4 ـ على من كان معتمداً؟
واختلفت الألفاظ التي ذكرناها فيمن كان معتمداً عليه ـ مع الاتّفاق على كونهما اثنين ـ فمنها: «رجلين أحدهما العبّاس» ومنها: «رجلين» ومنها: «فقال: انظروا لي من أتّكى عليه، فجاءت بريرة، ورجل آخر فاتّكأ عليهما». وهناك روايات فيها أسماء أشخاص آخرين . . .
ومن هنا اضطربت كلمات الشرّاح . . .
فقال النووي بشرح «فخرج بين رجلين أحدهما العبّاس»:
«وفسّر ابن عبّاس الآخر بعليّ بن أبي طالب. وفي الطريق الآخر: فخرج ويدٌ له على الفضل بن عباس ويد له على رجل آخر، وجاء في غير مسلم: بين رجلين أحدهما أُسامة بن زيد. وطريق الجمع بين هذا كلّه: أنّهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم تارةً هذا وتارةً ذاك وذاك، ويتنافسون في ذلك وهؤلاء هم خواص أهل بيته الرجال الكبار، وكان العبّاس أكثرهم ملازمة للأخذ بيده الكريمة المباركة صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، أو أنّه أدام الأخذ، وإنّما يتناوب الباقون في اليد الأُخرى. وأكرموا العبّاس باختصاصه بيد واستمرارها له، لما له من السنّ والعمومة وغيرهما، ولهذا ذكرته عائشة مسمّىً وأبهمت الرجل الآخر، إذ لم يكن أحد الثلاثة الباقين ملازماً في جميع الطريق ولا معظمه، بخلاف العبّاس، واللّه أعلم»(1).
وفي خبر آخر عند ابن خزيمة عن سالم بن عبيد: «فجاءوا ببريرة ورجل آخر فاعتمد عليهما ثم خرج إلى الصلاة»(2).
ترى أنّ «الرجل الآخر» في جميع هذه الطرق غير مذكور، فاضطرّ النووي إلى ذكر توجيه لذلك، بعد أن ذكر طريق الجمع بين ذلك كلّه، لئلاّ يسقط شيء منها عن الاعتبار!! بعد أن كانت القضيّة واحدة . . .
وروى أبو حاتم أنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خرج بين جاريتين، فجمع بين الخبرين بأنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم «خرج بين الجاريتين إلى الباب، ومن الباب أخذه العبّاس وعليّ رضي اللّه عنهما، حتّى دخلا به المسجد»(3).
لكنّ خبر خروجه بين جاريتين وهم صدر من الذهبي أيضاً(4).
وذكر العيني الجمع الذي اختاره النووي قائلاً:
«وزعم بعض الناس» ثمّ أشكل عليه بقوله: «فإنْ قلت: ليس بين المسجد وبيته صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم مسافة تقتضي التناوب» فأجاب بقوله: «قلت: يحتمل أن يكون ذلك لزيادة في إكرامه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، أو لالتماس البركة من يده»(5).
وأنت تستشمّ من عبارته «وزعم بعض الناس» ثمّ من الإشكال والجواب، عدم ارتضائه لما قاله النووي، وكذلك ابن حجر ردّ ـ كما ستعلم ـ على ما ذكره النووي فيما جاء في رواية معمر: «ولكنّ عائشة لا تطيب نفساً له بخير» ورواية الزهري: «ولكنّها لا تقدر على أنْ تذكره بخير».
والتحقيق: إنّ القضيّة واحدة، و«الرجل الآخر» هو عليٌّ عليه السلام «ولكن عائشة . . .» أمّا ما ذكره النووي فقد عرفت ما فيه، وقد أورد العيني ما في رواية معمر والزهري ثمّ قال: «وقال بعضهم: وفي هذا ردّ على من زعم أنّها أبهمت الثاني لكونه لم يتعيّن في جميع المسافة ولا معظمها» قال العيني: «قلت: أشار بهذا إلى الردّ على النووي ولكنّه ما صرّح باسمه لاعتنائه به ومحاماته له»(6).
قلت: والعيني أيضاً لم يذكر اسم القائل وهو ابن حجر، ولا نصّ عبارته لشدّتها، ولنذكرها كاملةً، فإنّه كما لم يصرّح باسم النووي كذلك لم يصرّح باسم الكرماني الذي اكتفى هنا بأنْ قال: «لم يكن تحقيراً أو عداوةً، حاشاها من ذلك»(7).
وهي هذه بعد روايتي معمر والزهري:
«وفي هذا ردّ على من تنطّع فقال لا يجوز أنْ يظنّ ذلك بعائشة، وردّ على من زعم أنّها أبهمت الثاني لكونه لم يتعيّن في جميع المسافة . . . وفي جميع ذلك الرجل الآخر هو العبّاس، واختصّ بذلك إكراماً له. وهذا توهّم ممّن قاله، والواقع خلافه، لأنّ ابن عبّاس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأنّ المبهم عليٌّ فهو المعتمد. واللّه أعلم»(8).
إلاّ أنّ من القوم من حملته العصبيّة لعائشة على أنْ ينكر ما جاء في رواية معمر والزهري، وقد أجاب عن ذلك ابن حجر حاملاً الإنكار على الصحّة فقال: «ولم يقف الكرماني على هذه الزيادة فعبّر عنها بعبارة شنيعة»(9).
(1) المنهاج شرح صحيح مسلم 4 / 117.
(2) عمدة القاري 5 / 188.
(3) عمدة القاري 5 / 188.
(4) عمدة القاري 5 / 190.
(5) عمدة القاري 5 / 188.
(6) عمدة القاري 5 / 192.
(7) الكواكب الدراري 5 / 52.
(8) فتح الباري 2 / 198.
(9) فتح الباري 2 / 198.