* وقال الشيخ محمّد عبده :
« الروايات متّفقة على أن النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم اختار للمباهلة عليّاً وفاطمة وولديها ، ويحملون كلمة ( نساءنا ) على فاطمة ، وكلمة ( أنفسنا ) على عليّ فقط.
ومصادر هذه الروايات الشيعة ، ومقصدهم منها معروف ، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتّى راجت على كثير من أهل السُنّة ، ولكنّ واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية ، فإن كلمة ( نساءنا ) لا يقولها العربي ويريد بها بنته ، لا سيّما إذا كان له أزواج ، ولا يفهم هذا من لغتهم ، وأبعد من ذلك أن يراد بـ (أنفسنا) عليّ ـ عليه الرضوان ـ .
ثمّ إنّ وفد نجران الّذين قالوا إنّ الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم »(1) .
أقول :
وفي هذا الكلام إقرار ، وادعاء ، ومناقشة عن عناد.
أمّا الإقرار ، فقوله : « إنّ الروايات متّفقة… » فالحمد لله على أن بلغت الروايات في القضيّة من الكثرة والقوّة حدّاً لا يجد مثل هذا الرجل بدّاً من أن يعترف بالواقع والحقيقة.
لكنّه لما رأى أنّ هذا الإقرار يستلزم الالتزام بنتيجة الآية المباركة والروايات الواردة فيها وهذا ما لا تطيقه نفسه !! عاد فزعم أمراً لا يرتضيه عاقل فضلا عن فاضل!
أمّا الإدّعاء ، فقال : « مصادر هذه الروايات الشيعة… وقد اجتهدوا في ترويجها.. ».
لكنّه يعلم ـ كغيره ـ بكذب هذه الدعوى ، فمصادر هذه الروايات القطعية ـ وقد عرفت بعضها ـ ليست شيعيّة. ولما كانت دلالتها واضحة « والمقصد منها معروف » ، عمد إلى المناقشة بحسب اللغة ، وزعم أنّ العربي لا يتكلّم هكذا.
وما قاله محض استبعاد ولا وجه له إلاّ العناد ! لأنّا لا نحتمل أن يكون هذا الرجل جاهلاً بأنّ لفظ « النساء » يطلق على غير الأزواج كما في القرآن الكريم وغيره ، أو يكون جاهلاً بأن أحداً لم يدّع استعمال اللفظ المذكور في خصوص « فاطمة » وأنّ أحداً لم يدّع استعمال ( أنفسنا ) في « عليّ » عليه السلام.
إنّ هذا الرجل يعلم بأنّ الروايات صحيحة وواردة من طرق القوم أنفسهم ، والاستدلال قائم على أساسها ، إذ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل عليّاً فقط المصداق لـ ( أنفسنا ) وفاطمة فقط المصداق لـ ( نساءنا ) وقد كان له أقرباء كثيرون وأصحاب لا يحصون… كما كان له أزواج عدّة ، والنساء في عشيرته وقومه كثرة.
فلا بدّ أن يكون ذلك مقتضياً لتفضيل عليّ عليه السلام على غيره من أفراد الأمّة ، وهذا هو المقصود.
تكميل :
وأمّا تفضيله ـ بالآية ـ على سائر الأنبياء عليهم السلام ـ كما عن الشيخ محمود بن الحسن الحمصي ـ فهذا هو الذي انتقده الفخر الرازي ، وتبعه النيسابوري ، وأبو حيّان الأندلسي :
* قال الرازي ـ بعد أن ذكر موجز القصّة ، ودلالة الآية على أن الحسنين إبنا رسول الله ـ :
« كان في الريّ رجل يقال له : محمود بن الحسن الحمصي ، وكان معلّم الاثني عشرية(2) وكان يزعم أنّ عليّاً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد عليه السلام ، قال : والذي يدلّ عليه قوله تعالى : ( وأنفسنا وأنفسكم)وليس المراد بقوله ( وأنفسنا ) نفس محمّد صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم ، لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد به غيره ، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه فدلّت الآية على أنّ نفس عليّ هي نفس محمّد ، ولايمكن أن يكون المراد منه أنّ هذه النفس هي عين تلك النفس ، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه ، ترك العمل بهذا العموم في حقّ النبوّة وفي حقّ الفضل ، لقيام الدلائل على أنّ محمّداً عليه السلام كان نبيّاً وما كان عليّ كذلك ، ولانعقاد الإجماع على أنّ محمّداً عليه السلام كان أفضل من عليّ ، فيبقى فيما وراءه معمولا به.
ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمّداً عليه السلام كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام ، فيلزم أن يكون علىّ أفضل من سائر الأنبياء.
فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية.
ثمّ قال : ويؤيّد الاستدلال بهذه الآية : الحديث المقبول عند الموافق والمخالف ، وهو قوله عليه السلام : من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحاً فيطاعته ، وإبراهيم في خلّته ، وموسى في هيبته ، وعيسى في صفوته ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب.
فالحديث دلّ على أنّه اجتمع فيه ما كان متفرّقاً فيهم ، وذلك يدلّ على أن عليّاً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم.
وأمّا سائر الشيعة فقد كانوا ـ قديماً وحديثاً ـ يستدلّون بهذه الآية على أن عليّاً رضي الله عنه أفضل من سائر الصحابة ، وذلك لأن الآية لمّا دلّت على أن نفس علي مثل نفس محمّد عليه السلام إلاّ في ما خصّه الدليل ، وكان نفس محمّد أفضل من الصحابة ، فوجب أن يكون نفس عليّ أفضل أيضاً من سائر الصحابة.
هذا تقدير كلام الشيعة.
والجواب : إنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمّداً عليه السلام أفضل من عليّ ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم ـ قبل ظهور هذا الإنسان ـ على أنّ النبيّ أفضل ممّن ليس بنبيّ ، وأجمعوا على أنّ عليّاً ما كان نبيّاً ، فلزم القطع بأنّ ظاهر الآية كما أنّه مخصوص في حقّ محمّد صلّى الله عليه ]وآله [وسلّم ، فكذلك مخصوص في حقّ سائر الأنبياء عليهم السلام ». انتهى(3) .
* وكذا قال النيسابوري ، وهو ملخّص كلام الرازي ، على عادته ، وقد تقدّم نصّ ما قال.
* وقال أبو حيّان ، بعد أن ذكر كلام الزمخشري في الآية المباركة : « ومن أغرب الاستدلال ما استدلّ به محمّد(4) بن عليّ الحمصي… » فذكر الاستدلال ، ثمّ قال : « وأجاب الرازي : بأنّ الإجماع منعقد على أنّ النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم أفضل ممّن ليس بنبيّ ، وعليّ لم يكن نبيّاً ، فلزم القطع بأنّه مخصوص في حقّ جميع الأنبياء ».
قال : « وقال الرازي : استدلال الحمصي فاسد من وجوه :
منها قوله : ( إنّ الإنسان لا يدعو نفسه ) بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه ، تقول العرب : دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني. وهذا يسميّه أبو عليّ بالتجريد.
ومنها قوله : ( وأجمعوا على أنّ الذي هو غيره هو عليّ ) ليس بصحيح ، بدليل الأقوال التي سيقت في المعنيّ بقوله : ( وأنفسنا ).
ومنها قوله : ( فيكون نفسه مثل نفسه ) ولا يلزم من المماثلة أن تكون في جميع الأشياء بل تكفي المماثلة في شيء ما ، هذا الذي عليه أهل اللغة ، لا الذي يقوله المتكلّمون من أنّ المماثلة تكون في جميع صفات النفس ، هذا اصطلاح منهم لا لغةً ، فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة ، وهي كونه من بني هاشم ، والعرب تقول : هذا من أنفسنا ، أي: من قبيلتنا.
وأمّا الحديث الذي استدلّ به فموضوع لا أصل له »(5) .
أقول :
ويبدو أنّ الرازي هنا وكذا النيسابوري أكثر إنصافاً للحقّ من أبي حيّان ; لأنّهما لم يناقشا أصلاً في دلالة الآية المباركة والحديث القطعي على أفضليّة عليّ عليه السلام على سائر الصحابة.
أمّا في الاستدلال بها على أفضليّته على سائر الأنبياء فلم يناقشا بشي من مقدّماته إلاّ أنّهما أجابا بدعوى الإجماع من جميع المسلمين ـ قبل ظهور الشيخ الحمصي ـ على أنّ الأنبياء أفضل من غيرهم.
وحينئذ ، يكفي في ردّهما نفي هذا الإجماع ، فإنّ الإماميّة ـ قبل الشيخ الحمصي وبعده ـ قائلون بأفضليّة علىّ والأئمّة من ولده ، على جميع الأنبياء عدا نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ويستدلّون لذلك بوجوه من الكتاب والسنّة ، أمّا من الكتاب فالآية المباركة ، وأمّا من السنّة فالحديث الذي ذكره الحمصي…
وقد عرفت أنّ الرازي والنيسابوري لم يناقشا فيهما.
ومن متقدمي الإماميّة القائلين بأفضليّة أمير المؤمنين على سائر الأنبياء هو : الشيخ المفيد ، المتوفى سنة 413 ، وله في ذلك رسالة ، استدلّ فيها بآية المباهلة ، واستهلّ كلامه بقوله : « فاستدلّ به من حكم لأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بأنّه أفضل من سالف الأنبياء عليهم السلام وكافّة الناس سوى نبيّ الهدى محمّد عليه وآله السلام بأن قال… » وهو صريح في أنّ هذا قول المتقدّمين عليه(6) .
فظهر سقوط جواب الرازي ومن تبعه.
لكن أبا حيّان نسب إلى الرازي القول بفساد استدلال الحمصي من وجوه ـ ولعلّه نقل هذا من بعض مصنفات الرازي غير التفسير ـ فذكر ثلاثة وجوه :
أمّا الأوّل : فبطلانه ظاهر من غضون بحثنا ، على أنّ الرازي قرّره ولم يشكل عليه ، فإن كان ما ذكره أبو حيان من الرازي حقّاً فقد ناقض نفسه.
وأمّا الثاني : فكذلك ، لأنها أقوال لا يعبأ بها ، إذ الموجود في صحيح مسلم ، وجامع الترمذي ، وخصائص النسائي ، ومسند أحمد ، ومستدرك الحاكم… وغيرها… أن الذي هو غيره هو عليّ لا سواه… وهذا هو القول المتّفق عليه بين العامّة والخاصّة ، وهم قد ادّعوا الإجماع ـ من السلف والخلف ـ على أن صحيحي البخاري ومسلم أصحّ الكتب بعد القرآن ، ومنهم من ذهب إلى أن صحيح مسلم هو الأصحّ منهما.
وأمّا الثالث : فيكفي في الردّ عليه ما ذكره الرازي في تقرير كلام الشيعة في الاستدلال بالآية المباركة ، حيث قال : « وذلك يقتضي الاستواء من جميع الوجوه… » فإن كان ما ذكره أبو حيان من الرازي حقّاً فقد ناقض نفسه.
على أنّه إذا كان « تكفي المماثلة في صفة واحدة ، وهي كونه من بني هاشم » فلماذا التخصيص بعليّ منهم دون غيره ؟!
بقي حكمه بوضع الحديث الذي استدلّ به الحمصي ، وهذا حكم لا يصدر إلاّ من جاهل بالأحاديث والآثار ، أو من معاند متعصّب ; لأنّه حديث متّفق عليه بين المسلمين ، ومن رواته من أهل السُنّة : عبد الرزاق بن همّام ، وأحمد بن حنبل ، وأبو حاتم الرازي ، والحاكم النيسابوري ، وابن مردويه ، والبيهقي ، وأبو نعيم ، والمحب الطبري ، وابن الصبّاغ المالكي ، وابن المغازلي الشافعي…(7) .
هذا تمام الكلام على آية المباهلة. وبالله التوفيق.
(1) تفسير المنار 3 : 266 .
(2) وهو صاحب كتاب « المنقذ من التقليد » ، وفي بعض المصادر أن الفخر الرازي قرأعليه ، توفّي في أوائل القرن السابع ، كما في ترجمته بمقدّمة كتابه المذكور ، طبعة مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم.
(3) التفسير الكبير 8 : 86 .
(4) كذا ، والصحيح : محمود .
(5) البحر المحيط 3 : 190 .
(6) تفضيل أمير المؤمنين عليه السلام على سائر الصحابة. رسالة مطبوعة في المجلد السابع من موسوعة مصنفات الشيخ المفيد.
(7) وقد بحثنا عن أسانيده وأوضحنا وجوه دلالاته في أحد أجزاء كتابنا الكبير « نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار » وسيقدّم للطبع إن شاء الله تعالى.