* وقال عبد العزيز الدهلوي ما تعريبه :
« ومنها آية المباهلة ، وطريق تمسّك الشيعة بهذه الآية هو أنّه لمّا نزلت (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ..) خرج رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم من بيته ومعه عليّ وفاطمة وحسن وحسين ، فالمراد من ( أبناءنا ) الحسن والحسين ، ومن (أنفسنا)الأمير ، وإذا صار نفس الرسول ـ وظاهر أنّ المعنى الحقيقي لكونه نفسه محال ـ فالمراد هو المساوي ، ومن كان مساوياً لنبيّ عصره كان بالضرورة أفضل وأولى بالتصرّف من غيره ; لأنّ المساوي للأفضل الأولى بالتصرّف ، أفضل وأولى بالتصرّف ، فيكون إماماً ، إذ لا معنى للإمام إلاّ الأفضل الأولى بالتصرّف.
هذا بيان وجه الإستدلال ، ولا يخفى أنّه بهذا التقريب غير موجود في كلام أكثر علماء الشيعة ، فلهذه الرسالة الحقّ عليهم من جهة تقريرها وتهذيبها لأكثر أدلّتهم ، ومن شكّ في ذلك فلينظر إلى كتبهم ليجد كلماتهم مشتّتة مضطربة قاصرة عن إفادة مقصدهم.
وهذه الآية في الأصل من جملة دلائل أهل السُنّة في مقابلة النواصب ، وذلك لأنّ أخذ النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم الأمير وأولئك الأجلّة معه ، وتخصيصهم بذلك دون غيرهم يحتاج إلى مرجّح ، وهو لا يخلو عن أمرين :
فإمّا لكونهم أعزّةً عليه ، وحينئذ يكون إخراجهم للمباهلة ـ وفيها بحسب الظاهر خطر المهلكة ، موجباً لقوّة وثوق المخالفين بصدق نبوّته وصحّة ما يخبر به عن عيسى وخلقته ، إذ العاقل ما لم يكن جازماً بصدق دعواه لا يعرّض أعزّته إلى الهلاك والاستئصال.
وهذا الوجه مختار أكثر أهل السُنّة والشيعة ، وهو الذي ارتضاه عبد الله المشهدي في إظهار الحقّ ، فدلّت الآية على كون هؤلاء الأشخاص أعزّةً على رسول الله ، والأنبياء مبرّأون عن الحبّ والبغض النفسانيّين ، فليس ذلك إلاّ لدينهم وتقواهم وصلاحهم ، فبطل مذهب النواصب القائلين بخلاف ذلك.
وإمّا لكي يشاركونه في الدعاء على كفّار نجران ، ويعينونه بالتأمين على دعائه عليهم فيستجاب بسرعة ، كما يقول أكثر الشيعة وذكره عبد الله المشهدي أيضاً ، فتدلّ الآية ـ بناءً عليه كذلك ـ على علوّ مرتبتهم في الدّين وثبوت استجابة دعائهم عند الله.
وفي هذا أيضاً ردّ على النواصب.
وقد قدح النواصب في كلا الوجهين وقالوا بأنّ إخراجهم لم يكن لشي منهما وإنّما كان لإلزام الخصم بما هو مسلّم الثبوت عنده ، إذ كان مسلّماً عند المخالفين ـ وهم الكفار ـ أنّ البهلة لا تعتبر إلاّ بحضور الأولاد والختن والحلف على هلاكهم ، فلذا أخرج النبيّ أولاده وصهره معه ليلزمهم بذلك.
وظاهر أنّ الأقارب والأولاد ـ كيفما كانوا ـ يكونون أعزّةً على الإنسان في اعتقاد الناس وإن لم يكونوا كذلك عند الإنسان نفسه ، يدلّ على ذلك أنّه لو كان هذا النوع من المباهلة حقّاً عنده صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم لكان سائغاً في الشريعة ، والحال أنّه ممنوع فيها. فظهر أن ما صنعه إنّما كان إسكاتا للخصم.
وعلى هذا القياس يسقط الوجه الثاني أيضاً ، فإنّ هلاك وفد نجران لم يكن من أهمّ المهمّات ، فقد مرّت عليه حوادث كانت أشدّ وأشقّ عليه من هذه القضيّة ولم يستعن في شيء منها في الدعاء بهؤلاء ، على أنّ من المتّفق عليه استجابة دعاء النبيّ في مقابلته مع الكفار ، وإلاّ يلزم تكذيبه ونقض الغرض من بعثته.
فهذا كلام النواصب ، وقد أبطله ـ بفضل الله تعالى ـ أهل السُنّة بما لا مزيد عليه كما هو مقرّر في محله ولا نتعرّض له خوفاً من الإطالة.
وعلى الجملة فإنّ آية المباهلة هي في الأصل ردّ على النواصب ، لكنّ الشيعة يتمسّكون بها في مقابلة أهل السُنّة ، وفي تمسّكهم بها وجوه من الأشكال :
أمّا أوّلا : فلأنّا لا نسلّم أنّ المراد ( بأنفسنا ) هو الأمير ، بل المراد نفسه الشريفة ، وقول علمائهم في إبطال هذا الاحتمال بأنّ الشخص لا يدعو نفسه ، غير مسموع ، إذ قد شاع وذاع في القديم والحديث « دعته نفسه إلى كذا » و« دعوت نفسي إلى كذا » (فطوّعت له نفسه قتل أخيه ) و« أمرت نفسي » و« شاورت نفسي» إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء. فيكون حاصل ( ندع أنفسنا ) : نحضر أنفسنا.
وأيضاً : فلو قرّرنا الأمير من قبل النبيّ مصداقاً لقوله ( أنفسنا ) فمن نقرره من قبل الكفار مع أنّهم مشتركون في صيغة ( ندع ). إذ لا معنى لدعوة النبيّ إياهم وأبناءهم بعد قوله : ( تعالوا ).
فظهر أنّ الأمير داخل في ( أبناءنا ) ـ كما أنّ الحسنين غير داخلين في الأبناء حقيقةً وكان دخولهما حكماً ـ لأن العرف يعدّ الختن ابناً ، من غير ريبة في ذلك.
وأيضاً : فقد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين والملّة ومن ذلك قوله تعالى : ( يخرجون أنفسهم من ديارهم ) أي : أهل دينهم.. ( ولا تلمزوا أنفسكم ).. ( لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً) فلمّا كان للأمير اتّصال بالنبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم في النسب والقرابة والمصاهرة واتّحاد في الدين والملّة ، وقد كثرت معاشرته والألفة معه حتّى قال : « عليّ منّي وأنا من عليّ » كان التعبير عنه بالنفس غير بعيد ، فلا تلزم المساواة كما لا تلزم في الآيات المذكورة.
وأمّا ثانياً : فلو كان المراد مساواته في جميع الصفات ، يلزم الاشتراك في النبوّة والخاتميّة والبعثة إلى كافّة الخلق ، والاختصاص بزيادة النكاح فوق الأربع، والدرجة الرفيعة في القيامة ، والشفاعة الكبرى والمقام المحمود ، ونزول الوحي ، وغير ذلك من الأحكام المختصّة بالنبيّ ، وهو باطل بالإجماع.
ولو كان المراد المساواة في البعض ، لم يحصل الغرض ، لأنّ المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرف ، لا تجعل صاحبها أفضل وأولى بالتصرف، وهو ظاهراً جدّاً.
وأيضاً : فإنّ الآية لو دلّت على إمامة الأمير لزم كونه إماماً في زمن النبيّ وهو باطل بالإتّفاق ، فإن قيّد بوقت دون وقت ـ مع أنّه لا دليل عليه في اللفظ ـ لم يكن مفيداً للمدّعى ; لأن أهل السُنّة أيضاً يثبتون إمامته في وقت من الأوقات »(1) .
أقول :
وفي كلامه مطالب :
1 ـ دعوى أنّ التقريب الذي ذكره للاستدلال بالآية غير وارد في أكثر كتب الشيعة ، قال : « وكذلك الأدلّة الأخرى غالباً ، … ».
وأنت ترى كذب هذه الدعوى بمراجعتك لوجه الاستدلال في بحثنا هذا ، إذ تجد العبارة مذكورة في كتب أصحابنا إمّا باللفظ وإمّا بما يؤدّي معناه ; فلا نطيل.
2 ـ نسبة المناقشة في دلالة الآية المباركة بما ذكره ، إلى النواصب ، وأن أهل السُنّة يدافعون عن أهل البيت في قبال أولئك…
وقد وجدنا ما عزاه إلى النواصب في كلام ابن تيميّة وابن روزبهان ، في ردّهما على العلاّمة الحلّي ، فالحمد لله الذي كشف عن حقيقة حالهم بما أجراه على لسانهم…
3 ـ عدم التسليم بأنّ المراد من ( أنفسنا ) هو « عليّ » بل المعنى : « نحضر أنفسنا » ، واستشهد ـ في الردّ على قول الإماميّة بأنّ الشخص لا يدعو نفسه ـ بعبارات شائعة في كلام العرب في القديم والحديث كما قال.
ونحن لا نناقشه في المعاني المجازيّة لتلك العبارات ، ونكتفي بالقول ـ مضافاً إلى اعتراف غير واحد من أئمّة القوم بأنّ الإنسان الداعي إنّما يدعو غيره لا نفسه(2) ـ بأنّ الأحاديث القطعيّة عند الفريقين دلّت على أنّ المراد من (أنفسنا)هو عليّ عليه السلام ، فما ذكره يرجع في الحقيقة إلى عدم التسليم بتلك الأحاديث وتكذيب رواتها ومخرّجيها ، وهذا ما لا يمكنه الالتزام به.
4 ـ إدخال عليّ عليه السلام في ( أبناءنا )..!!
وفيه : أنّه مخالف للنصوص.
ولا يخفى أنّه محاولة لإخراج الآية عن الدلالة على كون عليّ نفس النبيّ لعلمه بالدلالة حينئذ على المساواة ، وإلاّ فإدخاله في ( أبناءنا ) أيضاً اعتراف بأفضليّته !!
واستشهاده بالآيات مردود بما عرفت في الكلام مع ابن تيميّة.
على أنّه اعترف بحديث « عليّ منّي وأنا من عليّ » وهو ممّا لا يعترف به ابن تيميّة وسائر النواصب.
5 ـ ردّه على المساواة بأنّه : إن كان المراد المساواة في جميع الصفات ، يلزم المساواة بين عليّ والنبيّ في النبوّة والرسالة والخاتميّة والبعثة إلى الخلق كافّة ونزول الوحي… وإن كان المراد المساواة في بعض الصفات فلا يفيد المدّعى…
قلنا : المراد هو الأوّل ، إلاّ النبوّة ، والأمور التي ذكرها من الخاتمية والبعثة… كلّها من شؤون النبوّة…
فالآية دالّة على حصول جميع الكمالات الموجودة في النبيّ في شخص عليّ ، عدا النبوّة ، وقد جاء في الحديث عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال لعليّ : « يا عليّ ! ما سألت الله شيئاً إلاّ سألت لك مثله ، ولا سألت الله شيئاً إلاّ أعطانيه ، غير إنّه قيل لي : أنّه لا نبيّ بعدك »(3) .
6 ـ وبذلك يظهر أنّه عليه السلام كان واجداً لحقيقة الإمامة ـ وهو وجوب الطاعة المطلقة ، والأولوّية التامّة بالنسبة للأمّة ـ في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، إلاّ أنّه كان تابعاً للنبيّ مطيعاً له إطاعةً وانقياداً لم يحدّثنا التاريخ به عن غيره على الإطلاق.
فسقط قوله أخيراً : « فإنّ الآية لو دلّت على إمامة الأمير.. ».
(1) التحفة الاثنا عشرية : 205 ـ 207. وقد ذكرنا كلامه بطوله لئلاّ يظنّ ظانّ أنّا أسقطنا منه شيئاً ممّا له دخل في البحث مع الشيعة حول الآية المباركة.
(2) لاحظ : شيخ زادة على البيضاوي 1/634 .
(3) أخرجه جماعة ، منهم النسائي في الخصائص : 197/147 و198/148 ، المناقب للخوارزمي : 110/117 ، تاريخ مدينة دمشق 42 : 310 .