المراجعة (8)
* قال السيّد رحمه الله :
« حيث قلنا إنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قرنهم بمحكم الكتاب ، وجعلهم قدوة لأولي الألباب ، وسفن النجاة ، وأمان الأمّة ، وباب حطّة : إشارة إلى المأثور في هذه المضامين من السنن الصحيحة والنصوص الصريحة… »(1) .
قيل :
« نحن مع تسليمنا بصحّة بعض الأخبار الواردة في مناقب علىّ ـ رضي الله عنه ـ وفي بنيه ، لكنّنا لا نقرّ أنّ هذه الأخبار فيها حصر وجوب الاتّباع لهم. ولذلك ، فإنّ تضييق مدلولات هذه الأخبار وقصرها على فئة من الصحابة دون فئة ممّا يأباه منطوق هذه النصوص ، فضلا عن أنّ صريح الكتاب والسنّة وعمل الصحابة على غير ذلك. ومعلوم أنّ كثيراً من احتجاجات الرافضة لا تخلو من أحد خطأين : إمّا خطأ في الدليل ، وإمّا خطأ من المدلول ، وقد يجتمع فيها الخطآن معاً. أمّا خطؤهم في الدليل فمن مثل احتجاجهم على أهل السُنّة بأحاديث ضعيفة وهالكة ، من أجل إقامة الحجّة عليهم. وأمّا خطؤهم في المدلول فكاحتجاجهم بآيات قرآنيّة وأحاديث صحيحة ليس فيها دليل على ما يثيرونه من قضايا. وقد يحتجّون بأحاديث ضعيفة أو موضوعة على قضايا غير صحيحة » .
أقول :
هذا كلامه ! ثمّ استشهد بكلام لشيخ إسلامه ابن تيميّة يفيد نفس الذي قاله ، فلم يأت بشي جديد.
ومَن المراد بكلمة « نحن » في أوّل هذا الكلام ؟!
إن كان المراد : علماء أهل السُنّة المحقّقين الشارحين للأحاديث النبويّة ، والمبيّنين لما تدلّ عليه السنّة المحمّديّة ، والّذين عليهم الاعتماد وإليهم الاستناد في هذا الباب ، فسننقل أقاريرهم في دلالة تلك الأخبار المعتبرة على حصر وجوب الاتّباع بأمير المؤمنين والأئمّة من ولده عليهم السلام.
وإن كان المراد ـ من « نحن » ـ : هو المتكلّم نفسه… فقد وجدنا سكوته في قبال بعض الأدلّة ـ ومنها الرواية المتقدّمة قريباً عن الإمام السجّاد عليه السلام ـ وسكوته في هكذا مواضع إقرار.
على أنّه إذا لم يقرّ في موضع فهو محجوج بإقرار أئمّة مذهبه ، ولا أظنّ أن يدّعي هذاالرجل كونه أعلم وأفهم للأخبار من كبار علماء طائفته !
* قال السيّد :
« 3 ـ وإليك بيان ما أشرنا إليه من كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، إذ أهاب في الجاهلين ، وصرخ في الغافلين ، فنادى :
* يا أيّها الناس ، إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله ،وعترتي أهل بيتي ».
قال في الهامش : « أخرجه الترمذي والنسائي عن جابر ، ونقله عنهما المتّقي الهندي في أوّل باب الاعتصام بالكتاب والسنّة من كنز العمّال ، ص172 من جزئه الأوّل ».
* « وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم :
إنّي تركت فيكم ما إن تمسكّتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله حبل ممدودمن السماء إلى الارض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما »(2).
قال في الهامش : « أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم ، وهو الحديث 873 من أحاديث كنزالعمّال ، في ص173 من جزئه الأوّل ».
* « وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم :
إنّي تارك فيكم خليفتين : كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ـ أو : ما بين السماء إلى الأرض ـ وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض ».
قال في الهامش : « أخرجه الإمام أحمد من حديث زيد بن ثابت ، بطريقين صحيحين ، أحدهما في أوّل صفحة 232 ح21068 ، والثاني في آخر صفحة 244 ح21145 من الجزء السادس. أيضاً : ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن سعد عن أبي سعيد. وهو الحديث 947 من أحاديث الكنز ، في ص186 من جزئه الأوّل ».
* « وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم :
إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وأهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يرداعلىّ الحوض ».
قال في الهامش : « أخرجه الحاكم في ص148 من الجزء الثالث من المستدرك ، ثمّ قال :
هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرجه الذهبي في تلخيص المستدرك معترفاً بصحّته على شرط الشيخين ».
* « وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم :
إنّي أوشك أن أدعى فأجيب ، وإنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله عزّوجلّ ، وعترتي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ».
قال في الهامش : « أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري من طريقين ، أحدهما في آخر ص393 ح10747 والثاني في آخر ص408 ح10827 من الجزء الثالث من مسنده. وأخرجه أيضاً : ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن سعد عن أبي سعيد 944 . وهو الحديث 944 من أحاديث الكنز فيص185 من جزئه الأوّل ».
* « ولمّا رجع صلّى الله عليه وآله وسلّم من حجّة الوداع ونزل غدير خمّ ، أمر بدوحات فقممن ، فقال :
كأنّي دعيت فأجبت ، إنّي قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله تعالى ، وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض.
ثمّ قال : إنّ الله عزّ وجلّ مولاي وأنا مولى كلّ مؤمن.
ثمّ أخذ بيد علىّ فقال : من كنت مولاه فهذا وليّه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ». الحديث بطوله.
قال في الهامش : « أخرجه الحاكم عن زيد بن أرقم مرفوعاً في صفحة 109 من الجزءالثالث من المستدرك ، ثمّ قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله. وأخرجه من طريق آخر عن زيد بن أرقم في ص 533 من الجزء الثالث من المستدرك ، ثمّ قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قلت : وأورده الذهبي في تلخيصه معترفاً بصحّته » .
* « وعن عبد الله بن حنطب ، قال : خطبنا رسول الله بالجحفة فقال :
ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : فإنّي سائلكمعن اثنين : القرآن وعترتي ».
قال في الهامش : « أخرجه الطبراني كما في الأربعين للنبهاني. وفي إحياء الميت للسيوطي.
وأنت تعلم أنّ خطبته صلّى الله عليه وآله وسلّم يومئذ لم تكن مقصورةً على هذه الكلمة ، فإنّه لا يقال عمّن اقتصر عليها : إنّه خطبنا. لكنّ السياسة كم اعتقلت ألسن المحدّثين ، وحبست أقلام الكاتبين ! ومع ذلك فإنّ هذه القطرة من ذلك البحر والشذرة من ذلك البذر ، كافية وافية. والحمد لله »(3).
أقول :
أوّلا : إنّ طرق وألفاظ حديث الثقلين كثيرة ومختلفة ، ممّا يشهد بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال هذا الكلام في مناسبات ومواضع متعدّدة. وذلك لأنّه كان ينتهز كلّ فرصة للوصيّة بثقلَيه والأمر باتّباعهما والأخذ منهما. ويؤيّد ذلك كلام ابن حجر المكّي الذي أورده السيد.
وثانياً : إنّ الّذين نقل عنهم السيّد حديث الثقلين هم أعظم وأكبر حفّاظ وأئمّة أهل السنّة في الحديث ، بحيث لو يكون الحديث ـ الذي اتّفق على إخراجه هؤلاء ـ كذباً ، لم تجد عندهم حديثاً صحيحاً أبداً ! إنّ الّذين نقل عنهم حديث الثقلين هم :
1 ـ أبوبكر بن أبي شيبة ، وهو شيخ البخاري.
2 ـ أحمد بن حنبل ، وهو أحد الأئمّة الأربعة ، وكتاب « المسند » من أوثق كتبهم الحديثية.
3 ـ محمّد بن سعد ، صاحب كتاب « الطبقات الكبرى » وأحد أئمّة الحديث ورجال الجرح والتعديل.
4 ـ محمّد بن عيسى الترمذي ، صاحب « الجامع الصحيح » أحد الصحاح الستّة عندهم.
5 ـ أحمد بن شعيب النسائي ، صاحب « السنن » أحد الصحاح الستّة عندهم.
6 ـ أبو يعلى الموصلي ، صاحب « المسند » وهو من أعاظم حفّاظهم.
7 ـ الحاكم النيسابوري ، صاحب « المستدرك » إمام المحدّثين عندهم.
8 ـ شمس الدين الذهبي ، صاحب « تلخيص المستدرك » وغيره من الكتب الكثيرة والمصنّفات الشهيرة ، في الحديث والرجال والسِيَر ، والمعتمد عند المتأخّرين ، في هذه الفنون ، وهو الذي طالما استند إليه أتباع ابن تيميّة في المكابرة مع الشيعة.
وثالثاً : إنّ رواة هذا الحديث من نظراء أولئك الأئمّة فمَن دونهم أكثر وأكثر ، بحيث لو أردنا ذكر أسماء من وقفنا على روايتهم له لضاق بنا المجال ، وقد ألّفت لجمع طرقه وألفاظه كتب مفردة من علماء الشيعة والسنّة ، ومن أشهر علماء القوم المؤلّفين فيه :
الحافظ محمّد بن طاهر المقدسي ـ المتوفّى سنة 507 ـ صاحب كتاب « الجمع بين رجال الصحيحين ».
ورابعاً : إنّ الّذين نصّوا على صحّة حديث الثقلين من القدماء والمتأخّرين ، أو أخرجوه في كتبهم التي التزموا فيها بالصحّة من مشاهير أهل السنّة كثيرون كذلك. ونحن نكتفي بذكر بعضهم :
1 ـ إمام الأئمّة ابن خزيمة ، صاحب « الصحيح ».
2 ـ الإمام الحافظ أبو عوانة الاسفرائني ، صاحب « الصحيح ».
3 ـ الحافظ المحاملي ، صاحب « الأمالي ».
4 ـ الحافظ البغوي الملقّب بـ « محيي السنّة » ، صاحب « مصابيح السنّة ».
5 ـ الحافظ ضياء الدين المقدسي في « المختارة » الملتزم فيها بالصحّة.
6 ـ الحافظ سراج الدين الفرغاني في « نصاب الأخبار » الملتزم فيه بالصحّة.
7 ـ الحافظ المزّي ، صاحب « تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف ».
8 ـ الحافظ ابن كثير الدمشقي ، صاحب « التفسير » المعروف.
9 ـ الحافظ الهيثمي ، صاحب « مجمع الزوائد ».
10 ـ الحافظ السيوطي ، صاحب « الجامع الصغير » وغيره.
11 ـ الحافظ السخاوي ، صاحب « استجلاب ارتقاء الغرف ».
12 ـ الحافظ السمهودي ، صاحب « جواهر العقدين ».
وخامساً : إنّه يكفي للاحتجاج سند واحد من أسانيد واحد من ألفاظه ، لكنّ هذا الحديث من الأحاديث المتواترة قطعاً ، إذ رواه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أكثر من ثلاثين من صحابته ، ورواته من الأئمّة والحفّاظ والمحدّثين عبر القرون كثيرون جدّاً(4) .
وسادساً : إنّ دلالة حديث الثقلين على ما تذهب إليه الشيعة ـ وهو حصر وجوب الاتّباع في الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام ـ واضحة جدّاً على من له أدنى معرفة بألفاظ اللغة العربيّة وأساليبها… لأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قرَنهم بمحكم الكتاب العزيز ، فكما يجب الأخذ والاتّباع لما في الكتاب ولا يجوز تقديم غيره عليه ، كذلك الأئمّة.
ولا بأس بإيراد نصوص عبارات بعض المحقّقين من أهل السُنّة في الاعتراف بما قلناه :
قال الزرقاني : قال الحكيم الترمذي : « حضّ على التمسّك بهم ، لأنّ الأمر لهم معاينة ، فهم أبعد عن المحنة »(5) .
وقال النووي : « قوله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم : وأنا تارك فيكم ثقلين ، فذكر كتاب الله وأهل بيته. قال العلماء : سمّيا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما ، وقيل لثقل العمل بهما »(6) .
وقال ابن الأثير : « فيه(7) : إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي ; سمّاهما ثقلين لأن الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل. ويقال لكلّ خطير نفيس : ثقل ، فسمّاهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما »(8) .
وقال القاري : « والمراد بالأخذ بهم : التمسّك بمحبّتهم ، ومحافظة حرمتهم ، والعمل بروايتهم ، والاعتماد على مقالتهم »(9) .
وقال شهاب الدين الخفاجي : « أي : تمسّكتم وعملتم واتّبعتموه »(10) .
وقال المنّاوي : « إنّي تارك فيكم بعد وفاتي خليفتين. زاد في رواية : أحدهما أكبر من الآخر. وفي رواية بدل خليفتين : ثقلين ، سمّاهما به لعظم شأنهما : كتاب الله القرآن ، حبل ، اي : هو حبل ممدود ما بين السماء والأرض . قيل : اراد به عهده ، وقيل : السبب الموصل إلى رضاه. وعترتي ـ بمثنّاة فوقيّة ـ : أهل بيتي. تفصيل بعد إجمال ، بدلاً أو بياناً ، وهم أصحاب الكساء الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً »(11) .
وبعد ، فلننظر إلى ما قيل في قبال الاستدلال بحديث الثقلين :
قيل :
تعليقاً على الحديث الأوّل عن الترمذي والنسائي عن جابر :
« هذا الحديث تفرّد به زيد بن الحسن الأنماطي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جابر. والأنماطي قال فيه أبو حاتم : منكر الحديث.
واعلم أنّ المؤلّف ـ لأمر يريده ـ تجاهل عمداً رواية مسلم التي فيها التصريح بأنّ أهل بيته ليسوا مقصورين على : علىّ وفاطمة والحسن والحسين. وإنّما يدخل فيهم جميع آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عبّاس.
ثمّ إنّه قد كرّر سياق هذا الحديث الوارد في عدد من كتب الحديث ليوهم القارئ أنّها أحاديث متعدّدة ، لإثبات موضوع واحد. مع أنّه حديث واحد روي بروايات متعدّدة. وأصحّ رواياته رواية مسلم التي لا تخدم وجهة نظره فتجاهلها.
هذا ، ولكنّ حديث المؤاخاة قد رواه الترمذي وأحمد في مسنده عن النبيّ صلّى الله عليه ] وآله [ وسلّم أنّه قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه. وأمّا الزيادة وهي : اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه. فلا ريب أنّه كذّب ».
أقول :
هذا كلامه ، فنقول :
1 ـ كلمة : « التي فيها التصريح » هذا التصريح ليس من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ليكون حجّةً ، بل هو من « زيد بن أرقم » لكنّ الرجل أبهم لكي يوهم القارئ(12) !
2 ـ كلمة : « الوارد في عدد من كتب الحديث » وحقّ الكلمة : « الوارد في أكثر كتب الحديث بما فيها الصحاح والمسانيد ».
3 ـ قوله : « لكنّ حديث المؤاخاة » تبع في تسمية حديث : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » بـ « حديث المؤاخاة » بعض أسلافه ، فقد وجدت في كلام الذهبي : « وعملت الرافضة عيد الغدير ، يعني يوم المؤاخاة… »(13) ولعلّهم يريدون أنّ هذا الحديث لا يفيد إلاّ « المؤاخاة » !!
4 ـ جملة : « اللّهمّ وال من والاه… » سيظهر أنّها ليست بكذب ، وأنّ رميها بذلك هو الكذب.
5 ـ لم يكرّر السيّد سياق هذا الحديث ، وإنّما تكرّر صدوره عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقد أذعن بذلك جماعة ممّن تقدّم منهم وتأخّر ، كصاحب « الصواعق » ابن حجر…
فالإشكال الذي يستحقّ النظر فيه ـ لكونه في الظاهر علميّاً ـ هو الإشكال السندي بالنسبة إلى الحديث الأوّل… فنقول :
أوّلا : يكفينا الأحاديث الأخرى التي سلّم بصحّتها.
وثانياً : إنّ الحديث الذي ناقش في سنده من أحاديث « الجامع الصحيح » للترمذي ، و«السنن » للنسائي.. وهذان الكتابان من الصحاح الستّة عندهم.
وثالثاً : إنّه لم يناقش في سنده إلاّ من جهة ( زيد بن الحسن الأنماطي ) واستناداً إلى كلمة أبي حاتم. لكنّ هذه المناقشة مردودة :
قال ابن حجر : « ت ـ الترمذي. زيد بن الحسن القرشي أبو الحسين الكوفي ، صاحب الأنماط . روى عن : جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين ومعروف بن خربوذ ، وعليّ بن المبارك الهنائي.
وعنه : إسحاق بن راهويه ، وسعيد بن سليمان الواسطي ، وعليّ بن المديني ونصر بن عبد الرحمن الوشّاء ، ونصر بن مزاحم.
قال أبو حاتم : كوفي قدم بغداد ، منكر الحديث. وذكره ابن حبّان في الثقات. روى له الترمذي حديثاً واحداً في الحجّ »(14) .
فقد ذكر ابن حجر أسماء جماعة من الأئمّة رووا عن زيد بن الحسن ، وأنّ ابن حبّان ذكره في الثقات.
ويبقى قول أبي حاتم « منكر الحديث » وهو غير مسموع :
أمّا أوّلا : فلأنّه لو كان منكر الحديث لما أخرج عنه هؤلاء كابن راهويه وابن المدينيوسعيد بن سليمان والترمذي.
وأمّا ثانياً : فلأنّ « أبا حاتم » متعنّت في الرجال ، ولا يُبنى على تجريحه ، كما نصّ عليه الحافظ الذهبي بترجمته إذ قال :
« إذا وثّق أبو حاتم رجلا فتمسّك بقوله ، فإنّه لا يوثّق إلاّ رجلا صحيح الحديث. وإذا ليّن رجلا أو قال فيه : لا يحتجّ به ، فلا ، توقّف حتّى ترى ما قال غيره فيه ، فإن وثّقه أحد فلا تبن على تجريح أبي حاتم ، فإنّه متعنّت في الرجال ، قد قال في طائفة من رجال الصحاح : ليس بحجّة ، ليس بقوي ، أو نحو ذلك »(15) .
تنبيه :
قد توهّم هذا الرجل أنّ حديث الثقلين في ( صحيح مسلم ) لا يدلّ على ما تذهب إليه الشيعة الإماميّة من وجوب اتّباع أهل البيت والتمسّك بهم والأخذ عنهم…
وقد سبقه في هذا التوّهم غيره ، قال الدكتور علىّ أحمد السالوس : « فرق كبير بين التذكير بأهل البيت والتمسّك بهم. فالعطف على الصغير ، ورعاية اليتيم ، والأخذ بيد الجاهل ، غير الأخذ من العالم العابد العامل بكتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم ».
وقد دفعنا هذا الوهم في ردّنا على الدكتور المذكور ، وبيّنّا عدم الفرق بين رواية مسلم ورواية أحمد والترمذي وغيرهما ، فالحديث هو الحديث ، والمدلول واحد ، والنتيجة واحدة… فراجعه بالتفصيل(16) .
* قال السيّد :
في هامش الحديث الأخير من أحاديث الثقلين التي استدلّ بها : « وأنت تعلم… » وقد تقدّمت عبارته.
فقيل :
« إنّ المؤلّف لا يكفيه أن يبني قصوراً على أوهام ، ولا أن يستشهد بالباطل على مايريد ، بل يذهب أبعد من ذلك ، فيتخرّص ـ رجماً بالغيب ـ ويتّهم نقلة الأحاديث ورواتها من أهل السُنّة : بأنّهم خانوا الأمانة ، واختصروا كثيراً من رواياتهم ، خوفاً من حاكم. ويقصد أنّهم زوّروا الحقائق ، وحذفوا ما يتعلّق بالوصيّة لعليّ بالخلافة ! وكأنّه مقرّ ـ في قرارة نفسه ـ أنّ كلّ ما يستشهد به على هذه القضيّة لا يكفي ولا يشفي غليلاً ، فمشى خطوةً أخرى فيما وراء النصوص ، وهي مكذوبة ، وتقوّل من غير دليل ، واتّهم من غير حجّة ، وادّعى أنّ هذه النصوص حدف أكثرها ، وألصقها تعلّقاً بالمسألة !! ».
أقول :
أمّا السبّ فلا نقابله فيه بالمثل !
والحقّ مع السيّد ـ رحمه الله ـ فيما قال ، لأنّ المستفاد من تتبّع ألفاظ حديث الغدير في كتب أهل السُنّة ـ ويساعده الاعتبار وشواهد الأحوال ـ هو أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قد خطبهم ـ :
ففي « المسند » : « فخطبنا »(17) .
وفي « المستدرك على الصحيحين » : « قام خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه وذكّر ووعظ ، فقال ما شاء الله أن يقول »(18) .
وفي « مجمع الزوائد » : « فوالله ما من شيء يكون إلى يوم الساعة إلاّ قد أخبرنا به يومئذ. ثمّ قال : أيّها الناس… »(19) .
فأين النصّ الكامل لتلك الخطبة ؟!
ولماذا لم يرووا مواعظ الرسول وإرشاداته ؟!
وإذا كان قد أخبر صلّى الله عليه وآله وسلّم بكلّ شيء يكون إلى يوم الساعة ، وبيّن وظيفة الأمّة ، فما الذي حملهم على إخفائه عن الأمّة ؟!
لقد حرموا الأمّة من هدي الرسول وتعاليمه وإرشاداته ، بدلاً من أن ينقلوها ويكونوا دعاةً إليها وناشرين لها…
وإنّ الذي حملهم على كتم خطبة النبيّ هذه هو ما حملهم على كتم كثير من الحقائق ! وإنّ الذي منعهم من نقلها هو نفس مامنعهم من أن يقرّبوا إليه دواةً وقرطاساً ليكتب للأمّة كتاباً لن يضلوا بعده !
* قال السيّد :
« 4 ـ والصحاح الحاكمة بوجوب التمسّك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابيّاً متضافرة ، وقد صدع بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مواقف له شتّى : تارةً يوم غدير خمّ كما سمعت ، وتارةً يوم عرفة في حجّة الوداع ، وتارةً بعد انصرافه من الطائف ، ومرّة على منبره في المدينة ، وأخرى في حجرته المباركة في مرضه والحجرة غاصّة بأصحابه ، إذ قال : أيّها الناس يوشك أن أقبض … »(20) .
قال في الهامش : « راجعه في أواخر الفصل 2 من الباب 9 من الصواعق المحرقة لابن حجر ، بعد الأربعين حديثاً من الأحاديث المذكورة في ذلك الفصل ، ص 194 » .
قيل :
« يكفي أن يعلم أنّ هذا الذي ساقه على أنّه قاله صلّى الله عليه ] وآله [وسلّم في مرضه والحجرة غاصّة بأصحابه ، ليس في كتاب من كتب الحديث المعتبرة ، وقد أورده من غير سند ، فالاحتجاج به ساقط حتّى تثبت قضيّتان : سنده أوّلا ، ثمّ صدق هذا السند.
وهيهات له أن يثبت هاتين القضيّتين ، وليس ذكره لكتاب الصواعق لابن حجر المكّي بمصحّح هذا الحديث ، ولا بدليل على صحّة الاحتجاج به. فابن حجر هذا ليس من علماء الحديث ، ولا له في هذه الصناعة باع ولا ذراع . ومن تأمّل كتابه ( الصواعق ) وما حشاه به من الأحاديث الضعيفة والموضوعة يتيقّن أنّ كتابه لا يأبه به إلاّ أمثال المؤلّف وبني جلدته. على أنّ ابن حجر لم يسلم حتّى من هجوم المؤلّف عبد الحسين ، وجازاه جزاء سنّمار ».
أقول :
عدم اعتراضه إلاّ على حديث صدوره في مرضه في الحجرة ، ظاهر في موافقته على صدورحديث الثقلين يوم غدير خمّ ، ويوم عرفة في حجّة الوداع ، وبعد انصرافه من الطائف ، وعلى منبره في المدينة ، ووجود ذلك في كتب الحديث المعتبرة ، وعليه ، يكون موافقاً على صدور الحديث في مواقف متعدّدة ، فيناقض إنكاره ذلك في كلماته السابقة.
وأمّا رواية أنّه قاله في مرض موته فقد جاء في « الصواعق » بعدما روى الحديث بعدانصرافه من الطائف عن ابن أبي شيبة : « وفي رواية … ».
فابن حجر لم يعز هذا الحديث إلى كتاب ، لكن بالتأمّل في كلامه يظهر تصحيحه له ، لأنّه بعدما أورد الحديث السابق عن ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن ابن عوف ،قال : « وفيه رجل اختلف في تضعيفه ، وبقيّة رجاله ثقات »(21) . ثمّ أورد هذا الحديث ولم يتكلّم على سنده بشيء… ونحن تكفينا رواية ابن حجر لهذا الحديث لا سيّما مع سكوته عن سنده ، لأنّه من كبار علماء أهل السُنّة المدافعين عن الخلفاء ومعاوية وحكومة الطلقاء ، كما لا يخفى على من راجع « الصواعق » و« تطهير الجنان » وغيرهما ممّا كتبه في هذا الشأن .
ومع ذلك… نذكر واحداً من رواة هذا الحديث ، المتقدّمين على ابن حجر المكّي … ألا وهو الحافظ السمهودي(22) ، فإنّه نصّ على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ذلك في مرضه الذي قبض فيه وقد امتلأت الحجرة من أصحابه ، كما في رواية لأمّ سلمة.
ولا بأس بنقل متن عبارته في التنبيه الخامس من تنبيهات حديث الثقلين :
« خامسها : قد تضمّنت الأحاديث المتقدّمة ، الحثّ البليغ على التمسّك بأهل البيت النبوي وحفظهم واحترامهم والوصيّة بهم ، لقيامه صلّى الله عليه ] وآله [وسلّم بذلك خطيباً يوم غدير خمّ ، كما في أكثر الروايات المتقدّمة ، مع ذكره لذلك في خطبته يوم عرفة على ناقته ، كما في رواية الترمذي عن جابر ، وفي خطبته لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من حصار الطائف ، كما في رواية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، وفي مرضه الذي قبض فيه وقد امتلأت الحجرة من أصحابه ، كما في رواية لأمّ سلمة.
بل سبق قول ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : آخر ما تكلّم به رسول الله صلّى الله عليه ] وآله [ وسلّم : اخلفوني في أهل بيتي …مع قوله صلّى الله عليه ] وآله [ وسلّم : انظروا كيف تخلفوني فيهما.
وقوله : ألا وإنّي سائلكم حين تردون عن الثقلين فانظروا … الحديث .
وقوله : والله سائلكم كيف خلفتموني في كتابه وأهل بيتي.
وقوله : ناصرهما لي ناصر وخاذلهما لي خاذل.
و : أوصيكم بعترتي خيراً.
و : أذكّركم الله في أهل بيتي.
على اختلاف الألفاظ في الروايات المتقدّمة.
مع قوله ـ في رواية عبد الله بن زيد عن أبيه ـ : فمن لم يخلفني فيهم بتر عمره ، وورد علىّ يوم القيامة مسودّاً وجهه.
وفي الحديث الآخر : فإنّي أخاصمكم عنهم غداً ، ومن أكن خصيمهأخصمه ، ومن أخصمه دخل النار.
وفي الآخر : من حفظني في أهل بيتي فقد اتّخذ عند الله عهداً.
مع ما اشتملت عليه ألفاظ الأحاديث المتقدّمة على اختلاف طرقها ، وما سبق ممّا أوصى به أمّته وأهل بيته.
فأيّ حثّ أبلغ من هذا وآكد منه ؟!
فجزى الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه ] وآله [ وسلّم عن أمّته وأهل بيته أفضل ما جزى أحداً من أنبيائه ورسله عليهم السلام »(23) .
* قال السيّد :
« 5 ـ على أنّ المفهوم من قوله : ( إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي ) : إنّما هو ضلال من لم يتمسك بهما معاً كما لا يخفى.
ويؤيّد ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في حديث الثقلين عند الطبراني ـ : ( فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم ).
قال ابن حجر : وفي قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم : دليل على أنّ من تأهّل منهم للمراتب العليّة والوظائف الدينيّة كان مقدّماً على غيره »(24) إلى آخر كلامه(25).
قيل :
في الاعتراض على الحديث عن الطبراني :
« هذا جزء من حديث رواه الطبراني عن زيد بن أرقم. وفي هذا السند : حكيم بن جبير. وهو ضعيف. ورمي بالتشيّع كما قال المباركفوري. مجمع الزوائد 9 : 163 .
على أنّ هذا الحديث ـ لو صحّ ـ فإنّ دلالته تشمل بني هاشم جميعاً وهم عشيرته صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم ، لا أبناء علىّ وفاطمة فقط.
ومع غض النظر عن مناقشة ابن حجر المكّي فيما استنبطه من حكم من هذا الحديث الضعيف ، هل يصحّ هذا الحديث دليلاً على هذا الحكم ؟ ثمّ أليس في هذا دليلٌ على عدم أصالة آراء ابن حجر وضعفه الفاضح في الحديث واستنباطه الأحكام ؟ ».
أقول :
* أمّا المفهوم من حديث الثقلين ـ كما ذكره السيّد ـ فلا ينكره أحد.
* وأمّا الحديث المؤيّد فهذا سنده :
« حدّثنا محمّد بن عبد الله الحضرمي ، ثنا جعفر بن حميد (ح) حدّثنا محمّد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدّثنا النضر بن سعيد أبو صهيب ، قالا ثنا عبد الله بكير ، عن حكيم بن جبير ، عن أبي الطفيل ، عن زيد بن أرقم ، قال : نزل النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم يوم الجحفة. ثمّ أقبل على الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :
إنّي لا أجد لنبيّ إلاّ نصف عمر الذي قبله ، وإنّي أوشك أن أدعى فأجيب ،فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نصحت. قال : أليس تشهدون أن لا إلاّ الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ الجنّة حقّ والنار حقّ وأنّ البعث بعد الموت حقّ ؟ قالوا : نشهد. قال : فرفع يديه فوضعهما على صدره ثمّ قال : وأنا أشهد معكم. ثمّ قال : ألا تسمعون ؟ قالوا : نعم. قال : فإنّي فرطكم على الحوض ، وأنتم واردون علىّ الحوض ، وإنّ عرضه أبعد ما بين صنعاء وبصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضّة ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.
فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول الله ؟
قال : كتاب الله طرف بيد الله ]عزّ وجلّ[ وطرف بأيديكم ، فاستمسكوا به لا تضلّوا والآخر عترتي ، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يتفرّقا حتّى يردا علىّ الحوض ، وسألت ذلك لهما ربّي.
فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ، ولاتعلّموهم فإنّهم أعلم منكم.
ثمّ أخذ بيد علىّ ـ رضي الله عنه ـ فقال : من كنت أولى به من نفسه فعلىّ وليّه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه »(26) .
وهذا الحديث رواه الحافظ السيوطي بتفسير قوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا )(27) .
وكذا الشيخ المتّقي الهندي(28) .
وقد روى الشيخ المتّقي الهندي قبل ذلك هذا الحديث عن الطبراني عن زيد بن ثابت ، قال « إنّي لكم فرط ، إنّكم واردون علىّ الحوض ، عرضه ما بينصنعاء إلى بصرى ، فيه عدد الكواكب من قدحان الذهب والفضّة ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين ؟
قيل : وما الثقلان يا رسول الله ؟
قال : الأكبر كتاب الله ، سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، فتمسكّوا به لن تزلّوا ولا تضلّوا ; والأصغر عترتي ، وإنّهما لن يتفرّقا حتّى يردا علىّ الحوض ; وسألت لهما ذلك ربّي ، ولا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهما فإنّهما أعلم منكم.
طب عن زيد بن ثابت »(29) .
ألا يليق هذا الحديث المرويّ في هذه الكتب ، عن اثنين من مشاهير الأصحاب ، لأن يكون « مؤيّداً » ؟!
* ثمّ إنّ الحديث عن زيد بن أرقم لم يناقش في سنده إلاّ من جهة « حكيم ابن جبير »..
وقد راجعنا ترجمته في « تهذيب التهذيب »(30) فوجدناه من رجال أربعة من الصحاح الستّة ، وأنّ من الرواة عنه :
الأعمش ، والسفيانان ، وزائدة ، وفطر بن خليفة ، وشعبة ، وشريك ، وعليّ بن صالح ، وجماعة وقال الفلاّس : كان يحيى يحدّث عنه .
ثمّ إنّ السبب في تضعيف بعضهم إيّاه هو « التشيّع » ليس إلاّ :
« قال ابن أبي حاتم : سألت أبا زرعة عنه فقال : في رأيه شيء. قلت : ما محلّه ؟ قال: الصدق إن شاء الله ».
وقد تقدّم ـ ويأتي ـ أن « التشيّع » غير قادح.
* وأمّا دعوى أنّ الحديث يشمل بني هاشم كلّهم ، فجهل أو تجاهل ، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ينهى عن التقدّم على « عترته » وعن تعليمهم ، ويعلّل ذلك : بأنّهم أعلم منكم ، وكيف يشمل هذا جميع بني هاشم ؟!
وليت الرجل راجع كلمات شرّاح الحديث من أبناء مذهبه ! فإنّ الذي قاله ابن حجر المكّي قد نصّ عليه غير واحد من أعلام الحديث والعلماء الحفّاظ :
قال القاري في شرح المشكاة : « أقول : والأظهر هو أنّ أهل البيت غالباً يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله. فالمراد بهم أهل العلم منهم ، المطّلعون على سيرته ، الواقفون على طريقته ، العارفون بحكمه وحكمته. وبهذا يصلح أن يكونوا مقابلاً لكتاب الله سبحانه كما قال : ( ويعلّمهم الكتاب والحكمة ). ويؤيّده ما أخرجه أحمد في المناقب ،عن حميد بن عبدالله بن زيد : أنّ النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم ذُكر عنده قضاء قضى به عليّ بن أبي طالب فأعجبه وقال : الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت… »(31) .
وقال المنّاوي : « وعترتي أهل بيتي. تفصيل بعد إجمال ، بدلاً أو بياناً. وهم أصحاب الكساء الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً »(32) .
وقال عبد الحقّ الهندي : « والعترة رهط الرجل وأقرباؤه وعشيرته الأدنون ، وفسّره صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم بقوله : وأهل بيتي ، للإشارة إلى أنّ مراده هنا من العترة : أخصّ عشيرته وأقاربه. وهم أولاد الجدّ القريب. أي : أولاده وذرّيّته صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم »(33) .
وقال السمهودي : « الّذين وقع الحثّ على التمسّك بهم من أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة : هم العلماء بكتاب الله عزّ وجلّ ، إذ لا يحثّ صلّى الله عليه ]وآله [وسلّم على التمسّك بغيرهم ، وهم الّذين لا يقع بينهم وبين الكتاب افتراق ، حتّى يردا الحوض. ولهذا قال : لا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا »(34) .
* وأمّا الحكم الذي استنبطه ابن حجر من الحديث ـ والذي لأجله تهجّم عليه هذا الرجل ـ فهو موجود كذلك في كلام غير ابن حجر من أئمّة الحديث :
ففي « جواهر العقدين » و« شرح المواهب اللدنّيّة » و« فيض القدير » : « أنّ ذلك يفهم وجود من يكون أهلاً للتمسّك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كلّ زمان وُجدوا فيه إلى قيام الساعة ، حتّى يتوجّه الحثّ المذكور إلى التمسّك به ، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك. ولهذا كانوا ـ كما سيأتي ـ أماناً لأهل الأرض ، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض »(35) .
(1) المراجعات : 14 .
(2) المراجعات : 14 .
(3) المراجعات : 14 ـ 15 .
(4) انظر : الأجزاء الثلاثة من كتابنا الكبير « نفحات الأزهار » المختصّة بحديث الثقلين .
(5) شرح المواهب اللدنّيّة 7 : 5 .
(6) المنهاج في شرح صحيح مسلم 15 : 180 .
(7) أي : في الحديث .
(8) النهاية 1 : 216 .
(9) مرقاة المفاتيح 5 : 600 .
(10) نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض 3 : 410 .
(11) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 3 : 14 .
(12) وأيضاً : لكيلا يراجع القارئ نصّ الكلام في مصادره المعتمدة ، ففي ( صحيح مسلم 4 : 217/2408) وغيره أنّه سئل : نساؤه من أهل بيته ؟ قال : « لا ، وأيم الله ، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها » فزوجات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لسن من « أهل البيت » عند « زيد بن أرقم » !!
(13) سير أعلام النبلاء 15 : 129 .
(14) تهذيب التهذيب 3 : 350 .
(15) سير أعلام النبلاء 13 : 260 .
(16) حديث الثقلين.. تواتره ، فقهه كما في كتب السنّة ـ ط 1413 هـ .
(17) مسند أحمد 5 : 501/18838 .
(18) المستدرك على الصحيحين 3 : 110 .
(19) مجمع الزوائد 9 : 105 .
(20) المراجعات : 15 ـ 16 .
(21) الصواعق المحرقة : 194 .
(22) هو : الحافظ نور الدين علىّ بن عبد الله السمهودي ، المتوفى سنة 911 .
قال الحافظ السخاوي بترجمته بعد كلام له : « وبالجملة ، فهو إنسان فاضل متفنن متميز في الفقه والأصلين ، مديم للعمل والجمع والتأليف ، متوجه للعبادة وللمباحثة والمناظرة ، قوي الجلادة على ذلك ، طلق العبارة فيه ، مغرم به ، مع قوة نفس وتكلف ، خصوصاً في مناقشات لشيخنا في الحديث ونحوه ». الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 3 : 247 .
(23) جواهر العقدين ق2 ج1 : 115 ـ 116 .
(24) الصواعق المحرقة : 342 .
(25) المراجعات : 16 .
(26) المعجم الكبير 5 : 166/4971 .
(27) الدرّ المنثور 2 : 285 . والآية الشريفة في سورة آل عمران رقم 103 .
(28) كنز العمّال 1 : 188/957 .
(29) كنز العمّال 1 : 185/946 .
(30) تهذيب التهذيب 2 : 383 .
(31) مرقاة المفاتيح 5 : 600 .
(32) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 3 : 14 .
(33) أشعّة اللمعات في شرح المشكاة 4 : 681 .
(34) جواهر العقدين ق2 ج1 : 93 .
(35) جواهر العقدين ق2 ج1 : 94 ، فيض القدير 3 : 15 ، شرح المواهب اللدنيّة 7 : 8 .