* الجهة الثانية: في النظر في كلام ابن تيميّة:
والآن فلننظر في كلام ابن تيميّة حول هذا الحديث، وهذا نصّه:
«هذا الحديث ليس في شيء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل، لا في الصحاح ولا في المسانيد والسُنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يُحتجّ به، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل منها الصحيح والضعيف، مثل تفسير الثعلبي والواحدي والبغوي بل وابن جرير وابن أبي حاتم، لم يكن مجرّد رواية واحد من هؤلاء دليلاً على صحّته….
(قال:) إنّ هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالم يعرف الحديث إلاّ وهو يعلم أنّه كذب موضوع، ولهذا لم يرْوه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات، لأنّ أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أنّ هذا كذب….
(قال:) وقد رواه ابن جرير والبغوي بإسناد فيه عبدالغفّار بن القاسم بن فهد أبو مريم الكوفي، وهو مجمع على تركه… ورواه ابن أبي حاتم، وفي إسناده عبداللّه بن عبدالقدّوس، وهو ليس بثقة….
(قال:) إن بني عبدالمطّلب لم يبلغوا أربعين رجلاً حين نزلت هذه الآية….
(قال:) ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل، ولا عرف فيهم من كان يأكل جذعةً، ولا يشرب فرقاً….
(قال:) إنّ الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا..»(1).
أقول:
أوّلاً: إنّ هذا الحديث موجود في سُنن النَسائي(2)، ومسند أحمد، ومسند البزّار، وفي المعجم الأوسط للطبراني، والمختارة للضياء، وغيرها من كتب الحديث… كما عرفت.
ورواه ابن إسحاق صاحب المغازي..
وهو في كثير من التفاسير المعتمدة.
وعرفت أنّ عدّةً من أسانيده صحيحة، باعتراف الحافظ الهيثمي، الذي هو عندهم من نقّاد الحديث، وأنّ جمعاً من أكابرهم يقولون بصحّته.. وأنّ البيهقي وأبا نعيم الأصبهاني يجعلان القضية من دلائل النبوّة.
فكلام ابن تيميّة يشتمل على أكاذيب لا كذبة واحدة.
وثانياً: قد عرفت أنّ غير واحد من أسانيده الصحيحة ليس فيه «عبدالغفّار ابن القاسم» ولا «عبداللّه بن عبدالقدّوس».
وثالثاً: إنّ «عبدالغفّار بن القاسم» ليس بمجمع على تركه، بل هو مختلف فيه..
قال الحافظ ابن حجر: «قال أبو حاتم: ليس بمتروك، وكان من رؤساء الشيعة»(3).
ونقلوا عن شعبة بن الحجّاج أنّه كان يروي عنه، ويثني عليه، ويقول: لم أرَ أحفظ منه(4).
وعن ابن عقدة أنّه كان يثني عليه ويطريه؛ قال ابن عدي؛ وتجاوز الحدّ في مدحه حتّى قال: لو انتشر علم أبي مريم وخرّج حديثه لَما احتاج الناس إلى شعبة. قال ابن عدي: وإنّما مال إليه ابن عقدة هذا الميل لإفراطه في التشيّع(5).
قلت: وإنّما تكلّم من تكلّم في أبي مريم، لأنّه كان يحدّث ببلايا عثمان وعائشة(6).
وقد بحثنا سابقاً عن هذا الموضوع بالتفصيل، وذكرنا أنّ في رجال الصحاح من يتكلّم في الشيخين فضلاً عن عثمان، وأنّ التشيّع أو الرفض غير مضرٍّ بالوثاقة… فلا نعيد.
ورابعاً: إنّ «عبداللّه بن عبدالقدّوس» من رجال البخاري في التعاليق، ومن رجال الترمذي، وأخرج له أبو داوُد، وذكره ابن حبّان في الثقات..
وقال البخاري: هو في الأصل صدوق إلاّ أنّه يروي عن أقوام ضعاف، وقال يحيى بن المغيرة: أمرني جرير أنْ أكتب عنه حديثاً، وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه في فضائل أهل البيت(7).
وهذا هو الذنب الوحيد!! ولذا قال الحافظ في التقريب: «صدوق رمي بالرفض»(8).
وقد تقدّم أنّ الرفض غير مضرّ.
وخامساً: إنّ التشكيك في صحّة الحديث بأنّ بني عبدالمطّلب ما كانوا يبلغون الأربعين، وأنّهم ما كانوا بهذا القدر يأكلون، لا يُصغى إليه، ولا رواج له عند مَن يفهمون..
وكذلك المعارضة بما ورد في بعض كتبهم في شأن نزول الآية، فالحديث الذي نستند إليه متفق عليه، ولا يعارضه ما انفردوا به، كما لا يخفى على أهل الدراية.
فالحقّ مع السيّد في قوله عن ابن تيميّة: «ولا قسط لمجازفة ابن تيميّة وتحكّماته التي أوحتها إليه عصبيته المشهورة».
(1) منهاج السُنّة 7 : 299 ـ 307.
(2) السُنن الكبرى 5 : 125 : 8451.
(3) تعجيل المنفعة: 297.
(4) تعجيل المنفعة: 297.
(5) الكامل ـ لابن عدي ـ 7 : 18.
(6) تعجيل المنفعة: 297.
(7) تهذيب التهذيب 5 : 265.
(8) تقريب التهذيب 1 : 430.