأُولى بين المهاجرين بعضهم مع بعض: وأنكر ابن تيميّة في كتاب الردّ على ابن المطهّر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصاً مؤاخاة النبيّ لعليّ….
وهذا ردّ للنصّ بالقياس.
إنّ ابن حجر رحمه اللّه قسا على ابن تيميّة..
3 ـ إنّ المؤاخاة بين النبيّ وعليّ بن أبي طالب متفرّعة عن أصل المؤاخاة بين المهاجرين، فإذا عدم الأصل عدم الفرع.
أقول:
إنّ المؤاخاة كانت مرّتين، مرّةً بمكّة بين المهاجرين، ومرّة بالمدينة بين المهاجرين والأنصار.
وهذا ما نصّ عليه الحفّاظ الكبار المعتمدين من أهل السُنّة، كابن عبدالبرّ، ونقله عنه ابن حجر وأقرّه، كما سيأتي.
وقد نقل السيّد خبر المؤاخاة الأُولى واتّخاذ النبيّ عليّاً أخاً له، عن المتّقي الهندي في كنز العمّال، عن أحمد في كتاب مناقب عليّ(1)..
وعنه، عن ابن عساكر في تاريخ دمشق، والبغوي والطبراني في معجميهما، والباوردي في كتاب المعرفة، وابن عدي، وغيرهم.
ونقل خبر المؤاخاة الثانية واتّخاذه أخاً له كذلك، عن المتّقي الهندي في كنز العمّال ومنتخب كنز العمّال، عن الطبراني في المعجم الكبير(2)..
ولا يخفى أنّ هؤلاء من أئمّة الحديث ومن كبار الحفّاظ.
هذا، ولم نجد أحداً من علماء السُنّة ينكر المؤاخاة رأساً، أو خصوص المؤاخاة بين النبيّ الأكرم والإمام عليهما السلام… وإنّما وجدنا ابن تيميّة يقول:
«أمّا حديث المؤاخاة فباطل موضوع، فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يؤاخ أحداً»(3).
«إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يؤاخ عليّاً ولا غيره، بل كلّ ما روي في هذا فهو كذب»(4).
«إنّ أحاديث المؤاخاة لعليّ كلّها موضوعة»(5).
وممّا يشهد بتفرّد ابن تيميّة بهذا الرأي، وشذوذه عن جمهور الحفّاظ، نسبة العلماء الكبار كابن حجر وغيره الخلاف إليه وحده، وردّهم عليه، كما سيأتي.
فقول القائل: «فقد اختلف العلماء في صحّة المؤاخاة الأُولى، قال ابن تيميّة» فيه:
أوّلاً: لا اختلاف بين العلماء، لا في المؤاخاة الأُولى، ولا في المؤاخاة الثانية.
وثانياً: لا اختلاف بينهم في مؤاخاة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بينه وبين الأمير عليه السلام في كلتا المرّتين.
وثالثاً: إنّ المنكِر ليس إلاّ ابن تيميّة.
ورابعاً: إنّ ابن تيميّة يدّعي أنّ جميع الأحاديث في هذا الباب كذب موضوع، وهذا المتقوّل المعاصر يحصر روايتها بابن إسحاق، ويدّعي اختلاف أهل الجرح والتعديل في الاحتجاج به، فبين كلامي التابع والمتبوع اختلاف من جهتين!!
وأمّا قول المتقوّل: «لم تثبت في كتاب من كتب السُنّة الصحيحة، ولم تخرج حديثاً واحداً منها، وإنّما جاء ذلك في كتب السير والمغازي، من طريق محمّد بن إسحاق بن يسار، وقد اختلف أهل الجرح والتعديل في الاحتجاج به…» ففيه:
أوّلاً: وجود خبر المؤاخاة بين الرسول الأعظم والإمام عليه السلام في كتب السير والمغازي يكفي للاحتجاج..
على أنّ أحداً لا يقول ـ وليس له أنْ يقول ـ بانحصار الأحاديث الصحيحة بكتب السُنّة، حتّى الكتابين المشهورين بالصحيحين منها، فقد ثبت في محلّه أنّ في غير الكتب المشهورة بالصحاح أحاديث صحيحة كثيرة، وأنّه ليس كلّ ما في ما يسمّى بالصحاح بصحيح.
وثانياً: إنّ الأحاديث في هذه المؤاخاة كثيرة عندهم بشهادة العلماء الثقات بينهم؛ قال الزرقاني المالكي: «وجاءت أحاديث كثيرة في مؤاخاة النبيّ لعليّ؛ وقد روى الترمذي وحسّنه، والحاكم وصحّحه، عن ابن عمر، أنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال لعليّ: أما ترضى أنْ أكون أخاك؟!
قال: بلى.
قال: أنت أخي في الدنيا والآخرة»(6).
قلت:
وهذا لفظ الحديث عندهما:
«آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بين أصحابه، فجاء عليّ تدمع عيناه فقال: يا رسول اللّه! آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد.
فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: أنت أخي في الدنيا والآخرة»(7).
وأخرجه الحاكم مرّةً أخرى بعد بزيادة: «آخى بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عثمان بن عفّان وعبدالرحمن بن عوف».
وهو موجود في غيرهما من كتب الحديث.
إذن، فالحديث موجود في كتب السُنّة، وبسند معتبر، وهو أكثر من حديث واحد، فمن الكاذب؟!
وثالثاً: قد قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: «قال ابن عبدالبرّ: كانت المؤاخاة مرّتين، مرّةً بين المهاجرين خاصّة وذلك بمكّة، ومرّةً بين المهاجرين والأنصار» ثمّ ذكر أخبار المؤاخاة عن جماعة من الأئمّة، إلى أنْ قال:
«وأنكر ابن تيميّة في كتاب الردّ على ابن المطهّر الرافضي في المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصاً مؤاخاة النبيّ لعليّ؛ قال: لأنّ المؤاخاة شرّعت لإرفاق بعضهم بعضاً، ولتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنىً لمؤاخاة النبيّ لأحد منهم، ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري.
وهذا ردٌّ للنصّ بالقياس…»(8).
وتبعه غيره في ذلك وفي الردّ على ابن تيميّة، كالزرقاني المالكي(9).
فظهر: إنّ أصل المؤاخاة ثابت، وإنّها كانت مرّتين، وإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم اتّخذ في كلّ مرّة عليّاً فقط أخاً له، وإنّ إنكار ابن تيميّة مردود حتّى من قبل علمائهم، وإنّه لا منكِر للقضية غيره وإلاّ لذكروه.
هذا، ويؤيّد ذلك الأحاديث الكثيرة الوارد فيها أُخوّة أمير المؤمنين لرسول اللّه عليهما السلام، وبعضها بسند صحيح قطعاً، خاصّة ما أخرجه الحاكم وصحّحه، ووافقه الذهبي على ذلك، كقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لأُمّ أيمن: «يا أُمّ أيمن! ادعي لي أخي.
فقالت: هو أخوك وتنكحه؟!
قال: نعم يا أُمّ أيمن»(10)..
وقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لعليّ: «وأمّا أنت ـ يا عليّ! ـ فأخي وأبو ولدي ومنّي وإليَّ»(11).
ومن الأحاديث الصحيحة في المشابهة بين عليّ وهارون عليهما السلام حديث تسمية أولاده عليهم السلام باسم أولاد هارون..
أخرجه الحاكم ـ وصحّحه ـ بإسناده عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن عليّ بن أبي طالب.. ووافقه الذهبي في تلخيصه؛ إذ قال: صحيح، رواه إسرائيل عن جدّه(12).
وأخرجه الحاكم ثانيةً بسنده عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن هانئ ابن هانئ، عن عليّ… قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.. ووافقه الذهبي وقال ـ مشيراً إلى الحديث السابق ـ: «مرّ عن حديث إسرائيل»(13).
هذا، ولا حاجة إلى تصحيح غير ما ذكر من الأحاديث؛ لكفاية هذه لمن أراد الحقّ والهداية، ولو كان ثمّة ضعف في ما لم نذكره، فهو يقوى بما تقدّم، وتلك هي قاعدتهم العامّة في الأبواب المختلفة.
وبما ذكرنا يظهر ما في بعض الكلمات من المكابرات.
هذا تمام الكلام في سند حديث المؤاخاة ولفظه.
وأمّا دلالته على أفضلية عليّ عليه السلام من غيره، فلا يكابر فيها عاقلٌ؛ ولذا تذكر هذه القضية في أبواب مناقب أمير المؤمنين في كتب الحديث، مثل كنز العمّال وغيره، ولولا ذلك لَما بذل ابن تيميّة جهده في ردّ أصل المؤاخاة وتكذيب خبرها!!
(1) انظر: كنز العمّال 13 : 105 رقم 36345.
(2) وقد ذكرنا نحن هذا الحديث بسنده ولفظه، وأثبتنا صحّته سابقاً؛ فراجع. وهو في كنز العمّال 11 : 610 برقم 32955.
(3) منهاج السُنّة 4 : 32.
(4) منهاج السُنّة 7 : 117.
(5) منهاج السُنّة 7 : 361.
(6) شرح المواهب اللدنّية 1 : 373.
(7) الجامع الكبير 6 : 84 / 3720، المستدرك على الصحيحين 3 : 14.
(8) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7 : 216 و 217.
(9) شرح المواهب اللدنّية 1 : 373.
(10) المستدرك على الصحيحين وتلخيصه 3 : 159.
(11) المستدرك على الصحيحين وتلخيصه 3 : 217.
(12) المستدرك على الصحيحين وتلخيصه 3 : 165.
(13) المستدرك على الصحيحين وتلخيصه 3 : 168.