السبب في تأخير طبع الكتاب :
ثمّ إنّه قد اعترض على كلام السيّد في المقدّمة بأنّه :
« ماذا يعني الموسوي بالحوادث والكوارث التي أخّرت طبع هذه المراجعات أكثر من ربع قرن من الزمن ؟ إنّه سؤال لا جواب عليه ، لأنّ الموسوي لم يقدّم لنا حادثةً أو كارثةً واحدة من هذه الحوادث والكوارث ، وإذا عدنا إلى كتب التاريخ التي أرّخت لهذه الحقبة من الزمن التي تمّت فيها هذه المراجعات المزعومة نقلّب صفحاتها فلا نجد فيها ما يمنع من نشرها ».
أقول :
وهذا جهل أو تجاهل. لقد أشرنا من قبل إلى أنّ السيّد ـ رحمه الله ـ كان في طليعة الشخصيّات الإسلامية التي قاومت الاحتلال الفرنسي للبنان ، فقد قاد شعبه في مواجهة الاحتلال ، واستخدم كافّة الأساليب لها ، ووقف بصرامة يطالب خروج الفرنسيّين من بلاده ، ويدعو إلى الوحدة السوريّة المستقلّة ، فأوعز المحتلّون إلى عملائهم بالتخلّص من هذا القائد ، واستغلّوا عميلاً عربياً يدعى : ( ابن الحلاّج جبران ) من أهالي مدينة صور ، واقتحموا دار السيّد ، وشهر العميل مسدّسه في وجه السيّد ، فركله برجله فوقع على ظهره وسقط المسدّس من يده ، وتعالت الأصوات وصيحات النساء ، ففرّ الفرنسيّون من الدار ، وتوافدت الجموع إليها من كلّ جانب تشتاط غضباً فأمرهم السيّد القائد بالهدوء.
قال رحمه الله في كلام له :
« وكان من ذلك أن عزم الفرنسيّون ، وعزمت ذيولهم ، أن يتخلّصوا منّي عن طريق الاغتيال، لتنهار هذه الجبهة إذا خلوت من الميدان ، وفي ضحى يوم الثلاثاء 12 ربيع الثاني سنة 1337 هـ ، الموافق 14 كانون الثاني سنة 1919 م ، والدار خالية من الرجال ، أقبل فتىً من رجال الأمن العام الّذين أملى لهم الفرنسيون أن يشتطّوا على المسلمين والأحرارمن أهل الدين ، وأقبل معه رجلان من الجند الفرنسي ، وكانوا جميعاً مسلّحين ، فاقتحموا الباب ، ثمّ أحكموا أرتاجها ، ودنا الفتى العربي ابن الحلاّج شاهراً مسدّسه ، وهو يطلب أن أعطيه التفويض الذي كنّا أخذناه من وجوه البلاد وثائق تخوّل الملك فيصل أن يتكلّم باسمنا في عصبة الأمم.
وحين أصبح على خطوة منّي ركلته في صدره ركلةً ألقته على ظهره فسقط المسدّس من يده ، وأتبعتُ الركلة بضربات عنيفة بالحذاء على رأسه ووجهه ، وعلت صيحة نسائنا في الدار ، فملئت الطريق خلف الباب ، فإذا الرهبة تتولّى هزيمة الجنديَّين وصاحبهما مخفقين ، وقد كادت الأيدي والأرجل أن تقضي عليهم…. »(1) .
ثمّ إنّ السيّد دعا إلى مؤتمر للتحاور مع رجالات السياسة والفكر ، لاتّخاذ القرارات المناسبة للاستمرار بالمواجهة والسيطرة على الموقف حتّى الوصول إلى الهدف ، فعقد المؤتمر في منطقة ( الحجير ) ومثّل المؤتمرين في وفد إلى سوريا للاجتماع مع الملك فيصل ، حتّى إذا رجع وثب الفرنسيّون بجيش جرّار إلى جبل عامل توجّه نحو قرية ( شحور ) لإلقاء القبض على السيّد وقتله ، …
قال رحمه الله :
« ومهما يكن فقد كان نصيبنا من هذه الجيوش حملة جرّارة قدّرت بألف فارس مجهّزين بالمدافع الثقيلة والدبابات والمدرّعات ، زحفت بقيادة الكولونيل ( نجير ) إلى ( شحور ) وما كاد الفجر يتضوأ بأضوائه النديّة حتّى كانت المدافع الثقيلة منصوبة على جبلي ( الطور ) و( سلطان ) المشرفين على القرية ، وهبط الجيش يتدفّق بين كروم التين، ويلتفّ حول القرية ، في رهبة أوحشت سكينة الفجر المستيقظ لذكر الله تعالى في مستهلّ شهر رمضان المبارك سنة 1338 ، وكنت أهوم بعد صلاة الفجر بنعاس بعد تعب السفر وتعب السهر ، وكانت وصيفتنا « الصالحة » « السعيدة » تتهيّأ لصلاتها ، فأشرفت على مدخل القرية ـ وهي تتبيّن الصبح ـ فراعها أن ترى أن آذان الخيل تنتشر بين أشجار التين في مثل هذاالبكور ، فأجفلت مذعورة ، ورجعت توقظني من نومي .
نهضت مسرعا إلى أرديتي ، وانسللت أتخطّى الازقّة والمضايق ، ثمّ خرجت من بين العسكر وهم لي منكرون ، وتركتهم يتظنّنون ، وانسحبت أهبط الوادي إلى غار على شاطئ الليطاني، كان لجأ إليه جدّنا السيّد صالح في محنة الجزّار.
أمّا الجند فطفق يسأل عني ، واستوقف الصغار من أفراخي مع عمّهم السيّد محمّد وخالهم السيّد حسن ، يستنطقهم والسيف مصلت فوق رؤوسهم ، ولكنّهم أجمعوا على أنّي في دمشق ، ولمّا استيأسوا من العثور عليَّ تفرّقوا في القرية يأكلون ويشربون ويحطّمون ، ولم يغادروا ( شحوراً ) قبل أن يحرقوا الدار… فحكم علىّ بالنفي المؤبّد مع مصادرة ما أملك. وقد احتلّوا دارنا في صور بعد أن صيح نهباً في حجراتها ، فعظمت المصيبة وجلّت الرزية بنهب المكتبة الحافلة بكتبها القيّمة ، وفيها من نفائس الكتب المخطوطة ما لا يكاد يوجد في غيرها. وكان لي فيها كتب استفرغت في تأليفها زهرة حياتي وأشرف أوقاتي ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون »(2) .
ثمّ إنّه شُرِّد به ـ طاب ثراه ـ مع أهله وذويه إلى دمشق ، فبقي بها مدّةً وانتقل منها إلى فلسطين ، ومنها إلى مصر ، وهو في جميع هذه الأحوال متنكّر وراء كوفيّة وعقال على نسق المألوف من الملابس الصحراوية اليوم ، حتّى إذا قصد الهجرة إلى العراق أرسل إليه بأمان وطلب منه العودة إلى وطنه ، وكانت العودة يوم الجمعة 18 شوّال سنة 1339 .
والخلاصة : إنّه لمّا يئست قوات الاحتلال من القبض عليه ، عادت فسلّطت النار على داره في ( شحور ) فتركتها هشيماً تذروه الرياح ، ثمّ احتلّت داره الكبرى الواقعة في ( صور ) بعد أن أباحتها للأيدي الاثيمة تعيث فيها سلباً ونهباً ، حتّى لم تترك فيها غالياً ولا رخيصاً ، وكان أوجع ما في هذه النكبة تحريقهم مكتبته العامرة بكلّ ما فيها من نفائس الكتب وأعلاقها ، ومنها مؤلّفاته الكثيرة القيّمة التي كانت خطّيّة في ذلك الوقت ، والمكاتيب والمراجعات.
فهذا موجز تلك الحوادث والكوارث ، كما في مقدّمة « المراجعات » وغيرها من المؤلّفات، وفي كتاب « الإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين مصلحاً ومفكّراً وأديباً » وغيره ممّا كتب بترجمة السيّد ، وإن شئت التفصيل فراجع ( البغية ) بقلمه الشريف ، فقد ذكر فيها جميع تلك الكوارث والحوادث بما لها من خصوصيات وجزئيات… وإليها أشار ـ رحمه الله ـ في مقدّمة : « المراجعات » ثمّ صرّح بأنّ الصحف التي ينشرها الآن كلّها بلفظه وخطّه…
لكنّ البعض لا يصدّقون السيّد ـ الصادق المصدّق ـ فيما يقول أو لا يرون ما لاقاه وقاساه ـ مع شعبه ـ كوارث ! أو يريدون إنكار تلك الجهود ، أو استنكار ذلك الجهاد ضدّ الاستعمار ! فيذكرون للتأخير سبباً من عندهم ، بوحي من ظنونهم السيّئة الفاسدة ، وأغراضهم الباطلة الكاسدة ، فيقول قائل منهم :
« والذي دفع الموسوي إلى تأخير نشر وطباعة ( المراجعات ) إنّما هو حاجة في نفسه ،إذ أنّ الفترة التي كانت فيها المراجعات ، والتي اعتبرها فترة غير ملائمة لمثل هذا الأمر ، إنّما تعني أواخر الخلافة العثمانية التي مهما قيل فيها فإنّها تظلّ خلافةً تدين بالإسلام وتدفع عنه أعداءه وخصومه ، وتناهض كلّ الفرق الضالّة التي اتّخذت من الإسلام ستاراً لضرب الإسلام والكيد للمسلمين كالرافضة وغيرهم ، والموسوي خشي على نفسه من نشر هذه المراجعات في ظلّ هذه الخلافة ، لما فيها من مخالفة للكتاب والسنّة وعقيدة الأمّة ، الأمر الذي قد لا تسمح الخلافة العثمانية بنشره ، لذا فإنّه كان ينتظر فرصةً مناسبةً ومؤاتية لنشر هذه الأباطيل…
والأمر الثاني الذي دفعه إلى تأخير نشر مراجعاته : أنّها مراجعات لا أصل لها ، فلا بدّ له من تأخيرها ، إذ لو نشرها في الوقت الذي تمّت فيه هذه المراجعات لتصدّى إلى تكذيبه العديد من العلماء ، لا سيّما شيخ الأزهر الذي كذّب عليه وقوّله ما لم يقل ، فلمّا مات شيخ الأزهر ومات بعض أقرانه ، ونسي الأحياء منهم أمر هذه المراجعات ، وماكان فيها من وقائع وتفصيلات ، ولمّا اطمأنّ الموسوي لهذا كلّه سارع عندئذ لنشر أباطيله ».
أقول :
لقد ذكر أمرين هما السبب ـ بزعمه ـ في تأخير نشر « المراجعات » :
أمّا الأوّل : فلا يتفوّه به عاقل ، إذ الخلافة العثمانية كانت في تلك الأيّام على وشك الانهيار والاضمحلال ، ولم تعد قادرة على حفظ كيانها ، على أنّه كان بالإمكان طبع الكتاب ـ لولا الحوادث والكوارث ـ في غير بلاد الخلافة العثمانية…
وعلى الجملة ، فهذا الأمر ممّا لا يصغى إليه ، وتضحك الثكلى به ، ولعلّه لذا لم نجده عند غير هذا المتقوّل.
وأمّا الأمر الثاني : فقد أشار إليه غيره أيضاً ، وهو مردود بما ذكرناه في بيان واقع الحال.
على أنّا نسأل هؤلاء عن السبب للحقيقة المفجعة ، وهي عدم ردّ أحد من علماء السنّة على هذه المراجعات ، لا سيّما ممّن نشأ في ظلّ الخلافة العثمانية التي كانت تناهض كلّ الفرق الضالّة على حدّ زعمه ؟!
وعن السبب لنشر مثل هذه التشكيكات والتكذيبات ، في مثل هذه الظروف وبعد نحو الخمسين عاماً على طبع المراجعات ؟!
وعن السبب في تأخير طبع ردّ أحدهم على كتاب « أبو هريرة » مدّة 18 سنة ، أي بعد وفاة السيّد بسنين(3) ؟! ثمّ تبعه غيره ، يأخذ اللاّحق من السابق ، فيكرّرون المكرّر(4) .
(1) موسوعة الامام السيد عبد الحسين شرف الدين 7 : 3368 .
(2) موسوعة الامام السيد عبد الحسين شرف الدين 7 : 3379 .
(3) كتاب : أبو هريرة راوية الإسلام ، لمحمّد عجّاج الخطيب ، ألّفه ردّاً على كتاب : «أبو هريرة » للسيّد شرف الدين ، فردّ عليه الشيخ عبد الله السبيتي بكتاب : « أبو هريرة في التيّار ».
(4) لاحظ : دفاع عن أبي هريرة ، لعبد المنعم صالح العلي ، ثمّ : أبو هريرة وأقلام الحاقدين ، لعبد الرحمن عبدالله الزرعي ، وهكذا…