ثالثاً ـ ضوابط الجرح والتعديل عند أهل السُنّة
وبعد أنْ عرفنا أصحّ الكتب عند القوم وآراء المحقّقين من علمائهم في اعتبار أخبارها ووثاقة رواتها، وعرفنا أشهر أئمّتهم في الجرح والتعديل، ووقفنا على ما جاء في تراجمهم، رأينا من اللازم أنْ نتعرَّض ـ ولو بالإجمال ـ إلى الضوابط والقواعد التي على أساسها جرحوا أو وثّقوا الرجال.
والحقيقة أنّ آراءهم في ضوابط التوثيق والجرح متضاربة جدّاً، بل قد تجد الواحد منهم يناقض نفسه، فليس عندهم قواعد مستندة إلى الشرع والعقل، يرجعون إليها ويعتمدون عليها في قبول الرواية عن الرجال وردّها.
وقد صرّح بهذه الحقيقة بعض المحقّقين المعاصرين حين قال مستدلاًّ بكلام للذهبي: «كلام الإمام الذهبي ـ وهو العارف الخبير بهذه الصنعة ـ يدل على أنّ التصحيح والتضعيف في غير ما حديث أمر اجتهادي، تختلف فيه الأنظار ولا يمكن البتُّ فيه»(1).
إنّ المحاور الأساسية عندهم لجرح الراوي أو توثيقه، على اختلاف الأقوال، هي:
أوّلاً: القول بالأُصول الاعتقادية، بأنْ يكون الراوي مسلماً صحيح العقيدة غير منحرف عمّا يرونه حقّاً ثابتاً يجب الاعتقاد به.
وثانياً: العدالة، بأنْ لا يكون الراوي من أصحاب كبيرة من الكبائر الموبقة، المسقطة للعدالة، وأنْ يكون صادقاً في نقله، فلا يكذب، ولا يزيد أو ينقص من الخبر عن عمد….
وثالثاً: الضبط، بأنْ يكون ضابطاً لِما أخذ، وينقله كما أخذه، فلو كثر خطؤه وسهوه زال الوثوق به، وإنْ كان من أهل الصدق والديانة.
لكنّ المشكلة هي اختلافهم الشديد في المسائل الاعتقادية، وتكفير بعضهم البعض الآخر المخالف له فيها، فحينئذ لا يُدرى ما هي العقيدة الصحيحة عندهم؟! وما هو الحقّ الذي يجب الاعتقاد به، حتّى يُقبل الراوي أو يُردّ بالنظر إليها؟!
ثمّ إنّ كثيراً منهم يستحلّون شرب المسكر ـ مثلاً ـ أو يجوّزون الكذب على خصومهم، أو يتركون الصلوات، أو يرتكبون القبائح… وكلّ ذلك موجود بتراجمهم… فهل هذه الأُمور كبائر مسقطة للعدالة أو لا؟!
وهناك أُمور أُخرى كان بعض أكابرهم يراها من الكبائر، فلا يروي عن المرتكب لها، كالدخول في عمل السلطان، أو الخروج بالسيف عليه، فهل هذه من الكبائر الموبقة المسقطة للعدالة أو لا؟! وما هو السبب في هذا التناقض؟!
وهم في حين يشترطون الضبط في الراوي، قد يضطرّون إلى رفع اليد عن هذا الشرط، عندما يريدون توثيق من كان فاقداً له؛ لخصوصية فيه توجب القول بوثاقته.
وتبقى قضايا أُخرى، يبحثون عن مفاهيمها ومصاديقها، يختلفون في كلتا الجهتين، مثل، التدليس، ورواية المنكَر من الحديث، وما إلى ذلك….
هذه هي الحقيقة التي يؤدّي إليها التحقيق في كتبهم في الحديث والرجال….
ولأجل أن نضع النقاط على الحروف ـ كما يقال ـ نستشهد ببعض الموارد، ونأتي بجملة من نصوص كلماتهم فيها:
(1) راجع هامش الصفحة 239 من الجزء 14 من سير أعلام النبلاء.