ثانياً: الأخبار.
فأشار إلى رواية النسائي في صحيحه، ورواية صاحب الجمع بين الصحاح الستّة، ورواية الثعلبي في تفسيره.
أقول:
رواية النسائي هي ـ كما في جامع الأُصول عن رزين، وهو صاحب الجمع بين الصحاح الستّة ـ:
«عبداللّه بن سلام ـ رضي اللّه عنه ـ قال: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم ورهط من قومي، فقلنا: إنّ قومنا حادّونا، لمّا صدّقنا اللّه ورسوله، وأقسموا لا يكلّمونا، فأنزل اللّه تعالى: (إنّما وليّكم اللّه ورسوله والّذين آمنوا)، ثمّ أذّن بلال لصلاة الظهر، فقام الناس يصلّون، فمن بين ساجد وراكع، إذا سائل يسأل، فأعطاه عليّ خاتمه وهو راكع. فأخبر السائل رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم ـ فقرأ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم: (إنّما وليّكم اللّه ورسوله والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتولّ اللّه ورسوله والّذين آمنوا فإنّ حزب اللّه هم الغالبون). أخرجه رزين»(1).
و«رزين» هو: رزين بن معاوية العبدري، المتوفّى سنة 535 كما في سير أعلام النبلاء، وقد وصفه بـ: «الإمام المحدّث الشهير»(2).
وقال ابن الأثير: «وتلاهم آخراً أبو الحسن رزين بن معاوية العبدري السرقسطي، فجمع بين كتب البخاري ومسلم والموطّأ لمالك وجامع أبي عيسى الترمذي وسنن أبي داود السجستاني وسنن أبي عبدالرحمن النسائي، رحمة اللّه عليهم. ورتّب كتابه على الأبواب دون المسانيد».
قال: «وأمّا الأحاديث التي وجدتها في كتاب رزين ـ رحمه اللّه ـ ولم أجدها في الأُصول، فإنّني كتبتها نقلاً من كتابه على حالها في مواضعها المختصّة بها، وتركتها بغير علامة، وأخليت لذكر اسم من أخرجها موضعاً، لعلّي أتتبّع نسخاً أُخرى لهذه الأُصول وأعثر عليها، فأٌثبت اسم من أخرجها»(3).
وأشار السيّد إلى رواية الثعلبي في تفسيره.
وقد ترجمنا للثعلبي في البحوث السابقة. وتفسيره فيه الغثُّ والسمين كأيّ مؤلَّف آخر، حتّى ما سمّي من الكتب بالصحاح!!
* لكنّ خبر نزول الآية المباركة في شأن أمير المؤمنين عليه السلام لا ينحصر بما عند الثعلبي أو الواحدي أو غيرهما من المفسّرين الّذين طعن فيهم إمام النواصب ابن تيميّة الحرّاني، بل جاء بأسانيد معتبرة كثيرة اضطرّ بعض أتباع ابن تيميّة إلى الاعتراف بصحّتها….
* وحتّى إنّ ابن كثير الذي أورد بتفسير الآية جملةً من الروايات، وطعن فى بعضها، قال بعد واحد منها: «هذا إسناد لا يقدح به».
* كما سكت على آخر، وهو ما أخرجه ابن أبي حاتم:
«حدّثنا أبو سعيد الأشج، حدّثنا الفضل بن دكين أبو نعيم الأحول، حدّثنا موسى بن قيس الحضرمي، عن سلمة بن كهيل، قال: تصدّق عليٌّ بخاتمه وهو راكع، فنزلت (إنّما وليكم اللّه ورسوله الّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)»(4).
أقول:
«عبدالرحمن بن أبي حاتم» غنيٌّ عن التعريف(5).
و«أبو سعيد الأشجّ» هو: عبداللّه بن سعيد الكندي، ثقة، من رجال الصحاح الستّة(6).
و«الفضل بن دكين» من رجالها كذلك، وهو ثقة ثبت، من كبار شيوخ البخاري(7).
و«موسى بن قيس الحضرمي» قال الحافظ: «يلقّب: عصفور الجنّة، صدوق، رُمي بالتشيّع»(8).
و«سلمة بن كهيل» ثقة، من رجال الصحاح الستّة(9).
* وكان ممّا طعن فيه ابن كثير الحديث التالي:
«روى ابن مردويه، من طريق سفيان الثوري، عن أبي سنان، عن الضحّاك، عن ابن عبّاس، قال: كان عليّ بن أبي طالب قائماً يصلّي، فمرّ سائل وهو راكع، فأعطاه خاتمه، فنزلت (إنّما وليّكم اللّه ورسوله) الآية».
قال ابن كثير: «الضحّاك لم يلق ابن عبّاس»(10).
قلت:
إذا كان هذا فقط هو المطعن فالأمر سهل:
أمّا أوّلاً: فإنّه ـ وإن قال بعضهم: «لم يلق ابن عبّاس» ـ قد ورد حديثه عنه في ثلاثة من الصحاح(11).
وأمّا ثانياً: فإنّه لو كانت روايته عن ابن عبّاس مرسلةً، فالواسطة معلومة حتّى عند القائل بإرسالها، فقد رووا عن شعبة، قال: «حدّثني عبدالملك بن ميسرة، قال: الضحّاك لم يلق ابن عبّاس، إنّما لقي سعيد بن جبير بالريّ، فأخذ عنه التفسير»(12).
وعليه، فرواياته عن ابن عبّاس في التفسير مسندة غير مرسلة، إذ كلّها بواسطة «سعيد بن جبير» الثقة الثبت بالاتّفاق، غير إنّه كان لا يذكر الواسطة لدى النقل تحفّظاً على سعيد، لكونه مشرّداً مطارداً من قبل جلاوزة الحجّاج الثقفي، وتحفّظاً على نفسه أيضاً، لكونه قصد سعيداً في الريّ للأخذ عنه، وجَعَلَ يروي ما أخذه عنه وينشر رواياته بين الناس، لا سيّما مثل هذا الخبر الذي يُعَدّ من جلائل مناقب أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.
هذا، واعلم أنّ «ابن سنان» الراوي عن «الضحّاك» هو ـ بقرينة الراوي والمروي عنه ـ: «سعيد بن سنان البرجمي الكوفي، نزيل الريّ» قال الحافظ: «صدوق له أوهام» وعلّم عليه علامة: مسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة(13).
ولا أستبعد أن يكون «ابن سنان» هذا أيضاً من المشّردين اللاجئين إلى الريّ خوفاً من الحجّاج، وأن يكون إسقاط اسم «سعيد بن جبير» منه… واللّه العالم.
وكيف كان، فالرواية من الأسانيد المعتبرة الواردة في الباب.
فما بال أتباع ابن تيميّة يتغافلون عن هذه الأحاديث المعتبرة حتّى عند تلميذه ابن كثير الدمشقي؟!
وما بالهم يتغافلون ـ خاصّة ـ عمّا رواه ابن أبي حاتم الذي ذكره ابن تيميّة ـ في كلامه الذي اعتمده مقلّده المفتري ـ في عداد «أهل العلم الكبار، أهل التفسير» الّذين «لم يذكروا الموضوعات» في تفاسيرهم؟!
بل لقد عرفت أنّ المفسّرين مجمعون على نزول الآية المباركة في أمير المؤمنين عليه السلام، وأنّ كبار أئمّة القوم معترفون بهذا الإجماع، وإنكاره من ابن تيميّة ومن على شاكلته «من أعظم الدعاوي الكاذبة».
وسيأتي تفصيل الكلام على الآية المباركة، من الجهات المختلفة، في المراجعة رقم 40، فانتظر، وباللّه التوفيق.
* * *
(1) جامع الأُصول 8 : 664 / 6515.
(2) سير أعلام النبلاء 20 : 204.
(3) جامع الأُصول 1 : 48 و ص 55.
(4) تفسير القرآن العظيم 2 : 64 طبع دار القلم ـ بيروت، تصحيح فضيلة الشيخ خليل الميس.
(5) سير أعلام النبلاء 13 : 263 رقم 129.
(6) تقريب التهذيب 1 : 419.
(7) تقريب التهذيب 2 : 110.
(8) تقريب التهذيب 2 : 287.
(9) تقريب التهذيب 1 : 318.
(10) تفسير القرآن العظيم 3 : 138.
(11) تهذيب الكمال 13 : 291.
(12) تهذيب الكمال 13 : 293.
(13) تقريب التهذيب 1 : 298.