* استدلال الإمام الرضا عليه السلام :
وأمّا وجه دلالة الآية على الإمامة ، فإنّ الإماميّة أخذت ذلك من الإمام أبي الحسن عليّ الرضا عليه السلام ، فقد قال الشريف المرتضى الموسوي طاب ثراه :
« حدّثني الشيخ ـ أدام الله عزّه ـ أيضاً ، قال : قال المأمون يوماً للرضا عليه السلام :
أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام يدلّ عليها القرآن.
قال : فقال له الرضا عليه السلام : فضيلته في المباهلة ، قال الله جلّ جلاله : (فمن حاجّك فيه من بعدما جاءك من العلم فقال تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين).
فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الحسن والحسين فكانا ابنيه ، ودعا فاطمة فكانت ـ في هذا الموضع ـ نساءه ، ودعا أمير المؤمنين فكان نفسه بحكم الله عزّ وجلّ.
وقد ثبت أنّه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجلّ من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وافضل ، فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بحكم الله عزّ وجلّ.
قال : فقال له المأمون : أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع ، وإنّما دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ابنيه خاصّة ، وذكر النساء بلفظ الجمع ، وإنّما دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ابنته وحدها. فلم لا جاز أن يذكر الدعاء لمن هونفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره ، فلا يكون لأمير المؤمنين عليه السلام ما ذكرت من الفضل ؟!
قال : فقال له الرضا عليه السلام : ليس بصحيح ما ذكرت ـ يا أمير المؤمنين ـ وذلك أنّ الداعي إنّما يكون داعياً لغيره ، كما يكون الآمر آمراً لغيره ، ولا يصحّ أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة ، كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة ، وإذا لم يدع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رجلا في المباهلة إلاّ أمير المؤمنين عليه السلام ، فقد ثبت أنّه نفسه التي عناها الله تعالى في كتابه ، وجعل حكمه ذلك في تنزيله.
قال : فقال المأمون : إذا ورد الجواب سقط السؤال »(1) .
* وقال الشيخ المفيد ـ بعد أن ذكر القصّة ـ : « وفي قصة أهل نجران بيان عن فضل أمير المؤمنين عليه السلام ، مع ما فيه من الآية للنبيّ صلّى الله عليهوآله وسلّم ، والمعجز الدالّ على نبوته.
ألا ترى إلى اعتراف النصارى له بالنبوة ، وقطعه عليه السلام على امتناعهم من المباهلة ، وعلمهم بأنّهم لو باهلوه لحلّ بهم العذاب ، وثقته عليه وآله السلام بالظفر بهم والفلج بالحجّة عليهم ، وأنّ الله تعالى حكم في آية المباهلة لأمير المؤمنين عليه السلام بأنّه نفس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كاشفاً بذلك عن بلوغه نهاية الفضل ، ومساواته للنبيّ عليه وآله السلام في الكمال والعصمة من الآثام ، وأنّ الله جل ذكره جعله وزوجته وولديه ـ مع تقارب سنّهما ـ حجّة لنبيّه عليه وآله السلام وبرهاناً على دينه ، ونصّ على الحكم بأنّ الحسن والحسين أبناؤه ، وأن فاطمة عليها السلام نساؤه المتوجّه إليهن الذكر والخطاب في الدعاء إلى المباهلة والاحتجاج ؟!
وهذا فضل لم يشركهم فيه أحد من الأمّة ، ولا قاربهم فيه ولا ماثلهم في معناه ، وهو لاحق بما تقدّم من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام الخاصة به ، على ما ذكرناه »(2) .
* وهكذا استدلّ الشريف المرتضى ، حيث قال : « لا شبهة في دلالة آية المباهلة على فضل من دعي إليها وجعل حضوره حجّة على المخالفين ، واقتضائها تقدّمه على غيره ; لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يجوز أن يدعو إلى ذلك المقام ليكون حجّةً فيه إلاّ من هو في غاية الفضل وعلوّ المنزلة.
وقد تظاهرت الرواية بحديث المباهلة ، وأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا إليها أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، وأجمع أهل النقل وأهل التفسير على ذلك…
ونحن نعلم أن قوله ( وأنفسنا وأنفسكم ) لا يجوز أن يعني بالمدعو فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنّه هو الدّاعي ، ولا يجوز أن يدعو الإنسان نفسه ، وإنّما يصحّ أن يدعو غيره ، كما لا يجوز أن يأمر نفسه وينهاها ، وإذا كان قوله تعالى : (وإنفسنا وأنفسكم ) لا بدّ أن يكون إشارةً إلى غير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وجب أن يكون إشارةً إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، لأنّه لا أحد يدّعي دخول غير أمير المؤمنين وغير زوجته وولديه عليهم السلام في المباهلة »(3) .
* وقال الشيخ الطوسي : « أحد ما يستدل به على فضله عليه السلام ، قوله تعالى : (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل… ) إلى آخر الآية.
ووجه الدلالة فيها : أنّه قد ثبت أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا أميرالمؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام إلى المباهلة ، وأجمع أهل النقل والتفسير على ذلك ، ولا يجوز أن يدعو إلى ذلك المقام ليكون حجّة إلاّ من هو في غاية الفضل وعلوّ المنزلة ، ونحن نعلم أن قوله : ( وأنفسنا وأنفسكم)لا يجوز أن يعني بالمدعوّ فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ; لأنّه هو الداعي ، ولا يجوز أن يدعو الإنسان نفسه ، وإنّما يصحّ أن يدعو غيره ، كما لا يجوز أن يأمر نفسه وينهاها.
وإذا كان قوله : ( وأنفسنا وأنفسكم ) لا بدّ أن يكون إشارةً إلى غير الرسول ، وجب أن يكون إشارةً إلى أمير المؤمنين عليه السلام ; لأنّه لا أحد يدّعي دخول غير أمير المؤمنين وغير زوجته وولديه عليهم السلام في المباهلة… »(4) .
وقال بتفسير الآية : « واستدلّ أصحابنا بهذه الآية على أن أمير المؤمنين عليه السلام كان أفضل الصحابة من وجهين :
أحدهما : إن موضوع المباهلة ليتميّز المحقّ من المبطل ، وذلك لا يصحّ أن يفعل إلاّ بمن هو مأمون الباطن ، مقطوعاً على صحّة عقيدته ، أفضل الناس عند الله.
والثاني : إنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم جعله مثل نفسه بقوله : ( وأنفسنا وأنفسكم…)(5) .
* وقال الإربلي : « ففي هذه القضيّة بيان لفضل عليّ عليه السلام ، وظهور معجز النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فإنّ النصارى علموا أنّهم متى باهلوه حل بهم العذاب ، فقبلوا الصلح ودخلوا تحت الهدنة ، وإنّ الله تعالى أبان أنّ عليّاً هو نفس رسول الله كاشفاً بذلك عن بلوغه نهاية الفضل ، ومساواته للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في الكمال والعصمة من الآثام ، وإن الله جعله وزوجته وولديه ـ مع تقارب سنّهما ـ حجّة لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وبرهاناً على دينه ، ونصّ على الحكم بأن الحسن والحسين أبناؤه ، وأن فاطمة عليها السلام نساؤه والمتوجّه إليهنّ الذكر والخطاب في الدّعاء إلى المباهلة والاحتجاج ; وهذا فضل لم يشاركهم فيه أحد من الأمّة ولا قاربهم »(6).
* وقال البياضي : « ولأنّه مساو للنبيّ الذي هو أفضل ، في قوله ( وأنفسنا وأنفسكم) والمراد : المماثلة ، لامتناع الاتّحاد »(7) .
* وقال المحقّق نصير الدين الطوسي ـ في أنّ عليّاً أفضل الصحابة ـ : «ولقوله تعالى : ( وأنفسنا ) ».
* فقال العلاّمة الحلّي بشرحه : « هذا هو الوجه الثالث الدالّ على أنّه عليه السلام أفضل من غيره ، وهو قوله تعالى : ( قل تعالوا… ).. واتّفق المفسّرون كافّة أن الأبناء إشارة إلى الحسن والحسين عليهما السلام والنساء إشارة إلى فاطمة عليهاالسلام ، والأنفس إشارة إلى عليّ عليه السلام.
ولا يمكن أن يقال : إنّ نفسهما واحدة ; فلم يبق المراد من ذلك إلاّ المساوي ، ولا شك في أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أفضل الناس ، فمساويه كذلك أيضاً »(8) .
* وقال العلاّمة الحلّي : « أجمع المفسرون على أنّ ( أبناءنا ) إشارة إلى الحسن والحسين ، و ( أنفسنا ) إشارة إلى عليّ عليه السلام. فجعله الله نفس محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والمراد المساواة ، ومساوي الأكمل الأولى بالتصرّف أكمل وأولى بالتصرف ، وهذه الآية أدلّ دليل على علوّ رتبة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ;لأنّه تعالى حكم بالمساواة لنفس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأنّه تعالى عيّنه في استعانة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في الدعاء. وأي فضيلة أعظم من أن يأمر الله نبيّه بأن يستعين به على الدعاء اليه والتوسّل به ؟! ولمن حصلت هذه المرتبة ؟! »(9) .
أقول :
وعلى هذا الغرار كلمات غيرهم من علمائنا الكبار في مختلف الأعصار… فإنّهم استدلّوا على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بطائفتين من الأدلّة ، الأولى هي النصوص ، والثانية هي الدالة على الأفضليّة ، والأفضليّة مستلزمة للإمامة ، وهو المطلوب.
وخلاصة الاستدلال بالآية هو :
1 ـ إنّ الآية المباركة نصّ في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام ، لأنّها تدلّ على المساواة بين النبيّ وبينه عليه السلام ، ومساوي الأكمل الأولى بالتصرّف ، أكمل وأولى بالتصرف.
2 ـ إن قضيّة المباهلة وما كان من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قولاً وفعلاً ـ تدلّ على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام ، وذلك لوجوه منها :
أوّلا : إن هذه القضيّة تدلّ على أن عليّاً وفاطمة والحسنين عليهم السلام ، أحبّ الناس إلى رسول الله ، والأحبية تستلزم الأفضلية.
وقد اعترف المحقّقون من أهل السُنّة بالدلالة هنا على الأحبيّة.
قال البيضاوي : « أي يدع كلّ منّا ومنكم نفسه وأعزّة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة… » .
فقال الشهاب الخفاجي في حاشيته : « ألصقهم بقلبه ، أي : أحبّهم وأقربهم إليه ».
وقال : « قوله : وإنّما قدّمهم… ، يعني : أنّهم أعزّ من نفسه ، ولذا يجعلها فداءً لهم، فلذا قدّم ذكرهم اهتماماً به. وأمّا فضل آل الله والرسول فالنهار لا يحتاج إلى دليل»(10) .
وكذا قال الخطيب الشربيني(11) ، والشيخ سليمان الجمل(12) ، وغيرهما.
وقال القاري : « فنزّله منزلة نفسه لما بينهما من القرابة والأخوّة »(13) .
وثانياً : دلالة فعل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، إذ باهل خصومه بعلي وفاطمة وحسن وحسين فقط ، ولم يدع واحدةً من أزواجه ، ولا واحداً من بني هاشم ، ولا امرأةً من أقربائه… فضلا عن أصحابه وقومه… فإنّه يدلّ على عظمة الموقف ، وجلالة شأن هؤلاء عند الله دون غيرهم ، إذ لو كان لأحدهم في المسلمين مطلقاً نظير ، لم يكن لتخصيصهم بذلك وجه.
وثالثاً : دلالة قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأهل البيت ، لما أخرجهم للمباهلة : « إذا أنا دعوت فأمّنوا ».
فقال أسقفهم : « إنّي لارى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من جباله لأزاله ، فلاتباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة »(14) .
فإنّ ذلك يدلّ على دخل لهم في ثبوت نبوّته وصدق كلامه ، وفي إذلال الخصوم وهلاكهم لوباهلوا… ، فكان لهم الأثر الكبير والسهم الجزيل في نصرة الدّين ورسول ربّ العالمين. ولا ريب أنّ من كان له هذا الشأن في مباهلة الأنبياء كان أفضل ممّن ليس له ذلك.
قال القاشاني : « إن لمباهلة الأنبياء تأثيراً عظيماً سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله إيّاهم به ، وهو المؤثّر بإذن الله في العالم العنصري ، فيكون انفعال العالم العنصري منه كإنفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه ، كالغضب ، والحزن ، والفكر في أحوال المعشوق ، وغير ذلك من تحرك الاعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم ، وانفعال النفوس البشريّة منه كانفعال حواسّنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا ، فإذا اتّصل نفس قدسي به كان تأثيرها في العالم عند التوجه الإتصالي تأثير ما يتصل به ، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد.
ألم تَر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف ، وأحجمت عن المباهلةوطلبت الموادعة بقبول الجزية ؟ »(15) .
أقول : فكان أهل البيت عليهم السلام شركاء مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذا التأثير العظيم ، وهذه مرتبة لم يبلغ عشر معشارها غيرهم من الأقرباء والأصحاب.
وعلى الجملة ، فإنّ المباهلة تدلّ على افضلية أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والأفضل هو المتعيّن للإمامة بالإتّفاق من المسلمين ، كما اعترف به حتّى مثل ابن تيميّة(16) .
ونتيجة الإستدلال بالآية المباركة وما فعله النبيّ وقاله ، هو أنّ الله عزّ وجلّ أمر رسوله بأن يسمي عليّاً نفسه كي يبين للناس أن عليّاً هو الذي يتلوه ويقوم مقامه في الإمامة الكبرى والولاية العامّة ; لأن غير الواجد لهذه المناصب لا يأمر الله رسوله بأن يسمّيه نفسه.
هذا ، وفي الآية دلالة على أنّ « الحسنين » إبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا ما نصّ عليه غير واحد من أكابر القوم(17) .
وقد جاء في الكتب أنّ عليّاً عليه السلام كان الكاتب لكتاب الصلح(18) وأنّه توجه بعد ذلك إلى نجران بأمر النبيّ لجمع الصّدقات ممّن أسلم منهم وأخذ الجزية ممّن بقي منهم على دينه(19) .
ثمّ إن أصحابنا يعضّدون دلالة الآية الكريمة على المساواة بعدة من الروايات :
كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لبريدة بن الحصيب عندما شكا عليّاً عليه السلام : «يا بريدة ! لا تبغض عليّاً فإنّه منّي وأنا منه » ولعموم المسلمين في تلك القصة : « عليّ منّي وأنا من عليّ ، وهو وليكم من بعدي »(20) .
وقوله وقد سئل عن بعض أصحابه ، فقيل : فعلي ؟! قال : « إنّما سألتني عن الناس ولم تسألني عن نفسي »(21) .
وقوله : « خُلقت أنا وعليّ من نور واحد ».
وقوله : « خُلقت أنا وعليّ من شجرة واحدة »(22) .
وقوله ـ في جواب قول جبرئيل في أحد : يا محمّد ! إنّ هذه لهي المواساة ـ : « ياجبرئيل ، إنّه منّي وأنا منه. فقال جبرئيل : وأنا منكما »(23) .
أقول : وستأتي أحاديث أخر فيما بعد ، إن شاء الله.
وممّا يستدل به أيضاً : قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « فاطمة بضعة منّي… » حيث استدلّ به بعض ائمة القوم على أن من سبّها يكفر(24) وقال غير واحد من ائمّتهم بأفضليّة فاطمة على أبي بكر وعمر ، لكونها بضعة من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهو أفضل منهما بالإجماع(25) ، فإن عليّاً عليه السلام أفضل منها بالإجماع كذلك.
ثمّ إن غير واحد من أعلام أهل السُنّة اعترف بدلالة القصّة على فضيلة فائقة لأهل البيت عليهم السلام :
قال الزمخشري : « وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام »(26) .
وقال ابن روزبهان : « لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام في هذه الآية فضيلة عظيمة وهي مسلّمة ، ولكن لا تصير دالّة على النصّ بإمامته »(27) .
أقول : فلا أقلّ من الدلالة على الأفضليّة ; لأنّ هذه الفضيلة غير حاصلة لغيره ، فهو أفضل الصحابة ، والأفضليّة تستلزم الإمامة.
ومن هنا نرى الفخر الرازي لا يقدح في دلالة الآية على أفضليّة علىّ على سائر الصحابة ، وإنّما يناقش الشيخ الحمصي في استدلاله بها على أفضليّته على سائر الأنبياء ، وسيأتي كلامه في الفصل الخامس.
وتبعه النيسابوري وهذه عبارته : « أي : يدع كلّ منّا ومنكم أبناءه ونساءه ويأت هوبنفسه وبمن هو كنفسه إلى المباهلة ، وإنّما يعلم إتيانه بنفسه من قرينة ذكر النفس ومن إحضار من هم أعزّ من النفس ، ويعلم إتيان من هو بمنزلة النفس من قرينة أنّ الإنسان لا يدعو نفسه. ( ثمّ نبتهل ) : ثمّ نتباهل…
وفي الآية دلالة على أن الحسن والحسين ـ وهما ابنا البيت ـ يصحّ أن يقال : إنهماابنا رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم ، لأنّه صلّى الله عليه ]وآله [وسلّم وعد أن يدعو أبناءه ثمّ جاء بهما.
وقد تمسّك الشيعة قديماً وحديثاً بها في أن عليّاً أفضل من سائر الصحابة ; لأنها دلّت على أن نفس علىّ مثل نفس محمّد إلاّ في ما خصه الدليل.
وكان في الرىّ رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي ـ وكان متكلّم الاثني عشرية ـ يزعم أن عليّاً أفضل من سائر الأنبياء سوى محمّد. قال : وذلك أنّه ليس المراد بقوله : ( وأنفسنا ) نفس محمّد ، لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه ، فالمراد غيره ، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان عليّ بن أبي طالب…
وأجيب بأنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمّداً أفضل من سائر الأنبياء فكذا انعقد الإجماع بينهم ـ قبل ظهور هذا الانسان ـ على أنّ النبيّ أفضل ممّن ليس بنبي. وأجمعوا على أنّ عليّاً عليه السلام ما كان نبيّاً…
وأمّا فضل أصحاب الكساء فلا شك في دلالة الآية على ذلك ، ولهذا ضمّهم إلى نفسه ، بل قدّمهم في الذكر… »(28) .
(1) الفصول المختارة من العيون والمحاسن : 38 .
(2) الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1 : 169 .
(3) الشافي في الإمامة 2 : 254 .
(4) تلخيص الشافي 3 : 6 ـ 7 .
(5) التبيان في تفسير القرآن 2 : 485 .
(6) كشف الغمّة في معرفة الأئمّة 1 : 233 .
(7) الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم 1 : 210 .
(8) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 411 .
(9) نهج الحقّ وكشف الصدق : 177 .
(10) حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي 3 : 32 .
(11) السراج المنير في تفسير القرآن 1 : 222 .
(12) الجمل على الجلالين 1 : 282 .
(13) مرقاة المفاتيح 5 : 589 .
(14) الكشّاف 1 : 565 ، تفسير الخازن 1 : 254 ، السراج المنير في تفسير القرآن 1 : 222 ، المراغي 3 : 175 ، وغيرهم ممّن تقدم أو تأخّر .
(15) تفسير القاسمي 4 : 113 .
(16) نصّ عليه في مواضع من منهاجه ، انظر مثلا : 6 : 475 و8 : 228 .
(17) تفسير الرازي وغيره من التفاسير ، بتفسير الآية .
(18) السنن الكبرى للبيهقي 10 : 120 ، وغيره .
(19) شرح المواهب اللدنّية 4 : 43 .
(20) هذا حديث الولاية ، وقد بحثنا عنه بالتفصيل سنداً ودلالةً في الجزء الخامس عشر من كتابنا الكبير « نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار » .
(21) كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب : 155 .
(22) حديث النور ، وحديث الشجرة ، بحثنا عنهما بالتفصيل سنداً ودلالةً في الجزء الخامس من كتابنا الكبير « نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار » .
(23) المعجم الكبير 1 : 318/941 ، مجمع الزوائد 6 : 114 عن الطبراني و122 ، عن البزار ، تاريخ الطبري 2 : 514 ، الكامل في التاريخ 2 : 154 ومصادر أُخرى في التاريخ والحديث .
(24) فتح الباري 7 : 84 ، مرقاة المفاتيح 5 : 592 .
(25) فيض القدير 4 : 421 .
(26) الكشّاف : 566 .
(27) إبطال الباطل ـ مع إحقاق الحقّ ـ 3 : 63 .
(28) تفسير غرائب القرآن 2 : 178 ـ 179 .