2 ـ الإخفاء والتعتيم على حديث المباهلة :
وهذا ما حاوله آخرون ، منهم :
* البخاري ـ تحت عنوان : قصة أهل نجران ، من كتاب المغازي ـ :
« حدّثني عبّاس بن الحسين ، حدّثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة ، قال : جاء العاقب والسيّد ـ صاحبا نجران ـ إلى رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم ، يريدان أن يلاعناه. قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبيّاً فلاعنّا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أميناً ولا تبعث معنا إلاّ أميناً ، فقال : لأبعثنّ معكم رجلا أمينا حقّ أمين.
فاستشرف له أصحاب رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم ، فقال : قم يا أبا عبيدة بن الجرّاح ، فلما قام ، قال رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم : هذا أمين هذه الأمّة.
حدّثنا محمّد بن بشار ، حدّثنا محمّد بن جعفر ، حدّثنا شعبة ، قال : سمعت أبا إسحاق ،عن صلة بن زفر ، عن حذيفة رضي الله عنه قال : جاء أهل نجران إلى النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم فقالوا : ابعث لنا رجلا أميناً. فقال : لأبعثنّ إليكم رجلا أميناً حقّ أمين ، فاستشرف له الناس ، فبعث أبا عبيدة بن الجرّاح »(1) .
أقول :
قد تقدّم حديث حذيفة بن اليمان ، رواه القاضي الحسكاني بنفس السند… لكنّ البخاري لم يذكر سبب الملاعنة ! ولا نزول الآية المباركة ! ولا خروج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعلي وفاطمة والحسنين عليهم السلام !
ولا يخفى التحريف في روايته ، وعبارته مشوّشة جدّاً ، يقول : « جاء… يريدان أن يلاعناه فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل » فقد جاءا « يريدان أن يلاعناه » فلابد وأن حدث شيء ؟ « فقال أحدهما لصاحبه… » فما الذي حدث ؟!!
لقد أشار الحافظ ابن حجر في شرحه إلى نزول الآية وخروج النبيّ للملاعنة بأهل البيت عليهم السلام ، لكنها إشارة مقتضبة جدّاً !!
ثمّ قال : « قالا : إنّا نعطيك ما سألتنا » والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يسال شيئاً ، وإنّما دعاهما إلى الإسلام وما جاء به القرآن ، فأبيا ، فآذنهم بالحرب ، فطلبا منه الصلح وإعطاء الجزية ، فكتب لهما بذلك وكان الكاتب عليّاً عليه السلام.
ثمّ إنّ البخاري ـ بعد أن حذف حديث المباهلة وأراد إخفاء فضل أهل الكساء ـ وضع فضيلةً لأبي عبيدة ، بأنّهما قالا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : « ابعث معنا رجلا أميناً » فبعث معهم أبا عبيدة بن الجرّاح…
لكن في غير واحد من الكتب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أرسل إليهم عليّاً عليه السلام ، وهذا ما نبّه عليه الحافظ وأراد رفع التعارض ، فقال : « وقد ذكر ابن إسحاق أن النبيّ بعث عليّاً إلى اهل النجران ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم ، وهذه القصّة غير قصة أبي عبيدة ، لأنّ أبا عبيدة توجّه معهم فقبض مال الصلح ورجع ، وعليّ أرسله النبيّ بعدذلك يقبض منهم ما استحقّ عليهم من الجزية ويأخذ ممّن أسلم منهم ما وجب عليه من الصدقة. والله أعلم »(2) .
قلت :
ولم أجد في روايات القصّة إلاّ أنّهما « أقرّا بالجزية » ، التزما بدفع ما تضمّنه الكتاب الذي كتبه صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم ، ومن ذلك : ألفا حلّة « في كلّ رجب ألف ، وفي كلّ صفر ألف » وهذه هي الجزية ، وعليها جرى أبو بكر وعمر ، حتّى جاء عثمان فوضع عنهم بعض ذلك ! وكان مما كتب : « إنّي قد وضعت عنهم من جزيتهم مائتي حلّة لوجه الله » !(3) .
ثمّ إنّ رجوعهما إلى قومهما كان في بقيّة من شوال أو ذي القعدة(4) فأين رجب ؟! وأين صفر ؟!
فما ذكره الحافظ رفعاً للتعارض ساقط.
ولعلّه من هنا لم تأت هذه الجملة في رواية مسلم ، فقد روى الخبر عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة ، قال : « جاء أهل نجران إلى رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم فقالوا : يا رسول الله ! ابعث إلينا رجلا أمينا ، فقال : لأبعثنّ إليكم رجلا أمينا… »(5) .
ثمّ إنّه قد تعددت أحاديث القوم في « أمانة أبي عبيدة » حتّى أنّهم رووا بلفظ « أمين هذه الأمّة أبو عبيدة » ، وقد تكلّمنا على هذه الأحاديث من الناحيتين ـ السند والدلالة ـ في كتابنا الكبير بالتفصيل(6) .
* ابن سعد ، فإنّه ذكر تحت عنوان « وفد نجران » : كتب رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم إلى أهل نجران ، فخرج إليه وفدهم ، أربعة عشر رجلاً من أشرافهم نصارى ، فيهم العاقب وهو عبد المسيح … ودعاهم إلى الإسلام ، فأبَوا، وكثر الكلام والحجاج بينهم ، وتلا عليهم القرآن ، وقال رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم : إن أنكرتم ما أقول لكم فهلمّ أباهلكم ، فانصرفوا على ذلك.
فغدا عبد المسيح ورجلان من ذوي رأيهم على رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم ، فقال : قد بدا لنا أن لا نباهلك ، فاحكم علينا بما أحببت نعطك ونصالحك ، فصالحهم على…
وأشهد على ذلك شهوداً ، منهم : أبو سفيان بن حرب ، والأقرع بن حابس ، والمغيرة بن شعبة.
فرجعوا إلى بلادهم ، فلم يلبث السيّد والعاقب إلاّ يسيراً حتّى رجعا إلى النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم ، فأسلما ، وأنزلهما دار أبي أيّوب الأنصاري.
وأقام أهل نجران على ما كتب لهم به النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم حتّى قبضه الله… »(7) .
* وقال الطبري ـ في ذكر الوفود في السنة العاشرة ـ : « وفيها قدم وفد العاقبوالسيّد من نجران ، فكتب لهما رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم كتاب الصلح »(8) .
ثمّ قال في خروج الأمراء والعمّال على الصدقات : « وبعث علىّ بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم »(9) .
* وقال ابن الجوزي : « وفي سنة عشر من الهجرة أيضاً قدم العاقب والسيّد من نجران ،وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم كتاب صلح »(10) .
* وقال ابن خلدون : « وفيها قدم وفد نجران النصارى ، في سبعين راكباً ، يقدمهم أميرهم العاقب عبد المسيح من كندة ، وأسقفهم أبو حارثة من بكر بن وائل والسيّد الأيهم ، وجادلوا عن دينهم ، فنزل صدر سورة آل عمران ، وآية المباهلة ، فأبوا منها ، وفرقوا وسألوا الصلح ، وكتب لهم به على ألف حلّة في صفر وألف في رجب ، وعلى دروع ورماح وخيل وحمل ثلاثين من كلّ صنف ، وطلبوا أن يبعث معهم والياً يحكم بينهم، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح ، ثمّ جاء العاقب والسيّد وأسلما »(11) .
(1) صحيح البخاري 3 : 134/4380 و4381 .
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ـ 8 : 77 .
(3) فتوح البلدان : 77 .
(4) عيون الأثر 2 : 327 ، وغيره .
(5) صحيح مسلم 4 : 227/2420 .
(6) نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 11 : 315 ـ 338 .
(7) الطبقات الكبرى 1 : 357 ـ 358 .
(8) تاريخ الطبري 3 : 139 .
(9) تاريخ الطبري 3 : 147 .
(10) المنتظم في تاريخ الأُمم ـ حوادث السنة العاشرة ـ 4 : 3 .
(11) تاريخ ابن خلدون 4 : 836 ـ 837 .