الفصل الثالث
وتدلُّ الآية المباركة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام والمعصومين من عترة رسول ربّ العالمين، بمقتضى الأحاديث الواردة في ذيلها، بكتب التفسير والحديث والمناقب، وذلك لأنّ «الكون مع الصادقين» ليس هو الكون الخارجي، وإنّما المراد هو الاتّباع والاقتداء في القول والعمل، وهذا الأمر مطلق، إذ لم يقل: كونوا مع الصادقين في حال كذا، أو في القول الفلاني، بل الكلام مطلق غير مقيّد بقيد أصلاً.
فإذا ورد الأمر الكتابي بالاتّباع مطلقاً، ثمّ جاءت السُنّة المعتمدة وعيّنت الشخص المتبوع، كانت النتيجة وجوب اتّباع هذا الشخص المعيّن، وكان الشخص معصوماً، لأنّ اللّه سبحانه وتعالى لا يأمر باتّباع من لا تؤمن عليه مخالفة أحكامه عن عمد أو خطأ، وإذا كان معصوماً كان إماماً.
وإذا كانت الآية دالّة على العصمة بطل حمل (الصادقين) فيها على مطلق المهاجرين والأنصار، أو خصوص الثلاثة الّذين تخلفوا، أو خصوص أبي بكر وعمر، لعدم عصمة هؤلاء بالإجماع.
ومن هنا يظهر، أن لا علاقة للآية بالثلاثة الّذين تخلّفوا في غزوة تبوك، وإنّما جاءت بعد ذكر قصّتهم وتوبة اللّه عليهم.
وقد أذعن إمام المفسّرين عند القوم الفخر الرازي بدلالة الآية على العصمة وعدم إرادة الّذين تخلّفوا أو غيرهم ـ ممّا ذكره بعض المفسّرين ـ من (الصادقين)… وهذه عبارتهُ:
«قوله تعالى: (يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وكونوا مع الصادقين):
واعلم أنّه تعالى لمّا حكم بقبول توبة هؤلاء الثلاثة، ذكر ما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى، وهو التخلّف عن رسول اللّه في الجهاد، فقال: (يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه) في مخالفة أمر الرسول (وكونوا مع الصادقين) يعني مع الرسول وأصحابه في الغزوات، ولا تكونوا متخلّفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت».
إذن الآية المباركة لا علاقة لها بالمتخلّفين، وليسوا المقصودين من (الصادقين).
ثمّ تعرّض لدلالة الآية على العصمة في المسألة الأُولى من مسائلها فقال: «وفي الآية مسائل:
المسألة الأُولى: إنّه تعالى أمير المؤمنين بالكون مع الصادقين، ومتى وجب الكون مع الصادقين فلا بُدّ من وجود الصادقين في كلّ وقت، وذلك يمنع من إطباق الكلّ على الباطل، ومتى امتنع إطباق الكلّ على الباطل، وجب إذا أطبقوا على شيء أن يكونوا محقّين. فهذا يدلّ على أنّ إجماع الأُمّة حجّة»(1).
فاعترف الفخر الرازي هنا بدلالة الآية على وجود الصادقين في كلّ وقت، وبدلالة الآية على العصمة.
إلاّ أنّه نزّلها على الأُمّة، فقال بعصمة الأُمّة.
قال هذا ولم يعبأ بالأحاديث الواردة في ذيلها!
ثمّ أورد على نفسه قائلاً: «فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: المُراد بقوله (كونوا مع الصادقين) أي: كونوا على طريقة الصادقين؟ كما أنّ الرجل إذا قال لولده: كن مع الصالحين، لا يفيد إلاّ ذلك.
سلّمنا ذلك، لكن نقول: إنّ هذا الأمر كان موجوداً في زمان الرسول فقط، فكان هذا أمراً بالكون مع الرسول، فلا يدلُّ على وجود صادق في سائر الأزمنة.
سلّمنا ذلك، لكن لم لا يجوز أن يكون الصادق هو المعصوم الذي يمتنع خلوّ زمان التكليف عنه كما تقوله الشيعة؟».
فأجاب عن السؤالين الأوّلين، وأثبت دلالة الآية على وجود الصادقين في كلّ زمان، فلا يختصُّ بزمان الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ودلالتها على ضرورة وجود المعصوم في كلّ زمان قال: «فكانت الآية دالّةً على أنّ من كان جائز الخطأ وجب كونه مقتدياً بمن كان واجب العصمة».
ثمّ تعرّض للجواب عن السؤال الثالث، فقال: «قوله: لم لا يجوز أن يكون المراد هو كون المؤمن مع المعصوم الموجود في كلّ زمان؟
قلنا: نحن نعترف بأنّه لا بُدّ من معصوم في كلّ زمان، إلاّ أنّا نقول: ذلك المعصوم هو مجموع الأُمّة، وأنتم تقولون: ذلك المعصوم واحد منهم».
فإلى هنا حصل الوفاق في دلالة الآية على وجود المعصوم في كلّ زمان.
إنّما الخلاف هو: أنّ أهل السُنّة ـ كما قال ـ يقولون: «ذلك المعصوم هو مجموع الأُمّة» والشيعة الإماميّة يقولون: «ذلك المعصوم واحد منهم».
إلاّ أنّ هذا الخلاف إنّما يقع عندما ينظر إلى الآية وحدها، لكنّ القرآن الكريم نفسه يأمر في مثل هذه الحالات بالرجوع إلى السُنّة المعتبرة ويقول: (فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً)(2) ويقول أيضاً: (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى اللّه والرسول…)(3).
إذن، لا بُدّ من الرجوع إلى قول الرسول الصادق الأمين الذي (ما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحي يوحى)(4)… وقد وجدنا أصحابه يروون عنه أنّ المراد من (الصادقين) في هذه الآية هو علي عليه السلام، أو هو والأئمّة من أهل البيت.
فكانت السُنّة رافعةً للخلاف، ومعيّنةً للقول بأنّ الإمام المعصوم هو «عليّ» والأئمّة من العترة «في كلّ زمان»….
أمّا القول الآخر فلا دليل عليه، وإنّما هو اجتهاد في مقابلة النصّ الصريح.
وقد حاول الفخر الرازي إبطال هذا الاستدلال بالاجتهاد كذلك، فقال:
«هذا باطل، لأنّه تعالى أوجب على كلّ واحد من المؤمنين أن يكون مع الصادقين، وإنّما يمكنه ذلك لو كان عالماً بأنّ ذلك الصادق من هو، لا الجاهل بأنّه من هو، فلو كان مأموراً بالكون معه كان ذلك تكليف ما لا يطاق، وإنّه لا يجوز».
وإذا وصل الأمر إلى هنا فهو سهلٌ، لأنّ معرفة الإمام الصادق المعصوم ممكنة، وإلاّ لم يقل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية»(5)….
إذن، يجب البحث والتحقيق عن الإمام المعصوم في كلّ زمان مقدّمةً لإطاعته واتّباعه والاقتداء به، وطريق ذلك هو نفس الكتاب والسُنّة، والشيعة الإماميّة في جميع استدلالاتها آخذة بهما كما قلنا سابقاً.
وتلخّص:
أنّ الآية تدلّ على وجود المعصوم في كلّ زمان، وعلى وجوب اتّباعه على سائر المؤمنين، ثمّ إنّ السُنّة المعتبرة عرّفته وعيّنته، فكان المعصوم الواجب الاتّباع في كلّ زمان أمير المؤمنين والأئمّة الأطهار من العترة النبويّة… وهذا هو المطلوب.
* * *
(1) التفسير الكبير 16 : 220 ـ 221.
(2) سورة النساء 4 : 65.
(3) سورة النساء 4 : 65.
(4) سورة النجم 53 : 3 و 4.
(5) هذا الحديث بهذا اللفظ في «شرح المقاصد 5 : 239» لسعد الدين التفتازاني، المتوفّى سنة 793، وفي بعض المصادر الأُخرى، وقد أُخرج هذا الحديث بألفاظ مختلفة في أُمّهات مصادر الحديث، ولا بُدّ وأن ترجع كلّها إلى المعنى الذي دلّ عليه هذا اللفظ.