في دفع شبهات المخالفين
وإذا ثبتت صحّة الأحاديث الدالّة على نزول الآية المباركة في « أهل البيت » حتّى التي تكلّم في أسانيدها ، بعد بيان سقوط ما تذرّعوا به ، تندفع جميع الشبهات التي يطرحونها حول ذلك.
ولكنّا مع ذلك نذكر ما قالوه في هذا الباب ، ونجيب عنه بالأدلّة والشواهد القويمة ، ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بيّنة ).
ولعلّ أشدّ القوم مخالفةً في المقام هو ابن تيميّة في « منهاج السنّة » فلنقدّم كلماته :
* يقول ابن تيميّة : « ثبت في الصحيح عن سعيد بن جبير : أنّ ابن عبّاس سئل عن قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) قال : فقلت : إلاّ أن تودّوا ذوي قربى محمّد. فقال ابن عبّاس : عجلت ! إنّه لم يكن بطن من قريش إلاّ لرسول الله منهم قرابة فقال : قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ أن تؤدّوني في القرابة التي بيني وبينكم.
فابن عبّاس كان من كبار أهل البيت وأعلمهم بتفسير القرآن ، وهذا تفسيره الثابت عنه.
ويدلّ على ذلك أنّه لم يقل : إلاّ المودّة لذوي القربى ، ولكن قال : إلاّ المودّة في القربى. ألا ترى أنّه لمّا أراد ذوي قرباه قال : ( واعلموا أنّما غنمتم من شيء فأنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى ). ولا يقال : المودّة في ذوي القربى، وإنّما يقال : المودّة لذوي القربى ، فكيف وقد قال ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى) ؟!
ويبيّن ذلك : إنّ الرسول صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم لا يسأل أجراً أصلاً ، إنّما أجره على الله ، وعلى المسلمين موالاة أهل البيت لكن بأدلّة أخرى غير هذه الآية وليست موالاتنا لأهل البيت من أجر النبيّ في شيء.
وأيضاً ، فإنّ هذه الآية مكّيّة ، ولم يكن عليّ بعد قد تزوّج بفاطمة ، ولا ولد له أولاد »(1) .
* وقال ابن تيميّة :
« وأمّا قوله : وأنزل الله فيهم ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى)فهذا كذب ظاهر ، فإنّ هذه الآية في سورة الشورى ، وسورة الشورى مكّيّة بلا ريب ، نزلت قبل أن يتزوّج علىّ بفاطمة…
وقد تقدّم الكلام على الآية وأنّ المراد بها ما بيّنه ابن عبّاس… رواه البخاري وغيره.
وقد ذكر طائفةً من المصنّفين من أهل السُنّة والجماعة والشيعة ، من أصحاب أحمد وغيرهم ، حديثاً عن النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم أنّ هذه الآية لمّا نزلت قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ قال : عليّ وفاطمة وابناهما.
وهذا كذب باتّفاق أهل المعرفة » !(2) .
* وكرّر ابن تيميّة :
تكذيب الحديث المذكور..
وأنّ الآية في سورة الشورى وهي مكّيّة ، وأنّ عليّاً إنّما تزوّج فاطمة بالمدينة..
وأنّ التفسير الذي في الصحيحين يناقض ذلك الحديث ، قال : سئل ابن عبّاس..
وأنّه قال : ( لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) ولم يقل : إلاّ المودّة للقربى ، ولا المودّة لذوي القربى كما قال : ( واعلموا … ) ..
وأنّ النبيّ لا يسأل على تبليغ رسالة ربّه أجراً البتة ، بل أجره على الله..
وأنّ القربى معرّفه باللام ، فلا بدّ أن تكون معروفةً عند المخاطبين ، وقد ذكرنا أنّها لمّا نزلت لم يكن قد خلق الحسن ولا الحسين ، ولا تزوّج عليّ بفاطمة ، فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها يمتنع أن تكون هذه ، بخلاف القربى التي بينه وبينهم ، فإنّها معروفة عندهم(3) .
* ولم يذكر ابن حجر العسقلاني في ( تخريج الكشّاف ) إلاّ « المعارضة » قال : « وقد عارضه ما هو أولى منه ، ففي البخاري… »(4) وكذا في « فتح الباري » وأضاف : « ويؤيّد ذلك أنّ السورة مكّيّة »(5) .
* وقال ابن كثير : « وذكر نزول الآية في المدينة بعيد ، فإنّها مكّيّة ، ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلّيّة ، فإنّها لم تتزوّج بعليّ ـ رضي الله عنه ـ إلاّ بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة. والحقّ تفسير هذه الآية بما فسّرها حبر الأمّة… »(6) .
* وقال القسطلاني : « والآية مكّيّة ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولاد بالكلّيّة ، فإنّها لم تتزوّج بعليّ إلاّ بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة. وتفسير الآية بما فسّر به حبر الأمّة وترجمان القرآن ابن عبّاس أحقّ وأولى »(7) .
* والشوكاني اقتصر على المعارضة وترجيح الحديث عن طاووس عن ابن عبّاس(8) .
* وابن روزبهان ما قال إلاّ : « ظاهر الآية على هذا المعنى شامل لجميع قرابات النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم »(9) .
* وقال عبد العزيز الدهلوي ما حاصله :
« إنّه وإن أخرج أحمد والطبراني ذلك عن ابن عبّاس ، لكنّ جمهور المحدّثين يضعّفونه ، لكون سورة الشورى بتمامها مكّيّة ، وما خلق الحسن والحسين حينذاك ، ولم يتزوّج عليّ بعد بفاطمة… والحديث في طريقه بعض الشيعة الغلاة ، وقد وصفه المحدّثون بالصدق ، والظنّ الغالب أنّه لم يكذب وإنّما نقل الحديث بالمعنى. إذ كان لفظه « أهل بيتي » فخصّهم الشيعي بالأربعة…
والمعنى المذكور لا يناسب مقام النبوّة ، وإنّما ذلك من شأن أهل الدنيا ، وأيضاً ينافيه الآيات الكثيرة كقوله تعالى : ( ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلاّ على الله ) فلو كان خاتم الأنبياء طالباً للأجر لزم أن تكون منزلته أدنى من سائرالأنبياء ، وهو خلاف الإجماع »(10) .
فهذه شبهات أعلام القوم في هذا المقام ، فلنذكر الشبهات بالترتيب ونتكلّم عليها :
(1) منهاج السُنّة 4 : 25 ـ 27 .
(2) منهاج السُنّة 4 : 562 ـ 563 .
(3) منهاج السُنّة 7 : 95 ـ 103 .
(4) الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشّاف ـ مع الكشّاف ـ 5 : 404 .
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 : 458 .
(6) تفسير القرآن العظيم 7 : 201 .
(7) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 7 : 331 .
(8) فتح القدير 4 : 537 .
(9) إبطال الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 3 : 20 .
(10) التحفة الاثنا عشرية : 205 .