و الثانية : جهة فقه الحديث :
وفيه :
أوّلا : إنّ من غير المعقول أن يخاطب الله ورسوله المشركين بطلب الأجر على أداء الرسالة ، فإنّ المشركين كافرون ومكذّبون لأصل هذه الرسالة ، فكيف يطلب منهم الأجر ؟!
وثانياً : إنّ هذه الآية مدنيّة ، وقد ذكرت في سبب نزولها روايات تتعلّق بالأنصار.
وثالثاً : على فرض كونها مكّيّة فالخطاب للمسلمين لا للمشركين كما بيّنّا.
وبعد ، فلو تنزّلنا وجوّزنا الأخذ سنداً ودلالة بما جاء في المسند وكتابي البخاريومسلم عن طاووس عن ابن عبّاس ، فلا ريب في أنّه نصّ في ذهاب سعيد بن جبير إلى القول الحقّ.
وأمّا رأي ابن عبّاس فمتعارض ، والتعارض يؤدّي إلى التساقط ، فلا يبقى دليل للقول بأنّ المراد « القرابة » بين النبيّ وقريش ، لأنّ المفروض أن لا دليل عليه إلاّ هذا الخبر.
لكنّ الصحيح أنّ ابن عبّاس ـ وهو من أهل البيت وتلميذهم ـ لا يخالف قولهم ، وقد عرفت أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ينصّ على نزول الآية فيهم ، وكذا الإمام السجّاد… ولم يناقش أحد في سند الخبرين ، وكذا الإمامان السبطان والإمامان الصادقان… فكيف يخالفهم ابن عبّاس في الرأي ؟!
لكن قد تمادى بعض القوم في التزوير والتعصّب ، فوضعوا على لسان ابن عبّاس أشياء ، ونسبوا إليه المخالفة لأمير المؤمنين عليه السلام في قضايا ، منها قضيّة المتعة ، حتّى وضعوا حديثاً في أنّ عليّاً عليه السلام كان يقول بحرمة المتعة فبلغه أنّ ابن عبّاس يقول بحلّيّتها ، فخاطبه بقوله :
« إنّك رجل تائه » ! ومع ذلك لم يرجع ابن عبّاس عن القول بالحلّيّة !(1) .
ولهذا نظائر لا نطيل المقام بذكرها…
والمقصود أنّ القوم لمّا رأوا رواية غير واحد من الصحابة ـ وبأسانيد معتبرة ـ نزول الآية المباركة في « أهل البيت » ووجدوا أئمّة أهل البيت عليهم السلام مجمعين على هذا القول… حاولوا أوّلا تضعيف تلك الأخبار ثمّ وضع شيء في مقابلها عن واحد من علماء أهل البيت ليعارضوها به ، وليلقوا الخلاف بينهم بزعمهم… ثمّ يأتي مثل ابن تيميّة ـ ومن تبعه ـ فيستدلّ بالحديث الموضوع ويكذّب الحديث الصحيح المتّفق عليه بين المسلمين.
تنبيهان :
الأوّل :
قد تنبه الفخر الرازي إلى أنّ ما ذكره في ذيل الآية من الأدلّة على وجوب محبّة أهل البيت وإطاعتهم واحترامهم ، وحرمة بغضهم وعدائهم… يتنافى مع القول بإمامة الشيخين وتعظيم الصحابة قاطبةً… مع ما كان منهم بالنسبة إلى أهل البيت وصدر منهم تجاههم ، فحاول أن يتدارك ذلك فقال :
« قوله ( إلاّ المودّة في القربى ) فيه منصب عظيم للصحابة !! لأنّه تعالى قال : ( والسابقون السابقون * أولئك المقرّبون ). فكلّ من أطاع الله كان مقرّباً عند الله تعالى فدخل تحت قوله : ( إلاّ المودّة في القربى ) !
والحاصل : إنّ هذه الآية تدلّ على وجوب حبّ آل رسول الله وحبّ أصحابه ، وهذا المنصب لايسلم إلاّ على قول أصحابنا أهل السُنّة والجماعة الّذين جمعوا بين حبّ العترة والصحابة.
وسمعت بعض المذكّرين قال : إنّه صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم قال : مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركب فيها نجا. وقال : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ; ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات ، وراكب البحر يحتاج إلى أمرين : أحدهما : السفينة الخالية عن العيوب والثقب. والثاني : الكواكب الظاهرة الطالعة النيّرة ، فإذا ركب تلك السفينة ووقع نظره على تلك الكواكب الظاهرة كان رجاء السلامة غالباً. فكذلك ركب أصحابنا أهل السُنّة سفينة حبّ آل محمّد ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة ، فرجوا من الله تعالى أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة » !!(2) .
وكذلك النيسابوري ، فإنّه قال : « قال بعض المذكّرين : إنّ النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم قال : مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركب فيها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق. وعنه صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم.
فنحن نركب سفينة حبّ آل محمّد ونضع أبصارنا على الكواكب النيّرة ، أعني آثار الصحابة لنتخلّص من بحر التكليف وظلمة الجهالة ، ومن أمواج الشبهة والضلالة » !!(3) .
وكذلك الآلوسي ، فإنّه قال مثله وقد استظرف ما حكاه الرازي ، قال الآلوسي بعد ما تقدّم نقله عنه في وجوب محبّة أهل البيت ومتابعتهم وحرمة بغضهم ومخالفتهم :
« ومع هذا ، لا أعدّ الخروج عمّا يعتقده أكابر أهل السُنّة في الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ديناً ، وأرى حبّهم فرضاً عليّ مبيناً ، فقد أوجبه أيضاً الشارع ، وقامت على ذلك البراهين السواطع. ومن الظرائف ما حكاه الإمام عن بعض المذكّرين… »(4) .
أقول :
لقد أحسن النيسابوري والآلوسي إذ لم يتّبعا الفخر الرازي في ما ذكره في صدر كلامه ، فإنّي لم أفهم وجه ارتباط مطلبه بآية المودّة… : على أنّ فيه مواضع للنظر ، منها : إنّ قوله تعالى : ( والسابقون السابقون * أولئك المقربون ) قد فسّر في كتب الفريقين في هذه الأمّة بعليّ أمير المؤمنين عليه السلام(5) .
وأمّا الحكاية الظريفة عن بعض المذكّرين ، فإنّ من سوء حظّ هذا المذكّر ـ وهولاء المذكّرين !! ـ تنصيص عشرات من الأئمّة المعتمدين على بطلان حديث النجوم ووضعه وسقوطه :
قال أحمد : حديث لا يصحّ.
وقال البزّار : هذا الكلام لا يصحّ عن النبيّ.
وقال الدارقطني : ضعيف.
وقال ابن حزم : هذا خبر مكذوب موضوع باطل ، لم يصحّ قطّ.
وقال البيهقي : أسانيده كلّها ضعيفة.
وقال ابن عبد البرّ : إسناده لا يصحّ.
وقال ابن الجوزي : هذا لا يصحّ.
وقال أبو حيّان : لم يقل ذلك رسول الله ، وهو حديث موضوع لا يصحّ به عن رسول الله.
وقال الذهبي : هذا باطل.
وقال ابن القيّم ـ بعد الإشارة إلى بعض طرقه ـ : لا يثبت شيء منها.
وضعّفه أيضاً : ابن حجر العسقلاني ، والسيوطي ، والسخاوي ، والمتّقي الهندي ، والمناوي ، والخفاجي ، والشوكاني… وغيرهم…
ومن شاء التفصيل فليرجع إلى رسالتنا فيه(6) .
الثاني :
قال الرازي ـ في الوجوه الدالّة على اختصاص الأربعة الأطهار بمزيد التعظيم ـ : « الثالث : إنّ الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة وهو قوله : اللّهمّ صلّ… » وقد تعقّب بعض علمائنا هذا الكلام بما يعجبني نقله بطوله ، قال :
« فائدة : قال القاضي النعمان : أجمل الله في كتابه قوله ( إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيّها الّذين آمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليماً )فبيّنه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمّته ، ونصب أولياءه لذلك من بعده ، وذلك معجز لهم لا يوجد إلاّ فيهم ، ولا يعلم إلاّ فيهم ، فقال حين سألوا عن الصلاة عليه قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد.
فالصّلاة المأمور بها على النبيّ وآله ليست هي الدعاء لهم كما تزعم العامّة ، إذ لا نعلم أحداً دعا للنبيّ فاستحسنه ، ولا أمر أحداً بالدعاء له ، وإلاّ لكان شافعاً فيه ، ولأنّه لو كان جواب قوله تعالى ( صلّوا عليه ) اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، لزم أن يكون ذلك ردّاً لأمره تعالى ، كمن قال لغيره : إفعل كذا ، فقال : إفعل أنت. ولو كانت الصلاة الدعاء ، لكان قولنا : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، بمعنى : اللّهمّ ادع له ، وهذا لا يجوز.
وقد كان الصحابة عند ذكره يصلّون عليه وعلى آله ، فلمّا تغلّب بنو أميّة قطعوا الصلاة عن آله في كتبهم وأقوالهم ، وعاقبوا الناس عليها بغضاً لآله الواجبة مودّتهم ، مع روايتهم أنّ النبيّ سمع رجلا يصلّي عليه ولا يصلّي على آله فقال : لا تصلّوا علىّ الصلاة البترة ، ثمّ علّمه ما ذكرناه أوّلا. فلمّا تغلّب بنو العبّاس أعادوها وأمروا الناس بها، وبقي منهم بقيّة إلى اليوم لا يصلّون على آله عند ذكره.
هذا فعلهم ، ولم يدركوا أنّ معنى الصلاة عليهم سوى الدعاء لهم ـ وفيه شمّة لهضمة منزلتهم حيث إنّ فيه حاجةً ما إلى دعاء رعيّتهم ـ فكيف لو فهموا أنّ معنى الصلاة هنا المتابعة ؟! ومنه المصلّي من الخيل ، فأوّل من صلّى النبيّ ـ أي تبع ـ جبريل ، حين علّمه الصلاة ، ثمّ صلّى علىّ النبيّ ، إذ هو أوّل ذكر صلّى بصلاته ، فبشّر الله النبيّ أنّه يصلّي عليه بإقامة من ينصبه مصلّياً له في أمّته ، وذلك لمّا سأل النبيّ بقوله : (واجعل لي وزيراً من أهلي ) عليّاً ( اشدد به أزري ) ثمّ قال تعالى : ( صلّوا عليه ) أي : اعتقدوا ولاية علىّ وسلّموا لأمره. وقول النبيّ : قولوا : اللّهمّ صل على محمّد وآل محمّد. أي : اسألوا الله أي يقيم له ولاية ولاة يتبع بعضهم بعضاً كما كان في آل إبراهيم ، وقوله : وبارك عليهم ، أي : أوقع النموّ فيهم ، فلا تقطع الإمامة عنهم.
ولفظ الآل وإن عمّ غيرهم إلاّ أنّ المقصود هم ، لأنّ في الأتباع والأهل والأولاد فاجروكافر لا تصلح الصلاة عليه.
فظهر أنّ الصلاة عليه هي اعتقاد وصيّته والأئمّة من ذرّيّته ، إذ بهم كمال دينهم وتمام النعمة عليهم ، وهم الصلاة التي قال الله إنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، لأنّ الصلاة الراتبة لا تنهى عن ذلك في كثير من الموارد »(7) .
(1) راجع : رسالتنا في المتعتين في : الرسائل العشر .
(2) التفسير الكبير 27 : 166 .
(3) تفسير غرائب القرآن 6 : 74 .
(4) روح المعاني 25 : 32 .
(5) مجمع الزوائد 9 : 102 .
(6) في كتاب : الرسائل العشر المطبوع المنتشر في الآفاق .
(7) الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم 1 : 190 ـ 191 .