2 ـ رواية أبي نعيم:
قال: «حدّثنا أبو بكر بن خلاّد، قال: حدّثنا محمّد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن ميمون، قال: حدّثنا عليّ بن عابس، عن أبي الجَحّاف عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في عليّ بن أبي طالب عليه السلام: (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك)»(1).
* أمّا «أبو بكر بن خلاّد» فهو: أبو بكر أحمد بن يوسف البغدادي، المتوفّى سنة 359، ترجم له الخطيب في تاريخه، والذهبي في سيره، وغيرهما:
قال الخطيب: «كان لا يعرف من العلم شيئاً، غير أنّ سماعه كان صحيحاً».
وقال أبو نعيم: «كان ثقة».
وكذا وثّقه أبو الفتح بن أبي الفوارس(2).
ووصفه الذهبي بـ: «الشيخ الصدوق، المحدّث، مسند العراق»(3).
* وأمّا «محمّد بن عثمان بن أبي شيبة»، المتوفّى سنة 297، فقد ترجم له الذهبي، ووصفه بـ: «الإمام الحافظ المسند» ثمّ قال: «وجمع وصنّف، وله تاريخ كبير، ولم يرزق حظّاً، بل نالوا منه، وكان من أوعية العلم».
وقال: «قال صالح جزرة: ثقة».
وقال ابن عديّ: «لم أرَ له حديثاً منكَراً فأذكر».
ثمّ نقل تكلّم بعض معاصريه فيه، وهم عبداللّه بن أحمد، المتوفّى سنة 290، وابن خراش، المتوفّى سنة 283، ومطيّن، المتوفّى سنة 297(4)، والظاهر وجود اختلافات بينهم وبينه، ممّا أدّى إلى أن يذكروه بسوء، لا سيّما ما كان بينه وبين أبي جعفر مطيّن، إذ كان كلٌّ منهما يذكر الآخر بسوء وينال منه.
ومن هنا فقد نصّ غير واحد من الحفّاظ ـ كالذهبي ـ على أنّ كلام الأقران بعضهم في بعض غير مسموع.
* وأمّا «إبراهيم بن محمّد بن ميمون»، فقد ذكره ابن حبّان في الثقات قائلاً: «إبراهيم بن محمّد بن ميمون الكندي الكوفي، يروي عن سعيد بن حكيم العبسي وداود بن الزبرقان. روى عنه أحمد بن يحيى الصوفي»(5).
ولم أجد له ذِكراً في كتب الضعفاء….
وقد ينقم عليه روايته لفضائل أمير المؤمنين عليه السلام، وكم له من نظير! فقد ذكر الذهبي بترجمة أحمد بن الأزهر: «وهو ثقة بلا تردّد، غاية ما نقموا عليه ذاك الحديث في فضل عليٍّ رضي اللّه عنه»(6).
يعني: ما رواه عن عبدالرزّاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيداللّه بن عبداللّه بن عتبة، عن ابن عبّاس، قال:
«نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم إلى عليّ بن أبي طالب، فقال: أنت سيّد في الدنيا، سيّد في الآخرة، حبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب اللّه، وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدوّ اللّه، فالويل لمن أبغضك بعدي».
قال الحاكم: «حدّث به ابن الأزهر ببغداد في حياة أحمد وابن المديني وابن معين، فأنكره من أنكره، حتّى تبيّن للجماعة أنّ أبا الأزهر بريء الساحة منه، فإنّ محلّه محلّ الصادقين»(7).
ولهذا الحديث قصّة، فإنّه لأجله ذكر أحمد بن الأزهر في ميزان الاعتدال في نقد الرجال(8) بل ذكر فيه عبدالرزّاق بن همّام أيضاً(9).
لكنّ أحمد بن الأزهر «ثقة بلا تردّد» و«محلّه محلّ الصادقين»، وعبدالرزّاق بن همّام من رجال الصحاح الستّة وشيخ البخاري(10)… ومع ذلك فالحديث كذب!!
«لمّا حدّث أبو الأزهر بحديثه عن عبدالرزّاق في الفضائل، أُخبر يحيى بن معين بذلك، فبينما هو عند يحيى في جماعة أهل الحديث إذ قال يحيى: من هذا الكذّاب النيسابوري الذي حدّث بهذا عن عبدالرزّاق؟! فقام أبو الأزهر فقال: هو ذا أنا. فتبسّم يحيى بن معين، وقال: أما إنّك لست بكذاب؛ وتعجّب من سلامته وقال: الذنب لغيرك فيه!»(11).
فرواة الحديث كلّهم أئمّة ثقات.
ومع ذلك فهو كذب!!
وقال الذهبي: في النفس من آخره شيء(12)!! يعني جملة: «فالويل لمن أبغضك بعدي»!!
ولا يخفى السبب في ذلك!!
فما الحيلة في ردّه، مع صحّة سنده؟!
قالوا: إنّ معمراً كان له ابن أخ رافضي، وكان معمر مكّنه من كتبه فأدخل عليه هذا الحديث، وكان معمر رجلاً مهيباً لا يقدر عليه أحد في السؤال والمراجعة، فسمعه عبدالرزّاق في كتاب ابن أخي معمر، وحدّث به أبا الأزهر وخصّه به دون أصحابه(13)!!
قال الذهبي بعد نقله:
«قلت: ولتشيّع عبدالرزّاق سرّ بالحديث وكتبه، وما راجع معمراً فيه، ولكنّه ما جسر أن يحدّث به لمثل أحمد وابن معين وعليّ، بل ولا خرّجه في تصانيفه، وحدّث به وهو خائف يترقّب»(14).
هذا موجز هذه القصّة… والشاهد من حكايتها أنّهم كثيراً ما ينقمون على الرجل ـ مع اعترافهم بثقته ـ روايته حديثاً في فضل أمير المؤمنين عليه السلام أو الطعن في أعدائه ومبغضيه، ويضطربون أشدّ الاضطراب، فإن أمكنهم التكلّم في وثاقته فهو، وإلاّ عمدوا إلى تحريف لفظ الحديث، أو بتره، وإلاّ وضعوا شيئاً في مقابلته، وإلاّ نسبوا وضعه إلى مثل «ابن أخ معمر» و«كان رافضياً» و«كان معمر يمكّنه من كتبه» بأنّه دسّ الحديث فى الكتاب، ولم يشعر بذلك لا معمر، ولا عبدالرزّاق، ولا غيرهما!!
ولكن من هو هذا الشخص؟! وما الدليل على كونه رافضيّاً؟! وكيف كان يمكّنه معمر من كتبه وأن يكتب له؟ مع علمه بكونه رافضيّاً أو كان جاهلاً بذلك؟!
وعلى الجملة، فإنّ «إبراهيم بن محمّد بن ميمون» ثقة، بتوثيق ابن حبّان من دون معارض، غير أنّه من رواة فضائل أمير المؤمنين عليه السلام.
* وكذلك شيخه «عليّ بن عابس» فإنّه من رجال صحيح الترمذي(15)، لكنّهم تكلّموا فيه لا لشيء، وإنّما لروايته هذا الحديث وأمثاله من الفضائل والمناقب، وممّا يشهد بذلك قول ابن عديّ: «له أحاديث حسان، ويروي عن أبان بن تغلب وعن غيره أحاديث غرائب، وهو مع ضعفه يكتب حديثه»(16).
وإذا عرفنا أنّ «أبان بن تغلب» من أعلام الإماميّة الاثني عشرية الثقات(17) عرفنا لماذا تكون رواياته «أحاديث غرائب»! وعرفنا أنّهم لا يضعّفون «عليّ بن عابس» إلاّ لروايته تلك الأحاديث، وأمّا في غيرها فهو ثقة في نفسه ولذا «يكتب حديثه»!
أيّ: عدا الفضائل وهي «أحاديث غرائب» كما وصفها، ولو كان الرجل كذّاباً لَما جاز قوله: «يكتب حديثه» أصلاً!!
* وكذلك شيخه «أبو الجَحّاف» داود بن أبي عوف، فهو من رجال أبي داود والنسائي وابن ماجة، ووثّقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائي: ليس به بأس(18) ومع ذلك، فالرجل ممّن لا يحتجّ به عند ابن عديّ! وهو يعترف بعدم تكلّم أحد فيه!
ولماذا؟!..
استمع إليه ليذكر لك السبب، فقد قال: «ولأبي الجَحّاف أحاديث غير ما ذكرته، وهو من غالية أهل التشيّع، وعامّة حديثه في أهل البيت، ولم أرَ لمن تكلّم في الرجال فيه كلاماً، وهو عندي ليس بالقوي، ولا ممّن يحتجّ به في الحديث»(19).
* وأمّا «الأعمش» فهو من رجال الصحاح الستّة(20).
وتلخّص:
إنّ حديث أبي نعيم معتبر، ولا مجال للتكلّم في أحد من رجال إسناده، ولو كان بعضهم من الشيعة فهو ثقة، وقد تقرّر أن التشيّع، بل الرفض عندهم غير مضرٍّ بالوثاقة، وهذا ما كرّرنا نقله عن الحافظ ابن حجر العسقلاني وغيره.
* وأمّا «عطية»… فسيأتي.
(1) خصائص الوحي المبين ـ للشيخ يحيى بن الحسن الحلّي، المعروف بابن البطريق، المتوفّى سنة 600 ـ: 53، عن كتاب ما نزل من القرآن في عليّ، للحافظ أبي نعيم الأصفهاني.
(2) تاريخ بغداد 5 : 220 ـ 221.
(3) سير أعلام النبلاء 16 : 69.
(4) سير اعلام النبلاء 14 : 21 ـ 22.
(5) الثقات 8 : 74.
(6) سير أعلام النبلاء 12 : 364.
(7) سير أعلام النبلاء 12 : 366.
(8) ميزان الاعتدال 1 : 82.
(9) ميزان الاعتدال 2 : 609.
(10) تقريب التهذيب 1 : 505.
(11) سير أعلام النبلاء 12 : 366.
(12) ميزان الاعتدال 2 : 613.
(13) تاريخ بغداد 4 : 42.
(14) سير أعلام النبلاء 12 : 367.
(15) تقريب التهذيب 2 : 39.
(16) الكامل في الضعفاء 6 : 322 ذيل رقم 1347.
(17) هو من رجال مسلم والأربعة، وثّقوه وقالوا: هو من أهل الصدق في الروايات وإن كان مذهبه مذهب الشيعة، وفي الميزان: شيعي جلد لكنّه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته. وهو عند الجوزجاني الناصبي: مذموم المذهب، مجاهر زائغ!
وانظر: الكامل فى الضعفاء 2 : 69 رقم 207، أحوال الرجال: 67 رقم 74.
(18) ميزان الاعتدال 2 : 18.
(19) الكامل في الضعفاء 3 : 544 ـ 545 ذيل رقم 625.
(20) تقريب التهذيب 1 : 331.