التماس بقيّة الموارد:
من موارده: زيارة أُمّ سليم.
قضية بنت حمزة.
اتّكاؤه على عليّ.
المؤاخاة الأُولى.
المؤاخاة الثانية.
سدّ الأبواب.
النبيّ يصوّر عليّاً وهارون كالفرقدين.
* من موارده يوم حدّث صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أُمّ سليم(1)، وكانت من أهل السوابق والحجى، ولها المكانة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، بسابقتها وإخلاصها ونصحها، وحسن بلائها، وكان النبيّ يزورها ويحدّثها في بيتها، فقال لها في بعض الأيّام: يا أُمّ سليم! إنّ عليّاً لحمه من لحمي، ودمه من دمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى(2).
وقد لا يخفى عليك إنّ هذا الحديث كان اقتضاباً من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، غير مسبّب عن شيء إلاّ البلاغ والنصح للّه تعالى في بيان منزلة وليّ عهده والقائم مقامه من بعده، فلا يمكن أن يكون مخصّصاً بغزوة تبوك.
* ومثله الحديث الوارد في قضية بنت حمزة حين اختصم فيها عليّ وجعفر وزيد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: يا عليّ! أنت منّي بمنزلة هارون… الحديث(3).
* وكذا الحديث الوارد يوم كان أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجرّاح عند النبيّ، وهو صلّى اللّه عليه وآله وسلّم متّكئ على عليّ، فضرب بيده على منكبه ثمّ قال: يا عليّ! أنت أوّل المؤمنين إيماناً، وأوّلهم إسلاماً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى… الحديث(4).
* والأحاديث الواردة يوم المؤاخاة الأُولى، وكانت في مكّة قبل الهجرة، حيث آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بين المهاجرين خاصّة.
* ويوم المؤاخاة الثانية، وكانت في المدينة بعد الهجرة بخمسة أشهر، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار، وفي كلتا المرّتين يصطفي لنفسه منهم عليّاً، فيتّخذه من دونهم أخاه(5)؛ تفضيلاً له على من سواه، ويقول له: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي.
والأخبار في ذلك متواترة من طريق العترة الطاهرة.
وحسبك ممّا جاء من طريق غيرهم في المؤاخاة الأولى، حديث زيد بن أبي أوفى، وقد أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في كتاب مناقب عليّ، وابن عساكر في تاريخه(6)، والبغوي والطبراني في معجميهما، والباوردي في المعرفة، وابن عدي(7)، وغيرهم.
والحديث طويل قد اشتمل على كيفية المؤاخاة، وفي آخره ما هذا لفظه:
فقال عليّ: يا رسول اللّه! لقد ذهب روحي وانقطع ظهري، حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت، غيري، فإن كان هذا من سخط علَيّ، فلك العتبى والكرامة.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: والذي بعثني بالحقّ ما أخرجتك إلاّ لنفسي، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي، وأنت أخي ووارثي.
فقال: وما أرث منك؟!
قال: ما ورث الأنبياء من قبلي: كتاب ربّهم وسُنّة نبيّهم، وأنت معي في قصري في الجنّة مع فاطمة ابنتي، وأنت أخي ورفيقي.. ثمّ تلا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: (إخواناً على سُرر متقابلين)(8) المتحابّين في اللّه ينظر بعضهم إلى بعض.
وحسبك ممّا جاء في المؤاخاة الثانية ما أخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن ابن عبّاس من حديث جاء فيه: إنّ رسول اللّه قال لعليّ: أغضبت علَيّ حين اخيت بين المهاجرين والأنصار، ولم أُؤاخ بينك وبين أحد منهم؟! أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه ليس بعدي نبيّ… الحديث(9).
* ونحوه الأحاديث الواردة يوم سدّ الأبواب غير باب عليّ؛ وحسبك حديث جابر بن عبداللّه(10)، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: يا عليّ! إنّه يحلّ لك في المسجد ما يحلّ لي، وإنّك منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي.
وعن حذيفة بن أسيد الغفاري(11)، قال: قام النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ يوم سدّ الأبواب ـ خطيباً، فقال: إنّ رجالاً يجدون في أنفسهم شيئاً أن أسكنت عليّاً في المسجد وأخرجتهم، واللّه ما أخرجتهم وأسكنته، بل اللّه أخرجهم وأسكنه، إنّ اللّه عزّوجلّ أوحى إلى موسى وأخيه: (أن تبوّءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة)(12).. إلى أن قال: وإنّ عليّاً منّي بمنزلة هارون من موسى، وهو أخي، ولا يحلّ لأحد أن ينكح فيه النساء إلاّ هو.. الحديث.
وكم لهذه الموارد من نظائر لا تحصى في هذه العجالة، لكن هذا القدر كاف لِما أردناه من تزييف القول بأنّ حديث المنزلة مخصّص بمورده من غزوة تبوك، وأيّ وزن لهذا القول مع تعدّد موارد الحديث.
* ومن ألمّ بالسيرة النبويّة، وجده صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يصوّر عليّاً وهارون كالفرقدين على غرار واحد، لا يمتاز أحدهما عن الآخر في شيء، وهذا من القرائن الدالّة على عموم المنزلة في الحديث، على أنّ عموم المنزلة هو المتبادر من لفظه بقطع النظر عن القرائن كما بيّنّاه.
(1) هي بنت ملحان بن خالد الأنصارية، وأُخت حرام بن ملحان، استشهد أبوها وأخوها بين يدي النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وكانت على جانب من الفضل والعقل، روت عن النبيّ أحاديث، وروى عنها ابنها أنس، وابن عبّاس، وزيد بن ثابت وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وآخرون..
تعدّ في أهل السوابق، وهي من الدعاة إلى الإسلام؛ كانت في الجاهلية تحت مالك بن النضر، فأولدها أنس بن مالك، فلمّا جاء اللّه بالإسلام كانت في السابقين إليه، ودعت مالكاً زوجها إلى اللّه ورسوله، فأبى أن يسلم، فهجرته فخرج مغاضباً إلى الشام، فهلك كافراً، وقد نصحت لابنها أنس إذ أمرته وهو ابن عشر سنين أن يخدم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فقبله النبيّ إكراماً لها.
وخطبها أشراف العرب، فكانت تقول: لا أتزوجّ حتّى يبلغ أنس ويجلس مجلس الرجال، فكان أنس يقول: جزى اللّه أُمّي خيراً، أحسنت ولايتي.
وقد أسلم على يدها أبو طلحة الأنصاري؛ إذ خطبها وهو كافر، فأبت أن تتزوجّه أو يسلم، فأسلم بدعوتها، وكان صداقها منه إسلامه، أولدها أبو طلحة ولداً فمرض ومات، فقالت: لا يذكرنّ أحد موته لأبيه قبلي، فلمّا جاء وسأل عن ولده، قالت: هو أسكن ما كان، فظنّ أنّه نائم، فقدّمت له الطعام فتعشّى، ثمّ تزيّنت له وتطيّبت، فنام معها وأصاب منها، فلمّا أصبح قالت له: احتسب ولدك، فذكر أبو طلحة قصّتها لرسول اللّه، فقال: بارك اللّه لكما في ليلتكما. قالت: ودعا لي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، حتّى ما أُريد زيادة.
وعلقت في تلك الليلة بعبداللّه بن أبي طلحة فبارك اللّه فيه، وهو والد إسحاق بن عبداللّه بن أبي طلحة الفقيه وإخوته، وكانوا عشرة كلّهم من حملة العلم.
وكانت أُمّ سليم تغزو مع النبيّ، وكان معها يوم أُحد خنجر لتقبر به بطن من دنا إليها من المشركين، وكانت من أحسن النساء بلاءً في الإسلام، ولا أعرف امرأة سواها كان النبيّ يزورها في بيتها فتتحفه.
وكانت مستبصرة بشأن عترته، عارفة بحقّهم عليهم السلام.
(2) هذا الحديث ـ أعني حديث أُمّ سليم ـ هو الحديث 32936 من أحاديث الكنز، في ص 607 من جزئه الحادي عشر، وهو موجود في منتخب الكنز أيضاً، فراجع السطر الأخير من هامش ص 31 من الجزء الخامس من مسند أحمد، تجده بلفظه.
(3) أخرجه الإمام النَسائي ص 106 و 265 من الخصائص العَلَوية.
(4) أخرجه الحسن بن بدر، والحاكم في الكنى، والشيرازي في الألقاب، وابن النجّار.
وهو الحديث 36392، والحديث 36395 من أحاديث الكنز ص 122 و 124 من جزئه الثالث عشر.
(5) قال ابن عبدالبرّ في ترجمة عليّ من الاستيعاب: آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بين المهاجرين، ثمّ آخى بين المهاجرين والأنصار، وقال في كلّ واحدة منهما لعليّ: أنت أخي في الدنيا والآخرة.. ـ قال: ـ وآخى بينه وبين نفسه. انتهى.
قلت: والتفصيل في كتب السير والأخبار؛ فلاحظ تفصيل المؤاخاة الأُولى في: ص 20 من الجزء الثاني من السيرة الحلبية، وراجع المؤاخاة الثانية في ص 90 ـ 91 من الجزء الثاني من السيرة الحلبية أيضاً، تجد تفضيل عليّ ـ في كلتا المرّتين بمؤاخاة النبيّ له ـ على من سواه..
وفي السيرة الدحلانية من تفصيل المؤاخاة الأُولى والمؤاخاة الثانية ما في السيرة الحلبية، وقد صرّح بأنّ المؤاخاة الثانية كانت بعد الهجرة بخمسة أشهر.
(6) نقله عن كلّ من أحمد وابن عساكر جماعة من الثقات، أحدهم المتّقي الهندي؛ فراجع من كنزه الحديث 25554 في أوائل صفحة 167 من جزئه التاسع، ونقله في ص 105 من جزئه الثالث عشر عن أحمد في كتابه مناقب عليّ وجعله الحديث 36345 فراجع.
(7) نقله عن هؤلاء الأئمّة جماعة من الثقات الأثبات، أحدهم المتّقي الهندي، في أوّل 167 من الجزء التاسع من كنز العمّال وهو الحديث 25555 . فراجع.
(8) سورة الحجر 15 : 47.
(9) نقله المتّقي الهندي في كنز العمّال وفي منتخبه، فراجع من المنتخب ما هو في آخر هامش ص 31 من الجزء الخامس من مسند أحمد، تجده باللفظ الذي أوردناه، ولا يخفى ما في قوله: أغضبت عليّ؟! من المؤانسة والملاطفة والحنو الأبوي على الولد المدلّ على أبيه الرؤوف العطوف.
فإن قلت: كيف ارتاب عليّ من تأخيره في المرّة الثانية مع أنّه كان في المرّة الأُولى قد ارتاب من ذلك، ثمّ ظهر له أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، إنّما أخّره لنفسه، وهلاّ قاس الثانية على الأولى؟!
قلنا: لا تقاس الثانية على الأُولى، لأنّ الأُولى كانت خاصّةً بالمهاجرين، فالقياس لم يكن مانعاً من مؤاخاة النبيّ لعليّ، بخلاف المؤاخاة الثانية، فإنّها كانت بين المهاجرين والأنصار، فالمهاجر في المرّة الثانية إنّما يكون أخوه أنصارياً، والأنصاري إنّما يكون أخوه مهاجراً، وحيث أنّ النبيّ والوصيّ مهاجران، كان القياس في هذه المرّة أن لا يكونا أخوين، فظنّ عليّ أن أخاه إنّما يكون أنصارياً قياساً على غيره، وحيث لم يؤاخ رسول اللّه بينه وبين أحد من الأنصار وجد في نفسه، لكنّ اللّه تعالى ورسوله أبياً إلاّ تفضيله، فكان هو ورسول اللّه أخوين على خلاف القياس المطرد يومئذ بين جميع المهاجرين والأنصار.
(10) كما في آخر الباب 9 من ينابيع المودّة، نقلاً عن كتاب فضائل أهل البيت لأخطب خوارزم.
(11) كما في الباب 17 من ينابيع المودّة.
(12) سورة يونس 10 : 87.