* قال السيّد رحمه الله :
2 ـ على أنّه لا دليل للجمهور على رجحان شيء من مذاهبهم فضلاً عن وجوبها… وما أظنّ أحداً يجرؤ على القول بتفضيلهم ـ في علم أو عمل ـ على أئمّتنا ، وهم أئمّة العترة الطاهرة…
أقول :
مضافاً إلى :
1 ـ أن الأئمّة الأربعة تنتهي علومهم إلى أئمّة العترة.
2 ـ أنّ تفضيلهم على غيرهم من أئمّة المذاهب السنيّة غير معلوم.
3 ـ أنّه قد وقع الكلام فيما بين أهل السُنّة أنفسهم حول الأئمّة الأربعة علماً وعملاً.
* قال السيّد :
3 ـ على أنّ أهل القرون الثلاثة مطلقاً لم يدينوا بشي من تلك المذاهب أصلاً..
والشيعة يدينون بمذهب الأئمّة من أهل البيت ـ وأهل البيت أدرى بالذي فيه ـ وغيرالشيعة يعملون بمذاهب العلماء من الصحابة والتابعين…
قيل :
« قوله : وأهل البيت أدرى بالذي فيه حجر على عباد الله وتضييق عليهم أن يعلموا… » .
أقول :
أمّا أنّ أهل البيت أدرى بالذي فيه ، فلا يمتري فيه أحد ، لأنّه مقتضى كونهم « أهل البيت » . ومقتضى كونهم « أدرى » أن يكونوا الأولى بالاقتداء والاتباع لمن يريد الوصول إلى « الذي فيه » وإلاّ لزم ترجيح المفضول ، وهو قبيح عند ذوي الالباب والعقول.
وقد نصّ الأئمّة الشارحون للحديث على هذا المعنى ، ونكتفي بعبارة القاري إذ قال في شرحه في « المرقاة في شرح المشكاة » : « الأظهر هو أنّ أهل البيت غالباً يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله… » وستأتي عبارته كاملةً.
وأمّا أنّ غير الشيعة يعملون بمذاهب العلماء من الصحابة والتابعين ، فهذا ما لا يخفى على من راجع سير الصحابة والتابعين وأخبارهم ، ولاحظ كتب غير الشيعة وأسفارهم.. وقد أورد السيّد ـ رحمه الله ـ موارد كثيرة من تلك المذاهب ، وبيّن كيفيّه مخالفتها للنصوص الشرعيّة الواجب العمل بها.. في كتابه « النص والاجتهاد » المطبوع غير مرّة ،المنتشر في سائر البلاد…
* قال السيّد :
4 ـ وما الذي أرتج باب الاجتهاد في وجوه المسلمين بعد أن كان في القرون الثلاثة مفتوحاً على مصراعيه..؟!
قيل :
« نرى المؤلّف في هذه الفقرة قد خرج عن القضيّة الأساسيّة في النقاش ، وأثار قضايافرعية مثل قضيّة فتح باب الاجتهاد ، وهي قضيّة خلافية ليس بين السنّة والشيعة ، بل بين أهل السُنّة أنفسهم… ».
أقول :
لم يجب الرجل عن سؤال السيّد ! أمّا أن أهل السُنّة عادوا في هذه العصور يدعون إلى فتح باب الإجتهاد فذاك ردّ قطعي على أئمّتهم السابقين الّذين غلقوه ، وإن كان في القرون الماضية فيهم من يردّ على سدّ باب الإجتهاد بشدّة ، حتّى ألّف الحافظ السيوطي رسالة : « الردّ على من أخلد إلى الأرض وجهل أنّ الإجتهاد في كلّ عصر فرض » .
هذا ، وقد ثبت تاريخياً أنّ الحكم في القرن السابع بسدّ باب الاجتهاد وانحصار المذاهب في الأربعة المعروفة إنّما كان استجابةً لأمر الحكّام الّذين ارتأوا ذلك لأغراض سياسيّة ، وللتفصيل في هذه القضيّة مجال آخر.
* قال السيّد :
5 ـ هلمّ بنا إلى المهمّة التي نبهتنا إليها من لمّ شعث المسلمين…
أقول :
ذكر السيّد في جواب الشيخ نقطتين مهمّتين للوصول إلى تلك المهمّة :
الأولى : إنّ لمّ شعث المسلمين ليس موقوفاً على عدول الشيعة عن مذهبهم ، ولا على عدول السنّة عن مذهبهم.
وفي هذا ردّ على بعض الكُتّاب المعاصرين من أهل السُنّة ، وقول بعضهم بأنّ المهمّة لا تتحقّق إلاّ بعدول الشيعة عن مذهبهم ، وقول البعض الآخر : بأنّ الشيعة يريدون من أهل السُنّة العدول عن مذهبهم بحجّة تحقيق لمّ شعث المسلمين.
والثانية : إنّ تكليف الشيخ وغيره الشيعة بالأخذ بمذاهب الجمهور ، وعدولهم عن مذهبهم ـ لو دار الأمر بين عدولهم وعدول الجمهور ـ في غير محلّه ، لأنّ توجيه التكليف بذلك ـ في الفرض المذكور ـ إلى أحدهما دون الآخر يحتاج إلى مرجّح ، وتكليف الشيعة دون غيرهم ترجيح بلا مرجح ، بل ترجيح للمرجوح ، بل تكليف بغير المقدور.
نعم ، لا ريب في أنّ أهل السُنّة أكثر عدداً من الشيعة ، ولكنّ الأكثرية العددية لاتكون دليلاً على الحقية فضلا عن الأحقّيّة ، وإلاّ لزم أن يكون الحقّ مع غير المسلمين ، لأنهم أكثر عدداً منهم في العالم ، وهذا باطل ، مضافاً إلى الأدلّة والشواهد من الكتاب والسنّة.
قيل :
« ولم لا تكون المقابلة كاملةً ، فيكون تكليف أهل السُنّة بذلك ترجيح(1)بلا مرجّح ، بل ترجيح للمرجوح ».
أقول :
وهذا كلام في غير محلّه ، لأنّ الهدف هو لمّ شعث المسلمين ، وقد قال السيّد : « الذي أراه أنّ ذلك ليس موقوفاً على عدول الشيعة عن مذهبهم ، ولا على عدول أهل السُنّة عن مذهبهم » فهو لا يكلّفهم بالعدول لتحقّق لمّ الشعث حتّى يكون ترجيحا بلا مرجحّ أو مع المرجّح. لكنّ الشيخ هو الذي كلّف الشيعة بالعدول عن مذهبهم ، فأجاب السيّد بما أوضحناه.
على أنّ تكليف أهل السنّة بالعدول عن مذهبهم ترجيح مع المرجّح ، وذلك للأدلّة التي سيقيمها السيّد بالتفصيل. وخلاصة الكلام في ذلك : أنّه لو دار الأمر بين اتّباع أحد المذاهب الأربعة واتّباع مذهب أهل البيت فلا يشكّ المسلم ، بل العاقل الخبير ، في تقدّم مذهب أهل البيت على المذاهب الأربعة المشكوك في تقدّمها على سائر مذاهب السنيّة.
* قال السيّد :
« نعم يلمّ الشعث وينتظم عقد الاجتماع بتحريركم مذهب أهل البيت ، واعتباركم إيّاه أحد مذاهبكم ، حتّى يكون نظر كلّ من الشافعيّة والحنفيّة والمالكيّة والحنبليّة ، إلى شيعة آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم كنظر بعضهم إلى بعض. وبهذا يجتمع شمل المسلمين فينتظم عقد اجتماعهم ».
قيل :
]بعد السبّ والشتم[ : « وإنّ من أبسط ما يردّ به عليه : إنّ الأئمّة الّذين يزري بهم وبأتباعهم كلّ منهم يجلّ الآخر ، ويعترف بعلمه وفضله ، فالشافعي أخذ عن مالك ، وأخذ عن محمّد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة ، وأحمد أخذ عن الشافعي. ولم يزل المسلمون يأخذون بعضهم عن بعض ، المالكي عن الشافعي ، والحنفي عن المالكي ، والحنبلي عن الشافعي. وكلّ منهم عن آخر ، فهل نظرة هذا المفتري وأمثاله إلى هؤلاء وأتباعهم هي نظرة بعضهم إلى بعض ؟ » .
أقول :
كأنّ الرجل لا يفهم مراد السيّد ! أو لا يريد أن يفهمه ! إنّ السيّد يقول : لينظر كلّ من أصحاب المذاهب الأربعة إلى شيعة آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم كنظر بعضهم إلى بعض. أي : فكما يرى الشافعيّة أنّ مذهب الحنفية مذهب من مذاهب المسلمين ، ويرى الحنفيّة المالكية كذلك… وهكذا… فلينظروا إلى مذهب شيعة آل محمّد كذلك ، فإذا نظروا إليهم بهذه النظرة ، وكانت المذاهب كلّها من دين الاسلام اجتمع شمل المسلمين وانتظم عقد اجماعهم ، لأنّه حين يرى شيعة آل محمّد أنّ أرباب المذاهب الأربعة ينظرون إليهم كنظر بعضهم إلى بعض ، فإنّهم أيضاً سينظرون إليهم بتلك النظرة.
وقد اوضح السيّد ـ رحمه الله ـ مقصوده من « النظر » في عباراته اللاّحقة فقال فيها : « فإذا جاز أن تكون المذاهب أربعة ، فلماذا لا يجوز أن تكون خمسة ؟! » .
وتلخّص : أنّ تحقّق « المهمّة » ليس موقوفاً على عدول أحد الجانبين إلى الآخر ، بل يكفي لتحقّقها قبول أهل السُنّة لأن تكون المذاهب خمسة.
وحينئذ ، فلو تباحث في هذا الظرف شيعي وسنّي على أصل من الأصول ، أو فرع من الفروع ، فاقتنع أحدهم بما يقوله الآخر وانتقل إلى مذهبه ، كان كانتقال الحنفي إلى الشافعيّة أو بالعكس ، وهكذا… وما أكثره في تراجم الرجال وكتب السير(2) .
وأمّا قوله : « إنّ الأئمّة الّذين يزري بهم وبأتباعهم كلّ يجلّ الآخر ويعترف بعلمه وفضله » ففيه :
أوّلا : إنّا لم نجد في كلمات السيّد إزراءً بأحد.
وثانياً : إنّ ما في كتب تراجم علمائهم وسير رجالهم ممّا يكذّب دعوى « كلّ يجلّ الآخر… » كثير… ولو شئت أن أذكر لذكرت ، لكن يطول بنا المقام ، ويكفيك إن تعلم أن مالكاً كان يتكلّم في أبي حنيفة كما ذكره الحافظ الخطيب في عداد من كان يتكلّم فيه ويردّ عليه ( تاريخ بغداد 13 : 400 ) وأنّ مالكاً نفسه تكلّم فيه أحمد بن حنبل ( العلل ومعرفة الرجال 1 : 511 ) وآخرون أيضاً ( كما في تاريخ بغداد 1 : 224 وجامع بيان العلم ـ للحافظ ابن عبد البرّ المالكي 2 : 395 ) وكان من الفقهاء من يتكلّم في الحنابلة ، ويبالغ في ذمّهم، فدسّ الحنابلة عليه سمّاً ، فمات هو وزوجته وولد له صغير !! ( العبر 3 : 52 ، شذرات الذهب 4 : 224 ، الوافي بالوفيات 1 : 280 رقم 182 ) ومنهم من كان يقول : لو كان لي أمر لأخذت الجزية من الشافعيّة ( لسان الميزان 5 : 402 ) .
* قال السيّد :
في آخر المراجعة مخاطباً الشيخ : « ما هكذا الظنّ بكم ولا المعروف من مودّتكم في القربى ».
قيل :
« ثمّ إنّ قوله : ما هكذا الظنّ بكم ولا المعروف من مودّتكم في القربى » تناقض منه ،فإذا كان أهل السُنّة يحفظون المودّة في القربى ، فلماذا يجهد الشيعة في اتّهام أهل السُنّة بأنّهم لم يودّوا ذوي القربى ، بل ظلموهم وغصبوهم حقّهم ؟ ».
أقول :
لقد لمس السيّد من الشيخ ـ لدى اجتماعه به ـ كما نصّ عليه في « بغية الراغبين » وكذافي مقدّمة « المراجعات » المودّة في القربى ، فهذا الخطاب للشيخ لا لكلّ أهل السُنّة ، فأين التناقض ؟! أمّا أهل السُنّة فإنّ كثيرين منهم لم يحفظوا المودّة في القربى ، وقد أوردنا فيما تقدّم كلمات بعضهم في حقّ ذوي القربى ، تلك الكلمات التي أورثت جراحات لاتقلّ ألماً وأثراً عن جراحات السيوف والأسنّة لأسلافهم في ذوي القربى وأشياعهم ، على مدى القرون المتمادية…
(1) كذا .
(2) ومن أطرف ما رأيته في الباب ما ذكره الذهبي ، وأنقله بنصّه :
« محمّد بن حمد بن خلف أبوبكر البندنيجي حنفش ، الفقيه ، تحنبل ثمّ تحنف ثمّ تشفّع. فلذا لقّب حنفش.
ولد سنة 453 وسمع الصيريفيني وابن النقور وأبا علىّ بن البنّاء ، وتلا عليه.
وعنه : السمعاني ، وابن عساكر ، وابن سكينة.
قال أحمد بن صالح الختلي : كان يتهاون بالشرائع ، ويعطّل ، ويستخفّ بالحديث وأهله ويلعنهم.
وقال السمعاني : كان يخل بالصلوات.
توفّي سنة 538 » ميزان الاعتدال 3 : 528
أقول : كأنّ هذا الفقيه !! علم أنّه لن يفلح بالعمل بمذهب ابن حنبل فالتجأ إلى مذهب أبي حنيفة ، ثمّ إلى مذهب الشافعي ، فلم ير شيئا من هذه المذاهب بمبرئ للذمّة ، ولم يجد فيها ضالّته ، وهو يحسب أن لا مذهب سواها ! فخرج عن الدين وضلّ !!
أمّا التهاون والإخلال بالصلوات… فهو موجود في أئمّتهم في الفقه والحديث… نكتفي بذكر واحد منهم ، وهو : الشيخ زاهر بن طاهر النيسابوري الشحاميّ المستملي ـ المتوفّى سنة 533 ـ الموصوف في كلمات القوم بالشيخ العالم ، المحدّث ، المفيد ، المعمّر ، مسند خراسان !! الشاهد ! العمدة في مجلس الحكم !! والذي حدّث عنه ـ في خلق كثير ـ غير واحد من أئمّتهم كأبي موسى المديني ، والسمعاني ، وابن عساكر… فقد ذكروا بترجمته أنّه كان يخلّ بالصلاة إخلالاً ظاهراً ، حتّى أن أخاه منعه من الخروج إلى أصبهان لئلا يفتضح ، لكنّه سافر إلى هناك وظهر الأمر كما قال أخوه ، وعرف أهل اصبهان ذلك ، فترك الرواية عنه غير واحد من الحفّاظ تورّعاً ، وكابر وتجاسر آخرون كما قال الذهبي.
ومن هنا ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال 2 : 64 ، بل أدرجه في الضعفاء 1 : 360 ، وابن حجر في لسان الميزان 2 : 470 ، وراجع ترجمته أيضاً في سير أعلام النبلاء 20 : 9 ، والعبر 2 : 445 .
وقال الذهبي بترجمة أخيه المشار إليه : « أبو بكر وجيه بن طاهر بن محمّد الشحامي ، أخو زاهر… كان خيّراً متواضعاً متعبّداً لا كأخيه ».
وهل ينفعه ـ بعد شهادة السمعاني والذهبي وغيرهم ـ الاعتذار له بشي من المعاذير ؟!
ولو شئت أن أذكر المزيد لذكرت !!