مطابقة تفسير الإمام للكتاب و السُنّة:
ثمّ إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام ـ الّذين أرجع اللّه ورسوله الأُمّة إليهم، وورد التمسّك بهم والأخذ عنهم في الكتاب والسُنّة ـ لا يقولون شيئاً يخالف القرآن والسُنّة النبوية الثابتة، بل إنّ جميع ما جاء عنهم بسند صحيح له شاهدٌ فيهما، وهذا ما صرّحوا به في الروايات المنقولة عنهم، كقول الإمام الصادق عليه السلام: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وإلاّ فالذي جاءكم به أَوْلى به»(1).
مضافاً إلى أنّهم يروون عن أمير المؤمنين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «قال اللّه جلّ جلاله: ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي»(2).
أقول:
ومن هذا القبيل تفسير «حبل اللّه» في الآية المباركة بـ«أهل البيت» وذلك لأنّ هذا التفسير له شواهد في السُنّة النبوية المباركة، ومنها حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين، ومن رواياته ما ذكره هذا المتقوّل ـ أوّل ما ذكر ـ عن الطبري بسنده، عن عبدالملك، عن عطيّة، عن أبي سعيد(3)، وجعله قول من يحتجُّ به، وقد أخرج الحديث بهذا الإسناد أحمد في المسند حيث قال: «ثنا ابن نمير، ثنا عبدالملك بن أبي سليمان، عن عطيّة العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم: إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي: الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض»(4).
فالرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد ترك في الأُمّة «ثقلين» وأمر بالأخذ بهما من بعده، وجعل الأخذ بهما أماناً من الضلال وسبباً للهدى والفلاح، ثمّ عبَّر عن أحدهما بكونه أكبر من الآخر، وأكّد على «أنّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض».
فكان كلاهما ـ القرآن والعترة أهل البيت معاً ـ السبب الموجب للمنع من الضلال، لأنّ قوله: (واعتصموا) أي: «امتنِعوا»، و«الحبل» هو «السبب»، وهذا ما نصّ عليه المفسّرون واللغويّون.
قال أبو جعفر الطبري: «وأمّا قوله: (ومن يعتصم باللّه فقد هُديَ إلى صراط مستقيم)(5) فإنّه يعني: ومن يتعلّق بأسباب اللّه ويتمسّك بدينه وطاعته فقد هدي… وأصل العصم: المنع، فكلّ مانع شيئاً فهو عاصمه، والممتنع به معتصم به،… ولذلك قيل للحبل: عصام، وللسبب الذي يتسبّب به الرجل إلى حاجته: عصام… يقال: منه اعتصمت بحبل من فلان، واعتصمت حبلاً منه واعتصمت به واعتصمته، وأفصح اللغتين: إدخال الباء كما قال عزّ وجلّ: (واعتصموا بحبل اللّه جميعاً)وقد جاء اعتصمته كما قال الشاعر…»(6).
وقال بتفسير الآية (واعتصموا بحبل اللّه جميعاً): «يعني بذلك جلّ ثناؤه: وتعلّقوا بأسباب اللّه جميعاً، يريد بذلك تعالى ذِكره: وتمسّكوا… وأمّا الحبل فإنّه السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة…»(7).
فظهر أنّ «العترة أهل البيت» مثل «القرآن» في أنّهم «حبل» وأنّ من تمسّك بهم فقد اعتصم من الضلال، ولذا نرى حديث الثقلين في بعض ألفاظه: «ما إن اعتصمتم بهما» وهو ما أخرجه ابن أبي شيبة: «إنّي تركت فيكم ما لن تضلّوا بعدي إن اعتصمتم به: كتاب اللّه، وعترتي»(8).
وفي بعضها الآخر: «ما إن تمسّكتم» وهذا هو اللفظ المشهور.
وفي بعض ثالث: «إن اتّبعتموهما»(9).
كما نرى الحديث بلفظ «إنّي تارك فيكم خليفتين» كما هو عند أحمد(10)، وبلفظ جمع فيه بين «الثقلين» و«الخليفتين» كما هو عند ابن أبي عاصم(11).
ومن هنا، فقد أورد بعض المفسّرين حديث الثقلين أو أشار إليه بتفسير الآية المباركة، أعني: (واعتصموا بحبل اللّه)(12) كما أوردوه بتفسير قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى)(13)(14).
وقال الشرّاح المحقّقون بشرح حديث الثقلين: «إنّ ذلك يفهم وجود من يكون أهلاً للتمسّك به من أهل البيت والعترة الطاهرة، في كلّ زمان وجدوا فيه إلى قيام الساعة، حتّى يتوجّه الحثّ المذكور إلى التمسّك به، كما إنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض»(15).
هذا كلّه بالإضافة إلى ورود الحديث الشريف بلفظ «حبلين»:
قال الطبرسي رحمه اللّه بتفسير الآية المباركة، في الأقوال في معنى «حبل اللّه»: «ثالثها: ما رواه أبان بن تغلب، عن جعفر بن محمّد عليه السلام، قال: نحن حبل اللّه الذي قال: (واعتصموا بحبل اللّه جميعاً)».
قال: «والأَولى حمله على الجميع، والذي يؤيّده ما رواه أبو سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: أيّها الناس! إنّي قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض»(16).
وتلخّص: أن الآية المباركة تأمر بالاعتصام، أي بالتمسّك والتعلّق «بحبل اللّه» أي: بالسبب الذي يوصل إلى رضاه، الموجب للنجاة والدخول في الجنّة، وينجي من غضبه الموجِب للدخول في النار… وهذا «السبب» هو «الكتاب والعترة الطاهرة»، و«دين اللّه» وهو «الإسلام» لا يتحقّق إلاّ باتّباعهما، وذلك «عهد اللّه» وفي ذلك «أمر اللّه وطاعته» وبذلك يحصل «الإخلاص» للّه عزّ وجلّ، وتتمُّ «الجماعة» التي يد اللّه معها، كما في الحديث.
(1) وسائل الشيعة 27 : 110 / 11.
(2) وسائل الشيعة 27 : 45 / 22.
(3) يظهر منه قبول «عطيّة بن سعد العوفي» وفيه ردّ على زميله الدكتور عليّ أحمد السالوس، الذي حاول في رسالته في «حديث الثقلين» إسقاط روايات عطيّة، وقد أجبنا عنه في كتابنا «حديث الثقلين: تواتره ـ فقهه» في ردّه بما لا مزيد عليه.
(4) مسند أحمد 3 : 463 / 11167.
(5) سورة آل عمران 3 : 101.
(6) جامع البيان 4 : 18 ـ 19.
(7) جامع البيان 4 : 21.
(8) كذا في نقل بعض المحدّثين عن المصنّف لابن أبي شيبة، عن جابر، عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، لكنّه في المطبوع برقم (10126) محرّف بإسقاط كلمة «وعترتي» وكذلك حُرّف فيه الحديث عن زيد بن أرقم، الذي أخرجه مسلم وغيره، وعن عطية، عن أبي سعيد الخدري، الذي أخرجه أحمد وغيره، فراجع (10127) و(10130) في الجزء العاشر من المصنّف، فحيّا اللّه الأُمناء على الحديث النبويّ!!
(9) المستدرك على الصحيحين 3 : 110.
(10) مسند أحمد 5 : 189 ـ 190 / 21145.
(11) كتاب السُنّة: 628 ـ 631.
(12) جواهر العقدين 2 : 96.
(13) سورة الشورى 42 : 23.
(14) الدرّ المنثور 7 : 349، السراج المنير 3 : 538، وغيرهما.
(15) جواهر العقدين 1 : 94، فيض القدير شرح الجامع الصغير 3 : 15، شرح المواهب اللدنّيّة 7 : 8، الصواعق المحرقة: 232، مرقاة المفاتيح 5 / 594 و 601.
(16) مجمع البيان 1 : 482.