مع ابن تيميّة:
نعم، لولا دلالة حديث الغدير على إمامة الأمير عليه الصلاة والسلام، لم يعترض ذاك الأعرابي على اللّه ورسوله، فخرج بذلك عن الإسلام، ولاقى جزاءه في دار الدنيا، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى….
ولولا دلالته على إمامة الأمير لَما تبع ابن تيميّة ذاك الأعرابي الجلف الجافّ، وزعم أنّ أهل المعرفة بالحديث قد اتّفقوا على أنّ هذا الحديث من الكذب الموضوع.
وقد ظهر أنّ للحديث طرقاً كثيرة، بعضها صحيح، ورواته كبار الأئمّة والحفّاظ والأعلام من أبناء العامّة، فهو حديث معتبر مستفيض.
ثمّ ذكر وجوهاً في إبطال الحديث، كشف بها عن جهله المفرط وتعصّبه الشديد، حتّى أعرض عنها بعض أتباعه، وجعل أهمّها:
1 ـ كون السورة مكّية.
2 ـ كون الآية: (وإذ قالو اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ…) من سورة الأنفال، وهي نازلة ببدر، قبل قضية غدير خمّ بسنين.
وهذا نصّ كلام ابن تيميّة المشتمل على المطلبين:
«فيقال لهؤلاء الكذّابين: أجمع الناس كلّهم على أنّ ما قاله النّبيّ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بغدير خمّ كان مرجعه من حجّة الوداع، والشيعة تسلّم هذا وتجعل ذلك اليوم عيداً، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة، والنبيّ لم يرجع إلى مكّة بعد ذلك، بل رجع من حجّة الوداع إلى المدينة، وعاش تمام ذي الحجّة والمحرّم وصفر، وتوفّي في أوّل ربيع الأوّل.
وفي هذا الحديث أنّه بعد أن قال هذا بغدير خمّ وشاع في البلاد جاء الحرث وهو بالأبطح، والأبطح بمكّة، فهذا كذب جاهل لم يعلم متى كانت قصّة غدير خمّ؛ فإنّ هذه السورة ـ سورة (سأل سائل) ـ مكّية باتّفاق أهل العلم، نزلت بمكّة قبل الهجرة، فهذه نزلت قبل غدير خمّ بعشر سنين أو أكثر من ذلك، فكيف نزلت بعده؟!
وأيضاً: قوله: (وإذ قالو اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك) في سورة الأنفال، وقد نزلت ببدر بالاتّفاق، قبل غدير خمّ بسنين كثيرة، وأهل التفسير متّفقون على أنّها نزلت بسببِ ما قاله المشركون للنبيّ قبل الهجرة، كأبي جهل وأمثاله…»(1).
أقول:
هذا لفظ ابن تيميّة، وقد أسقط منه مقلّده بعضه لوضوح بطلانه وسقوطه، وحذف منه قوله: «أجمع الناس كلّهم»، وبدّل لفظ «الشيعة» بـ: «الرافضة»، وغير ذلك من التصرّفات.
فكان ممّا أسقط منه: إنّ الأبطح بمكّة… فإنّ هذا جهل من ابن تيميّة، لأنّ الأبطح في اللغة هو: المسيل الواسع فيه دقاق الحصى، كما لا يخفى على من راجع الكتب اللغوية من الصحاح والقاموس والنهاية وغيرها في مادّة «بطح»، قالوا: «ومنه بطحاء مكّة».
بل ذكر السمهودي في كتابه في تاريخ المدينة المنوّرة في بقاعها ما يسمّى بالبطحاء(2).
? وأمّا أنّ سورة المعارج مكّية، فالجواب:
أوّلاً: إن كونها مكّية لا يمنع من كون بعضها مدنيّاً، حتّى الآيات الأُولى، لوجود نظائر لذلك في القرآن الكريم، كما هو مذكور في كتب هذا الشأن، بل تكفي مراجعة كتب التفسير في أوائل السور، حيث يقولون مثلاً: مكّية إلاّ كذا من أوّلها، أو الآية الفلانيّة.
وثانياً: إنّه لا مانع من تكرّر نزول الآية المباركة، ولهذا أيضاً نظائر في القرآن الكريم، وقد عقد له باب في كتب علوم القرآن، مثل الإتقان للحافظ السيوطي.
? وأمّا أنّ الآية (وإذ قالو اللّهمّ…) مدنيّة نزلت في واقعة بدر، فالاعتراض به عجيب جدّاً، وقد كان على مقلّده أن يسقطه أيضاً، إذ ليس في الرواية عن سفيان بن عيينة ذِكرٌ لنزول هذه الآية في قضية غدير خمّ، وإنّما جاء فيها أنّ الأعرابي خرج وهو يقول: اللّهمّ إن كان ما يقوله محمّد حقّاً فأمطر علينا حجارةً من السماء… فما هو وجه الإشكال؟
هذا، وقد تعرّضنا للجواب عن جميع جهات كلام ابن تيميّة في الآية في كتابنا الكبير(3).
وبقي شيء:
وهو :أنّه إذا كانت الآية (وإذ قالو اللّهمّ…) من (سورة الأنفال)، ونازلة في واقعة بدر، ولا علاقة لها بقضية الأعرابي المعترض على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بعد واقعة غدير خمّ، فلماذا ذكر الحاكم النيسابوري الخبر التالي في تفسير (سورة المعارج) من كتاب التفسير من المستدرك؟!
وهذا نصّ عبارته:
«تفسير سورة (سأل سائل). بسم اللّه الرحمن الرحيم: أخبرنا محمّد بن علي الشيباني بالكوفة، ثنا أحمد بن حازم الغفاري، ثنا عبيداللّه بن موسى، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير: (سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع * من اللّه ذي المعارج): ذي الدرجات:
(سأل سائل). قال: هو النضر بن الحارث بن كلدة، قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه».
ووافقه الذهبي على التصحيح(4).
بل إذا رجعت إلى المستدرك في سورة الأنفال، لا تجد الرواية هناك أصلاً….
وبماذا يجيب ابن تيميّة وأتباعه عن هذا الذي فعله الحاكم والذهبي وهما الإمامان الحافظان الكبيران؟!
لا سيّما وأنّ راوي هذا الخبر الصحيح هو سفيان الثوري، وقد وقع في طريق خبر صحيح آخر في القضيّة ـ كما تقدّم بالتفصيل ـ، والمرويّ عنه هو سعيد بن جبير، ولا بُدّ وأنّه أخذ الخبر من ابن عبّاس، وهو أحد رواة خبر نزول آية (سأل سائل)في قضية غدير خمّ… مضافاً إلى أنّ أغلب رواته من الشيعة.
الحقيقة: إنّ هذا الخبر من جملة الأخبار الصحيحة في نزول (سأل سائل)في قضيّة غدير خمّ، ويشهد بذلك كلام بعض المفسّرين بتفسير الآية مع ذكر القضيّة، حيث يذكر عن ابن عبّاس أنّ السائل للعذاب بعد قضيّة غدير خمّ هو «النضر بن الحارث بن كلدة».
ففي تفسير الخطيب الشربيني ما نصّه: «اختلف في هذا الداعي، فقال ابن عبّاس: هو النضر بن الحارث؛ وقيل: الحارث بن النعمان. وذلك أنّه لمّا بلغه قول النبيّ: من كنت مولاه فعليٌ مولاه…»(5).
وفي تفسير القرطبي: «وهو النضر بن الحارث… قال ابن عبّاس ومجاهد. وقيل: إنّ السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري، وذلك أنّه لمّا بلغه…»(6).
فذكرا قولين، أحدهما مطابق لرواية الحاكم، والآخر مطابق لرواية الثعلبي.
وعن تفسير أبي عبيدة الهروي أنّه :«جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة»(7).
ومنهم من صحّف «الحارث بن النعمان» إلى «النعمان بن المنذر» وهو أيضاً عن سفيان الثوري، وسنده صحيح(8).
ومنهم من صحّفه إلى «النعمان بن الحارث»(9).
ومنهم من صحّفه إلى «الحارث بن عمرو»(10).
ومنهم من قال: «فقام إليه أعرابي»(11).
ومنهم من قال: «بعض الصحابة»(12).
ومنهم من قال غير ذلك….
والموضوع بحاجة إلى تحقيق أكثر ليس هذا موضعه….
لكنّ الأكثر على أنّه «الحارث بن النعمان» كما في تفسير الثعلبي.
وهنا اعترض ابن تيميّة قائلاً:
«هذا الرجل لا يُعرف في الصحابة، بل هو من جنس الأسماء التي تذكرها الطرقيّة».
وهو مردود بأنّ هذا الرجل مرتدّ بردّه على اللّه والرسول، وكتب الصحابة قد اشترط أصحابها أن يذكروا فيها مَن مات من الصحابة على الإسلام.
وإن كان ابن تيميّة يراه ـ مع ذلك ـ مُسلماً، فإنّ كتب الصحابة لم تستوعب كلّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وهم على مسلكهم يعدّون بعشرات الآلاف.
هذا موجز الكلام حول نزول الآية في قضية يوم غدير خمّ، وباللّه التوفيق.
* * *
(1) منهاج السُنّة 7 : 45.
(2) خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى 2 : 560.
(3) نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 8 : 364 ـ 381.
(4) المستدرك على الصحيحين 2 : 502.
(5) السراج المنير في تفسير القرآن الكريم 4 : 380.
(6) الجامع لأحكام القرآن 18 : 278.
(7) الغدير 1 : 460.
(8) شواهد التنزيل 2 : 288.
(9) شواهد التنزيل 2 : 286.
(10) شواهد التنزيل 2 : 287.
(11) شواهد التنزيل 2 : 289.
(12) حاشية الحفني على الجامع الصغير 2 / 387.