1 ـ ترجمة يزيد بن أبي زياد :
وهو : القرشي الهاشمي الكوفي ، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل.
هو من رجال الكتب الستّة ، قال المزّي : « قال البخاري في اللباس من صحيحه عقيب حديث عاصم بن كليب عن أبي بردة : قلنا لعليّ : ما القسيّة ؟ وقال جرير عن يزيد في حديثه : القسيّة ثياب مضلّعة… الحديث.
وروى له في كتاب رفع اليدين في الصلاة. وفي الأدب. وروى له مسلم مقروناً بغيره ، واحتجّ به الباقون »(1) .
وروى عنه جماعة كبيرة من أعلام الأئمّة كسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، وشريك بن عبدالله ، وشعبة بن الحجّاج ، وعبدالله بن نمير ، وأمثالهم(2) .
قال الذهبي : حدّث عنه شعبة مع براعته في نقد الرجال(3) .
أقول :
يكفي في جواز الاعتماد عليه وصحّة الاحتجاج به رواية أصحاب الكتب الستّة وكبار الأئمّة عنه.
مضافاً إلى قول مسلم في مقدّمة كتابه : « فإنّ اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم، كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم وأضرابهم »(4) .
وقد وثّقه عدّة من الأئمّة أيضاً :
قال ابن سعد : كان ثقةً في نفسه إلاّ أنّه اختلط في آخر عمره فجاء بالعجائب.
وقال ابن شاهين ـ في الثقات ـ : قال أحمد بن صالح المصري : يزيد ابن أبي زياد ثقة ولا يعجبني قول من تكلّم فيه.
وقال ابن حبّان : كان صدوقاً إلاّ أنّه لمّا كبر ساء حفظه وتغيّر ، وكان يلقّن ما لقّن فوقعت المناكير في حديثه.
وقال الآجري عن أبي داود : لا أعلم أحداً ترك حديثه ، وغيره أحبّ إلىّ منه.
وقال يعقوب بن سفيان : ويزيد وإن كانوا يتكّلمون فيه لتغيّره فهو على العدالة الثقة وإن لم يكن مثل الحكم ومنصور(5) .
ثمّ إنّا نظرنا في كلمات القادحين ـ بالرغم من كون الرجل من رجال الكتب الستّة ، إذ احتجّ به الأربعة وروى له الشيخان ـ فوجدنا أوّل شيء يقولونه :
كان من أئمّة الشيعة الكبار(6) .
فسألنا : ما المراد من « الشيعة » ؟ ومن أين عرف كونه « من أئمّة الشيعة الكبار » ؟
فجاء الجواب : تدلّ على ذلك أحاديث رواها ، موضوعة(7) .
فنظرنا فإذا به يروي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص ، عن أبي برزة ، قال : « تغنّى معاوية وعمرو بن العاص ، فقال النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم : اللّهمّ اركسهما في الفتنة ركساً ، ودعّهما في النار دعّاً »(8) .
فهذا الحديث موضوع(9) أو غريب منكر(10) لأنّه ذمّ لمعاوية رأس الفئة الباغية وعمرو بن العاص رأس النفاق !! فيكون راويه « من أئمّة الشيعة الكبار » !!
لكن يبدو أنّهم ما اكتفوا ـ في مقام الدفاع عن معاوية وعمرو ـ برمي الحديث بالوضع وراويه بالتشيّع ، فالتجأوا إلى تحريف لفظ الحديث ، ووضع كلمة « فلان وفلان » في موضع الاسمين ، ففي المسند :
« حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي ، ثنا عبد الله بن محمّد ـ وسمعته أنا من عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة ـ ، ثنا محمّد بن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص ، قال : اخبرني ربّ هذه الدار أبو هلال ، قال : سمعت أبا برزة ، قال : كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم في سفر ، فسمع رجلين يتغنّيان وأحدهما يجيب الآخر وهو يقول :
لا يزال جوادي تلوح عظامه *** ذوى الحرب عنه أن يجنّ فيقبرافقال النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم : انظروا من هما ؟ قال : فقالوا : فلان وفلان !!
قال : فقال النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم : اللّهمّ اركسهما ركساً ، ودعّهما إلى النار دعّاً ».
وكأنّ هذا المقدار لم يشف غليل القوم ، أو كان هذا التحريف لأجل الإبهام ، فيكون مقدّمةً ليأتي آخر فيزيله ويضع « معاوية » و« عمراً » آخرين !! بخبر مختلق :
قال السيوطي ـ بعد أن أورد الحديث عن أبي يعلى وتعقّب ابن الجوزي بقوله : هذا لا يقتضي الوضع ، والحديث أخرجه أحمد في مسنده : حدّثنا… وله شاهد من حديث ابن عبّاس : قال الطبراني في الكبير… ـ : « وقال ابن قانع في معجمه : حدّثنا محمّد بن عبدوس كامل ، حدّثنا عبد الله بن عمر ، حدّثنا سعيد أبو العبّاس التيمي ، حدّثنا سيف بن عمر ، حدّثني أبو عمر مولى إبراهيم بن طلحة ، عن زيد بن أسلم ، عن صالح ، عن شقران ، قال : بينما نحن ليلةً في سفر ، إذا سمع النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم صوتاً فقال : ما هذا ؟! فذهبت أنظر ، فإذا هو معاوية بن رافع ، وعمرو بن رفاعة بن التابوت يقول :
لا يزال جوادي تلوح عظامه *** ذوى الحرب عنه أن يموت فيقبرافأتيت النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم فأخبرته فقال : اللّهمّ اركسهما ودعّهما إلى نار جهنم دعّاً. فمات عمرو بن رفاعة قبل أن يقدم النبيّ صلّى الله عليه ] وآله [ وسلّم من السفر ».
قال السيوطي : « وهذه الرواية أزالت الإشكال وبيّنت أن الوهم وقع في الحديث الأوّل، في لفظة واحدة وهي قوله : ابن العاصي ، وإنّما هو ابن رفاعة أحد المنافقين ، وكذلك معاوية بن رافع أحد المنافقين ، والله أعلم »(11) .
بل السيوطي نفسه أيضاً يعلم واقع الحال وحقيقة الأمر ، وإلاّ فما أجهله !!
أمّا أوّلا : فلم يكن في الحديث الأوّل إشكال أو وهم حتّى يزال !! غاية ما هناك أنّ في « المسند » لفظ « فلانوفلان » بدل « معاوية وعمرو » والسيوطي يعلم ـ كغيره ـ أنّه تحريف ، إن لم يكن عن عمد فعن سهو !! على أنّه لم يوافق ابن الجوزي في الطعن في الحديث ، بل ذكر له ما يشهد له بالصحّة.
وأمّا ثانياً : فلو سلّمنا وجود إبهام وإشكال في الحديث الأوّل ، فهل يزال ويرتفع بحديث لا يرتضي أحد سنده مطلقاً ، لمكان « سيف بن عمر » … ولنلق نظرةً سريعة في ترجمته .
قال ابن معين : ضعيف الحديث.
وقال أبو حاتم : متروك الحديث.
وقال أبو داود : ليس بشي.
وقال النسائي : ضعيف.
وقال الدارقطني : ضعيف.
وقال ابن عديّ : بعض أحاديثه مشهورة وعامّتها منكرة لم يتابع عليها.
وقال ابن حبّان : يروي الموضوعات عن الأثبات. قالوا : كان يضع الحديث ، اتّهم بالزندقة.
وقال البرقاني عن الدارقطني : متروك.
وقال الحاكم : اتّهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط(12).
والعجيب أنّ السيوطي نفسه يردّ أحاديثه قائلا : « إنّه وضّاع »(13) !
أقول :
فلينظر الباحث المنصف كيف يردّون حديثاً ـ يروونه عن رجل اعتمد عليه أرباب الصحاح الستّة ـ لكونه في ذمّ ابن هند وابن النابغة ، وهم شيعة لهما… ويقابلونه بحديث يرويه رجل اتّفقوا على سقوطه واتّهموه بالوضع والزندقة !!
فلينظر ! كيف يتلاعبون بالدين وسنّة رسول ربّ العالمين !!
ولا يتوهّمنّ أنّ هذه طريقتهم في أبواب المناقب والمثالب فحسب ، بل هي في الأصولين والفقه أيضاً !!
فلنرجع إلى ما كنّا بصدده ، ونقول :
إن « يزيد بن أبي زياد » ثقة ، ومن رجال الكتب الستّة ، ولا عيب فيه إلاّ روايته بعض مثالب أئمّة القوم !! ولذا جعلوه « من أئمّة الشيعة الكبار » !!
على أنّ كون الراوي شيعياً ، بل رافضيّاً ـ حسب اصطلاحهم ـ لا يضرّ بوثاقته كما قرّروا في محلّه وبنوا عليه في مواضع كثيرة(14) .
وتلخص : صحّة روايته في نزول آية المودّة في خصوص « أهل البيت » الطاهرين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
(1) تهذيب الكمال في أسماء الرجال 32 : 140 .
(2) تهذيب الكمال 32 : 137 ، سير أعلام النبلاء 6 : 129 ، تهذيب التهذيب 11 : 287 رقم 531 .
(3) سير أعلام النبلاء 6 : 130 .
(4) صحيح مسلم 1 : 7 .
(5) هذه الكلمات بترجمته من تهذيب التهذيب 11 : 288 ـ 289 ، وغيره.
(6) الكامل ـ لابن عديّ ـ 9 : 164 ، تهذيب الكمال 32 : 138 ، تهذيب التهذيب 11 : 288 .
(7) تهذيب الكمال 32 : 138 . الهامش .
(8) أخرجه أحمد في المسند 5 : 580/19281 ، والطبراني والبزّار كما في مجمع الزوائد 8 : 121.
(9) الموضوعات لابن الجوزي ، لكن لا يخفى أنّه لم يطعن في الحديث إلاّ من جهة « يزيد» ولم يقل فيه إلاّ « كان يلقّن بأخرة فيتلقّن » ، ولذا تعقّبه السيوطي بما سنذكره.
(10) ميزان الاعتدال في نقد الرجال 4 : 424 .
(11) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1 : 427 .
(12) تهذيب التهذيب 4 : 259 .
(13) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1 : 199 .
(14) مقدّمة فتح الباري شرح صحيح البخاري : 398 .