في تصحيح أسانيد هذه الأخبار
قد ذكرنا في الفصل الأوّل طرفاً من الأخبار في أنّ المراد من « القربى » في « آية المودّة » هم « أهل البيت » ، وقد جاء في بعضها التصريح بأنّهم « عليّ وفاطمة وابناهما ».
وقد نقلنا تلك الأخبار عن أهمّ وأشهر كتب الحديث والتفسير عند أهل السُنّة ، من القدماء والمتأخّرين… وبذلك يكون القول بنزول الآية المباركة في « أهل البيت » قولاً متّفقاً عليه بين الخاصّة والعامّة.
فأمّا ما رواه طاووس من جزم سعيد بن جبير بأنّ المراد هم « أهل البيت » عليهم السلام خاصّة ، وهو الذي أخرجه الشيخان وأحمد والترمذي وغيرهم… فلم أجد طاعناً في سنده… وإن كان لنا كلام فيه ، وسيأتي.
وأمّا ما أخرج في ( المناقب ) لأحمد بن حنبل فهو من الزيادات ، فالقائل « كتب إلينا » هو « القطيعي » : أبو بكر أحمد بن جعفر الحنبلي ـ المتوفى سنة 368 ـ وهو راوي : المسند ، والزهد ، والمناقب ، لأحمد بن حنبل.
حدّث عنه : الدارقطني ، والحاكم ، وابن رزقويه ، وابن شاهين ، والبرقاني ، وأبو نعيم ، وغيرهم من كبار الأئمّة.
ووثّقه الدارقطني قائلا : ثقة زاهد قديم ، سمعت أنّه مجاب الدعوة ; وقال البرقاني : ثبت عندي أنّه صدوق ، وقد ليّنته عند الحاكم فأنكر عليّ وحسّن حاله وقال : كان شيخي ; قالوا : قد ضعف واختلّ في آخر عمره ، وتوقّف بعضهم في الرواية عنه لذلك.
ومن هنا أورده الذهبي في ( ميزانه ) مع التصريح بصدقه ، وهذه عبارته : « ]صحّ[ أحمد بن جعفر بن حمدان أبو بكر القطيعي ، صدوق في نفسه مقبول ، تغيّر قليلاً. قال الخطيب : لم نرَ أحداً ترك الإحتجاج به » ثمّ نقل ثقته عن الدارقطني وغيره ، وردّ على من تكلّم فيه لاختلاله في آخر عمره(1) .
و« محمّد بن عبدالله بن سليمان الحضرمي » هو « مطيّن » المتوفّى سنة 297 ، قال الدارقطني : ثقة جبل ، وقال الخليلي : ثقة حافظ ، وقال الذهبي : الشيخ الحافظ الصادق ، محدّث الكوفة…(2) .
وسيأتي الكلام على سائر رجاله ; بما يثبت صحّة السند وحجّيّة الخبر.
وأمّا ما رواه ابن جرير الطبري حجّةً للقول بنزول الآية في « أهل البيت » وقد كان أربع روايات… فما تكلّم إلاّ في الثاني منها ، وهذا إسناده :
« حدّثنا أبو كريب ، قال : ثنا مالك بن إسماعيل ، قال : ثنا عبدالسلام ، قال : ثنا يزيد بن أبي زياد ، عن مِقسَم ، عن ابن عبّاس… ».
قال ابن كثير : « وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن عليّ بن الحسين ، عن عبد المؤمن بن عليّ ، عن عبد السلام ، عن يزيد بن أبي زياد ـ وهو ضعيف ـ بإسناده مثله أو قريباً منه ».
وتبعه الشوكاني حيث إنّه بعد أن رواه قال : « وفي إسناده يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف ».
وأمّا ما رواه الأئمّة ، كابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، وعنهم السيوطي ، فقد ضعّف السيوطي سنده ، وتبعه الشهاب الآلوسي ، وقد سبقهما إلى ذلك الهيثمي وابن كثير وابن حجر العسقلاني ، قال الأخير في شرح البخاري :
« وهذا الذي جزم به سعيد بن جبير قد جاء عنه من روايته عن ابن عبّاس مرفوعاً ، فأخرج الطبري وابن أبي حاتم من طريق قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : لمّا نزلت قالوا : يا رسول الله ، من قرابتك الّذين وجبت علينا مودّتهم ؟… الحديث. وإسناده ضعيف… وقد جزم بهذا التفسير جماعة من المفسّرين ، واستندوا إلى ما ذكرته عن ابن عبّاس من الطبراني وابن أبي حاتم ، وإسناده واه ، فيه ضعيف ورافضي »(3) .
وقال في تخريج أحاديث الكشّاف : « أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم والحاكم في مناقب الشافعي ، من رواية حسين الأشقر ، عن قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، وحسين ضعيف ساقط »(4) .
وقال ابن كثير : « وقال ابن أبي حاتم : حدّثنا عليّ بن الحسين ، حدّثنا رجل سماه ، حدّثنا حسين الأشقر ، عن قيس ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس… وهذا إسناد ضعيف ، فيه مبهم لا يعرف ، عن شيخ شيعي متخرّق ، وهو حسين الأشقر »(5).
وتبعه القسطلاني بقوله : « وأمّا حديث ابن عبّاس أيضاً عند ابن أبي حاتم ، قال : لمّا نزلت هذه الآية ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الّذين أمر الله بمودّتهم ؟ قال : فاطمة وولدها عليهم السلام. فقال ابن كثير إسناده ضعيف ، فيه متّهم لا يعرف إلاّ عن شيخ شيعي مخترق ، وهو حسين الأشقر»(6) .
وقال الهيثمي : « رواه الطبراني من رواية حرب بن الحسن الطحّان ، عن حسين الأشقر ،عن قيس بن الربيع ، وقد وثّقوا كلهم وضعّفهم جماعة وبقيّة رجاله ثقات ».
أقول :
فالأخبار الدالّة على القول الحقّ ، المرويّة في كتب القوم ، منقسمة بحسب آرائهم في رجالها إلى ثلاثة أقسام :
1 ـ ما اتّفقوا على القول بصحّته ; وهو حديث طاووس عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.
2 ـ ما ذكروه وسكتوا عن التكلّم في سنده ولم يتفوّهوا حوله ببنت شفة ! بل منه ما لم يجدوا بدّاً من الاعتراف باعتباره ، كأخبار قول النبيّ لمن سأله عمّا يطلب في قبال دعوته ، وخطبة الإمام الحسن عليه السلام بعد وفاة أبيه ، وكلام الإمام السجّاد في الشام ، ونحو ذلك.
3 ـ ما رووه وتكلّموا في سنده.
أمّا الأوّل فلنا كلام حوله ، وسيأتي في أوّل الفصل الرابع.
وأمّا القسم الثاني ، فلا حاجة إلى بيان صحّته بعد أن أقرّ القوم بذلك.
وأمّا القسم الثالث ، فهو المقصود بالبحث هنا.
ولنفصّل الكلام في تراجم من ضعّفوه من رجال أسانيد هذه الأخبار ، ليتبيّن أنّ جميع ما ذكروه ساقط مردود ! على ضوء كلمات أعلام الجرح والتعديل منهم :
(1) تاريخ بغداد 4 : 73 ، المنتظم 14 : 260 ، سير أعلام النبلاء 16 : 210 ، ميزان الاعتدال 1 : 87 ، الوافي بالوفيات 6 : 290 ، وغيرها .
(2) تذكرة الحفّاظ 2 : 662 ، الوافي بالوفيات 3 : 345 ، سير اعلام النبلاء 14 : 41 .
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري 8 : 457 ـ 458 .
(4) الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشّاف ـ مع الكشّاف ـ 5 : 404 .
(5) تفسير القرآن العظيم 7 : 201 .
(6) إرشاد الساري 7 : 331 .