معنى الآية المباركة
وقبل الورود في البحث نتأمّل في معنى الآية الكريمة بالنظر إلى مداليل مفرداتها:
يقول تعالى: (إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد).
أمّا كلمة «إنّما» فتدلُّ على الحصر، ولا كلام في هذا، و«الإنذار» إخبارٌ فيه تخويف كما أنّ التبشير إخبار فيه سرور(1).
وقال القاضي البيضاوي بتفسيرها: «(انما أنت منذر) مرسَل للإنذار كغيرك من الرسل، وما عليك إلاّ الإتيان بما تتّضح به نبوّتك»(2).
والآيات الواردة في هذ المعنى كثيرة، ففي بعضها الحصر بالألفاظ المختلفة الدالّة عليه، كقوله تعالى: (إنّما أنت نذير واللّه على كلّ شيء وكيل)(3).
و(قل يا أيّها الناس إنّما أنا لكم نذير مبين)(4).
و(قل إنّما أنا منذر وما من إله إلاّ اللّه الواحد القهّار)(5).
و(إنّما أنت منذر من يخشاها)(6).
وكقوله تعالى: (إنْ أنا إلاّ نذير وبشير لقوم يؤمنون)(7).
و(إنْ أنت إلاّ نذير)(8).
و(إنْ هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد)(9).
وفي بعضها كون «الإنذار» العلّة الغائيّة من إرساله بالكتاب ونزول الوحي عليه، كقوله تعالى: (وأُوحي إليّ هذا القرآن لأُنذركم به)(10).
و(كتاب أُنزل إليك… لتنذر به…)(11).
و(وما أرسلناك إلا مبشّراً ونذيراً)(12).
و(يا أيّها النبيّ إنّا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً)(13).
وحتّى في أوّل البعثة خاطبه تعالى بقوله: (يا أيّها المدّثّر * قم فأنذر)(14).. (أنذر عشيرتك الأقربين)(15).
لقد دلّت الآيات الكثيرة على أنّ وظيفة الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ليس إلاّ «الإنذار» و«التبشير»، وكلاهما «إخبارٌ»، غير أنّ الأوّل «فيه تخويف» والثاني «فيه سرور»، وكان وظيفته «الإخبار» فقط، أي: «الإبلاغ»، وهذا اللفظ جاءت به الآيات الكثيرة أيضاً، مع الدلالة على الحصر كذلك، كقوله تعالى: (وما على الرسول إلاّ البلاغ)(16).
و(فهل على الرسول إلاّ البلاغ المبين)(17).
و(فإن تولّيتم فاعلموا أنّما على رسولنا البلاغ المبين)(18).
وهكذا غيرها من الآيات:
وأمّا قوله تعالى: (ولكلّ قوم هاد)، فمَن جَعَلَ «الهادي» هو «رسول اللّه» صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فقد جعل «الواو» عاطفةً، فيكون (هاد) عطفاً على (منذر)و(ولكلّ قوم) متعلّق بـ(هاد).
أو يكون (هادِ) خبراً لمبتدأ مقدّر، أي: وأنتَ هاد.
لكن يردّ الأوّل: بأنّه يستلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجار والمجرور، وهو غير جائز عند المحقّقين من النحويّين.
ويردّ الثاني: بأنّه مستلزم للتقدير، ومن الواضح أنّه خلاف الأصل.
على أنّ القول بأنّ «الهادي» في الآية هو «رسول اللّه» نفسه إغفالٌ للحديث الصحيح الوارد بتفسيرها، الصحيح في أنّه عليٌّ عليه السلام، وبه يجاب عن قول مَن فسَّر الآيةَ برأيه، فجعل «الهادي» هو «اللّه» أو «العمل» أو غير ذلك، وهي تفاسير باطلة لم يوافق عليها حتّى ابن تيميّة والآلوسي:
وعلى ما ذكرنا تكون «الواو» استئنافيّةً.
فيكون معنى الآية: كون النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم منذراً، ولكلّ قوم هاد إلى ما جاء به النبيّ، وهو «عليٌّ» عليه السلام، الذي حفظ ونشر ما جاء به النبيّ، ودعا إلى الأخذ والعمل به، فكان عليه السلام الهادى بقوله وفعله إلى اللّه والإسلام بعد الرسول عليه وآله الصلاة والسلام.
و«الهداية» هي: «إراءة الطريق» و«الدلالة» عليه(19)، وقال ابن فارس: «هدي ـ الهاء والدال والحرف المعتلّ ـ: أصلان: أحدهما التقدّم للإرشاد، والآخر: بعثة لطف، فالأوّل قولهم: هديتُه الطريق هدايةً، أي تقدّمته لأُرشده، وكلّ متقدّم لذلك هاد، قال:
إذا كان هادي الفتى في البلا *** د صدرَ القناة أطاعَ الأميرا
وينشعب هذا فيقال: الهُدى: خلاف الضلالة….
والأصل الآخر: الهَدِيّة…»(20).
أقول:
فإذا كان هذا معنى الآية المباركة، ورجعنا إلى الأحاديث الواردة في تفسيرها ووجدنا فيها:
1 ـ المقابلة بين النبيّ وبين أمير المؤمنين، بأنّه منذرٌ وعليٌّ الهادي.
2 ـ والحصر المستفاد من كلمة «أنت الهادي» و«الهادي عليّ».
3 ـ والحصر المستفاد من تقديم الظرف في «بك يهتدي المهتدون».
4 ـ والحصر المستفاد من الإيماء إلى صدره أو الضرب على منكبه.
5 ـ وكلمة «بعدي» الظاهرة في المباشرة.
كانت الآية ـ بمعونة الأحاديث المشتملة على ما ذكرنا ـ دالةً على أنّ اللّه سبحانه جعل وظيفة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم «الإنذار» وكان وظيفة عليٍّ عليه السلام من بعده: إرشاد الأُمّة ودلالتها على الطريق الصحيح المؤدّي إلى ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فيكون عليه السلام الإمام المرشد للأُمّة، القائم مقام النبيّ، والمقتدى مِن بعده.
وهذه هي حقيقة الإمامة والخلافة.
هذا، وقد فهم غير واحد من علماء القوم كابن تيميّة وابن روزبهان والآلوسي، دلالة الحديث على وجوب الاقتداء بأمير المؤمنين عليه السلام بعد الرسول، وذلك قول اللّه عزّ وجلّ: (أفمن يهدي إلى الحقّ أحق أن يتّبع أمّن لا يهدي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون)(21).
نعم، فهموا ذلك، وإلاّ لَما عارضوه بحديث: «أصحابي كالنجوم فبأيّهم اقتديتم اهتديتم» وحديث: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، لكنّهما باطلان، فلو كانا صحيحين سنداً ودلالةً لكان لذلك وجه، وكما تمسّك بعض المتقوّلين بما في منهاج السُنّة عن عليٍّ عليه السلام أنّه قال: «لا أُوتينّ بأحد يفضّلني على أبي بكر إلاّ جلدته حدّ المفتري»!!
(1) مفردات ألفاظ القرآن: 797 «نذر».
(2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: 328.
(3) سورة هود 11 : 12.
(4) سورة الحجّ 22 : 49.
(5) سورة صَ 38 : 65.
(6) سورة النازعات 79 : 45.
(7) سورة الأعراف 7 : 188.
(8) سورة فاطر 35 : 23.
(9) سورة سبأ 34 : 46.
(10) سورة الأنعام 6 : 19.
(11) سورة الأعراف 7 : 2.
(12) سورة الفرقان 25 : 56.
(13) سورة الأحزاب 33 : 45.
(14) سورة المدّثر 74 : 1 و 2.
(15) سورة الشعراء 26 : 214.
(16) سورة المائدة 5 : 99.
(17) سورة النحل 16 : 35.
(18) سورة المائدة 5 : 92.
(19) مفردات ألفاظ القرآن: 835.
(20) معجم مقاييس اللغة 6 : 42.
(21) سورة يونس 10 : 35.