كلام السيّد في مقدّمة المراجعات :
ويقول السيّد في مقدّمة هذا الكتاب :
« هذه صحف لم تكتب اليوم ، وفكر لم تولد حديثاً ، وإنّما هي صحف انتظمت منذ زمن يربو على ربع قرن ، وكادت يومئذ أن تبرز بروزها اليوم ، لكنّ الحوادث والكوارث كانت حواجز قويّة عرقلت خطاها…
أمّا فكرة الكتاب فقد سبقت مراجعاته سبقاً بعيداً ، إذ كانت تلتمع في صدري منذ شرخ الشباب ، التماع البرق في طيّات السحاب ، وتغلي في دمي غليان الغيرة ، تتطلّع إلى سبيل سويّ يوقف المسلمين على حدّ يقطع دابر الشغب بينهم…
ضقت ذرعاً بهذا ، وامتلأت بحمله همّاً ، فهبطت مصر أواخر سنة 1329 مؤمّلاً في « نيله » نيل الأمنيّة التي أنشدها ، وكنت ألهمت أنّي موفّق لبعض ما أريد…
وهناك ـ على نعمى الحال ، ورخاء البال ، وابتهاج النفس ـ جمعني الحظّ السعيد بعلم من أعلامها المبرّزين ، بعقل واسع ، وخلق وادع ، وفؤاد حيّ ، وعلم عيلم ، ومنزل رفيع ، يتبوّأه بزعامته الدينية ، بحقّ وأهليّة…
فكان ممّا اتّفقنا عليه… أنّ أعظم خلاف وقع بين الأمّة : اختلافهم في الإمامة… ولو أنّ كلاًّ من الطائفتين نظرت في بيّنات الأخرى ـ نظر المتفاهم لا نظر الساخط المخاصم ـ لحصحص الحقّ وظهر الصبح لذي عينين.
وقد فرضنا على أنفسنا أن نعالج هذه المسألة ، بالنظر في أدلّة الطائفتين ، فنفهمها فهماً صحيحاً ، من حيث لا نحسّ إحساسنا المجلوب من المحيط والعادة والتقليد ، بل نتعرّى من كلّ ما يحوطنا من العواطف والعصبيّات ، ونقصد الحقيقة من طريقها المجمع على صحّته ، فنلمسها لمساً ، فلعلّ ذلك يلفت أذهان المسلمين ، ويبعث الطمأنينة في نفوسهم بما يتحرّر ويتقرّر عندنا من الحقّ ، فيكون حدّاً ينتهى إليه إن شاء الله تعالى.
لذلك قرّرنا أن يتقدّم هو بالسؤال خطّاً عمّا يريد ، فأُقدّم له الجواب بخطّي ، على الشروط الصحيحة ، مؤيّداً بالعقل أو بالنقل الصحيح عند الفريقين.
وجرت بتوفيق الله عزّ وجلّ على هذا مراجعاتنا كلّها ، وكنّا أردنا يومئذ طبعها لنتمتّع بنتيجة عملنا الخالص لوجه الله عزّ وجلّ ، لكنّ الأيّام الجائرة ، والأقدار الغالبة اجتاحت العزم على ذلك ، ولعلّ الذي أبطأ عنّي هو خير لي.
وأنا لا أدّعي أنّ هذه الصحف تقتصر على النصوص التي تألّفت يومئذ بيننا ، ولا أنّ شيئاً من ألفاظ هذه المراجعات خطّه غير قلمي ، فإن الحوادث التي أخّرت طبعها فرّقت وضعها أيضاً كما قلنا.
غير أنّ المحاكمات في المسائل التي جرت بيننا موجودة بين هاتين الدفّتين بحذافيرها، مع زيادات اقتضتها الحال ، ودعا إليها النصح والإرشاد ، وربّما جرّ إليها السياق على نحو لا يخلّ بما كان بيننا من الاتّفاق » .
أقول :
والنقاط الأساسية في هذه المقدّمة هي :
1 ـ إنّ هذه المراجعات وقعت بين السيّد والشيخ ، وأنّهما قرّرا أن يتقدّم الشيخ بالسؤال خطاًّ عمّا يريد ، فيقدّم له السيّد الجواب بخطّه ، على الشروط الصحيحة المقرّرة بينهما.
2 ـ إنّ هذه المراجعات كانت معدّة للطبع يومذاك ، وكادت أن تبرز بروزها اليوم ، لكنّ الحوادث والكوارث هي التي حجزت عن ذلك.
3 ـ إنّ الحوادث التي أخّرت طبع هذه المراجعات فرّقت وضعها أيضاً ، فألفاظها كلّها بقلم السيّد ، حاكيةً للمحاكمات التي جرت بينه وبين الشيخ بحذافيرها.
وذكر قدّس سرّه سفره إلى مصر بترجمته لنفسه حين شرح أسفاره :
« في مصر :
… كنت أُحبّ ـ فيما أحبّ ـ أن ازور مصر وأقف على أعلامها لأخذ العلم عنهم ، ولأبلوما يبلغني عن الجامع الأزهر ذلك المعهد الجليل. وظلّت هذه الأُمنيّة كامنةً في نفسي حتّى حفّزها خالي المرحوم السيّد محمّد حسين في أواخر سنة 1329 ، حين زارنا في عاملة…
وقد بدأت هذه الجولة بالحضور في دورة الشيخ سليم البشري المالكي ـ شيخ الأزهر يومذاك ـ وكان يشرف على طلاّبه من منبره وهو منطلق في درسه انطلاقاً يلحظ فيه توفّره وضلاعته فيما هو فيه. وكان يلقي درساً في مسند الإمام الشافعي… حضرت درسه لأوّل مرّة… وعرض لي أثناء الدرس ما يوجب المناقشة فناقشته ، ثمّ علمت بعدئذ أن المناقشة وقت المحاضرة ليس من الدراسة الأزهرية ، فكنت بعدها أفضي إليه بعد الدرس بما عندي من المسائل الجديرة بالبحث والمذاكرة.
وقد كانت مناقشتي الأولى ـ في كلّ حال ـ سبباً في اتّصال المودّة بيني وبينه ، وسبيلاً إلى الاحترام المتبادل ، ثمّ طالت الاجتماعات بيننا ، وتشاجنت الأحاديث وتشعّب البحث بما سجّلناه في كتابنا : المراجعات. ولو لم يكن من آثار هذه الزيارة إلاّ هذا الكتاب لكانت جديرة بأن تكون خالدة الأثر في حياتي على الأقلّ.
ولعلّ الكتاب يصوّر بعض الأجواء العلمية التي تفيّأناها يومئذ منطلقين في آفاقها ،منطلقين من القيود الكثيرة التي كانت توثق الأفكار آنذاك برجعيّات يضيق صدرها حتّى بالمناقشة البريئة والتفكير الصحيح.
ومهما يكن من أمر ، فقد نعمنا بمصر في خدمة هذا الشيخ ، واتّصلنا بغيره من أعلام مصر المبرّزين ، إذ زارونا وزرناهم ، أخصّ منهم العلاّمتين : الشيخ محمّد السملوطي والشيخ محمّد بخيت. وقد نجمت هذه الاجتماعات الكريمة عن فوائد جمّة…
وعلى كلّ حال ، فقد غادرت مصر وأنا أحنّ إليها ، وأتزيّد من اللبث فيها ، ولم أغادرها قبل أن يتحفني أعلامها الثلاثة ـ البشري وبخيت والسملوطي ـ بإجازات مفصّلة عامّة عن مشايخهم أجمع ، بطرقهم كلّها المتّصلة بجميع أرباب الكتب والمصنّفات من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم ، في جميع العلوم ، عقلية ونقلية ، ولا سيّما الصحاح الستّة وموطّأ مالك ومسند أحمد ومستدرك الحاكم ، وسائر المسانيد ، وكتب التفسير والكلام والفقه ، وبقيّة العلوم الإسلامية مطلقاً.
وممّن نعمنا بخدمته في مصر ، وتبادلنا معه الزيارات ، وكانت بيننا وبينه محاضرات ومناظرات ، في مسائل فقهية وأصولية وكلامية ، دلّت على غزارة فضله ورسوخ قدمة في العلم والفضيلة : شيخنا الشيخ محمّد عبد الحيّ ابن الشيخ عبد الكريم الكتّاني الإدريسي الفاسي. وقد أجازني أيضاً إجازة عامّة وسّعت طرقي في الرواية والحديث.
واطّردت المراسلة بعد العودة إلى البلاد بيني وبين شيخنا البشري زمناً ، ثمّ طغت عليها الشواغل وكوارث الحرب العامّة الأولى(1) .
وكان رجوعنا من مصر في جمادى الاولى سنة 1330 »(2) .
وقال شارحاً قصّة « المراجعات » حين ذكر مؤلّفاته :
« كتاب المراجعات ، أو : المناظرات الأزهرية والمباحثات المصرية. مجلّد واحد ، يثبّت رأي الإماميّة في الإمامة والخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ألّفناه في مصر ، إذ أتيناها سنة 1329 ، فجمعنا الحظّ السعيد بإمامها الوحيد : الشيخ سليم البشري المالكي ، شيخ الجامع الأزهر في ذلك العهد ، حضرت درسه ، وأخذت عنه علماً جمّاً ، وكان عيلم علم ، وعلم حلم ، وكنت أختلف إلى منزله أخلو به في البحث عمّا لا يسعنا البحث عنه إلاّ في الخلوات ، وكان جلّ بحثنا هذا في الإمامة ، التي ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينيّة مثل ما سلّ عليها ، وقد فرضنا على أنفسنا أن نمعن النظر في البحث عن أدلّتها ، متجرّدين عن كلّ عاطفة سوى انتجاع الحقيقة والوصول اليها من طريقها المجمع على صحّته.
وعلى هذا جرت مناظراتنا ومراجعاتنا ، وكانت خطّيّةً تبادلنا بها المراسلة إبراماً ونقضاً ، فجئته بالحجج الساطعة لا تترك خليجة ولا تدع وليجة ، فقابلها بالذود عن حياضه ، لا يألو في ذلك جهداً ولا يدّخر وسعاً. لكنّ الله عزّ وجلّ بهدايته وتوفيقه يسّر لي ـ وله الحمد ـ درء كلّ شبهة ودحض كلّ إشكال ، حتّى ظهر الصبح لذي عينين…
وكنت أردت يومئذ طبع تلك المراجعات ، وهي 112 مراجعة ، لكنّ الأقدار الغالبة أرجأت ذلك ، فلمّا نكبنا في حوادث سنة 1338 ـ كما سنفصّله في محلّه ـ انتُهبَت مع سائر مؤلّفاتي يوم صيح نهباً في دورنا.
وما أن فرّج الله تعالى عنّا ـ بفضله وكرمه ـ حتّى استأنفت مضامينها بجميع مباحثاتها التي دارت بيننا ، فإذا هي بحذافيرها مدوّنة بين دفّتي الكتاب ، مع زيادات لا تخلّ بما كان بيننا من المحاكمات ، على ما أوضحناه في مقدّمة الكتاب ، والحمد لله ـ باعث من في القبور ـ على بعث هذا السفر النافع ونشره »(3) ..
(1) أُعلنت الحرب العالمية الأُولى سنة 1332 ، أي بعد رجوعه بسنتين فقط .
(2) موسوعة الامام السيد عبد الحسين شرف الدين 7 : 3427 .
(3) موسوعة الامام السيد عبد الحسين شرف الدين 7 : 3316 ـ 3317 .