أوّلاً ـ الصحاح الستّة وأصحابها
إنّ المشهور بين القوم صحّة ستّة كتب، وهي:
1 ـ الصحيح، للبخاري، محمّد بن إسماعيل، المتوفّى سنة 256.
2 ـ الجامع الصحيح، لمسلم بن الحجّاج النيسابوري، المتوفّى سنة 261.
3 ـ الصحيح من سنن المصطفى، لأبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، المتوفّى سنة 275.
4 ـ الصحيح، للترمذي، محمّد بن عيسى، المتوفّى سنة 279.
5 ـ السنن، للنسائي، أحمد بن شعيب، المتوفّى سنة 303.
6 ـ السنن، لابن ماجة، محمّد بن يزيد القزويني، المتوفّى سنة 275.
ومنهم من عدّ منها كتاب الموطّأ لمالك بن أنس، المتوفّى سنة 179، ولم يعدّ فيها كتاب ابن ماجة، كابن الأثير الجزري، صاحب كتاب جامع الأُصول.
ثمّ إنّ غير واحد منهم تكلّم في كتب الترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجة، وهي المسمّاة بـ«السنن الأربعة» فنصّ على وجود الأخبار الضعيفة بل الموضوعة فيها، ومن هؤلاء: ابن تيميّة الحرّاني، في موارد عديدة من كتاب منهاج السُنّة كما لا يخفى على من راجعه، ومن هنا تراهم يعبّرون بـ الصحيحين فقط، قاصدين كتابَي البخاري ومسلم.
غير إنّهم اختلفوا في الكتابين، فالمشهور بينهم أنّ كتاب البخاري هو أصحّ الكتابَين وقال جماعة ـ وفيهم بعض الأئمّة الكبار ـ بتقدّم كتاب مسلم.
وعلى كلّ حال، فالكتابان عند الجمهور أصحّ الكتب بعد القرآن.
لكنّ المحقّقين منهم ذهبوا إلى وجود الأحاديث والآثار الباطلة والمكذوبة في الصحيحين أيضاً، فهناك عدد كبير من الأخبار في الكتابين تكلّم فيها العلماء، حتّى إن بعضهم ـ كابن الجوزي ـ أورد من أخبارهما في كتابه الموضوعات، ونصَّ ابن تيميّة على إنّ كتاب البخاري فيه أغلاط.
فمن الأحاديث التي أبطلها جماعة من الأعلام: ما أخرجه البخاري في كتاب التفسير بإسناده عن ابن عمر، قال: «لمّا توفّي عبداللّه بن أُبيّ، جاء ابنه عبداللّه بن عبداللّه إلى رسول اللّه فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه، ثمّ سأله أنْ يصلّي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول اللّه، فقال: يا رسول اللّه تصلّي عليه وقد نهاك ربّك أنْ تصلّي عليه؟! فقال رسول اللّه: إنّما خيّرني اللّه فقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إنْ تستغفر لهم سبعين مرّة) وسأزيده على السبعين. قال: إنّه منافق! قال: فصلّى عليه رسول اللّه. فأنزل اللّه: (ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره)».
وقد تكلّم في هذا الحديث عدّة من أعلام الأئمّة المحقّقين، كالباقلاّني، وإمام الحرمين الجويني، والغزّالي، والداودي… قال الحافظ ابن حجر في شرحه:
«أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحّة هذا الحديث» فذكر كلمات بعضهم(1) وذكرها القسطلاني أيضاً وقال: «هذا عجيب من هؤلاء الأئمّة»(2).
وممّا أخرجه مسلم والبخاري وتكلّم فيه العلماء، ما أخرجاه في قصّة الإسراء عن شريك، عن أنس بن مالك، قال: «ليلة أُسري برسول اللّه من مسجد الكعبة: أنّه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم…» فقالوا: «[قبل أنْ يوحى إليه] غلطٌ»(3).
ولنكتف بهذين الحديثين، وقد ذكرناهما للتمثيل، ومن شاء المزيد فليرجع إلى الجزء السادس من كتابنا الكبير(4).
هذا بالنسبة إلى أحاديث الكتابين.
وأمّا بالنسبة إلى رجالهما، فالكلام أيضاً طويل عريض، حتّى إنّ الحافظ ابن حجر عقد في مقدّمة شرحه فصلاً حولهم، يحاول فيه الدفاع عن كتاب البخاري(5)، وقد كان في رجال البخاري من تكلَّم فيه أو تركه مسلم، وفيهم من تكلَّم فيه سائر أرباب الصحاح، وفيهم من تكلَّم فيه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو حاتم وأمثالهم من الأئمّة….
وأنتَ إذا دقّقت النظر في دفاعه وجدته في كثير من الموارد يعتذر بما هو في الحقيقة تسليمٌ بالطعن، كقوله: «ليس له عند البخاري سوى حديث واحد» وقوله: «هذا تعنّت زائد، وما بمثل هذا تضعّف الأثبات ولا تردُّ الأحاديث الصحيحة» ونحو ذلك من الأعذار، وجاء في (بكر بن عمرو أبو الصدّيق البصري الناجي): «قال ابن سعد: يتكلّمون في أحاديثه ويستنكرونها» فقال ابن حجر في الدفاع عنه: «قلت: ليس له في البخاري سوى حديث واحد عن أبي سعيد، في قصّة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً من بني إسرائيل ثمّ تاب. واحتجّ به الباقون» فأين الجواب؟!
وكذا الكلام في رجال صحيح مسلم….
ولنكتف بهذا القدر، فإنّه باب واسع….
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8: 272.
(2) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 7 : 155.
(3) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج 2 : 209، صحيح البخاري بشرح الكرماني 25 : 204، زاد المعاد في هدي خير العباد 3 : 42.
(4) نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار تحت عنوان: أحاديث من الصحيحين في الميزان 6 : 182 ـ 235.
(5) الفصل التاسع، في أسماء من طُعن فيه من رجال هذا الكتاب مرتّباً لهم على حروف المعجم والجواب عن الإعتراضات موضعاً موضعاً. مقدّمة فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 381 ـ 465.