نقد القول بأنّ التحريم من عمر و يجب اتّباعه:
قال ابن القيّم: «فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبداللّه قال: كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّام على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم وأبي بكر، حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث. وفيما ثبت عن عمر أنّه قال: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم أنا أنهى عنهما: متعة النساء ومتعة الحجّ؟
قيل: الناس في هذا طائفتان:
طائفة تقول: إنّ عمر هو الذي حرّمها ونهى عنها، وقد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون. ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح، فإنّه من رواية عبدالملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جدّه. وقد تكلّم فيه ابن معين. ولم ير البخاري إخراج حديثه في صحيحه مع شدّة الحاجة إليه وكونه أصلاً من أُصول الإسلام. ولو صحّ عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به. قالوا: ولو صحّ حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود، حتّى يروي أنّهم فعلوها ويحتجّ بالآية.
وأيضاً: ولو صحّ لم يقل عمر إنّها كانت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم، وأنا أنهى عنها وأُعاقب عليها، بل كان يقول إنّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم حرّمها ونهى عنها. قالوا: ولو صحّ لم تفعل على عهد الصدّيق وهو عهد خلافة النبوّة حقّاً.
والطائفة الثانية، رأت صحّة حديث سبرة، ولو لم يصحّ فقد صحّ حديث عليّ رضي اللّه عنه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم حرّم متعة النساء.
فوجب حمل حديث جابر على أنّ الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمان عمر، فلمّا وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر.
وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها. وباللّه التوفيق»(1).
أقول: فالقائلون بهذا القول يلتزمون بأنّ التحريم كان من عمر لا من اللّه ورسوله، لكنّهم يوجّهون تحريم عمر، بل ينسبونه إلى اللّه ورسوله باعتبار أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أمر باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون.
هذا عمدة دليلهم . . . فإذا لم يثبت «أنّ رسول اللّه أمر باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون» لم يبق مناص من الاعتراف بأن ما فعله عمر كان «إحداثاً في الدين» كما قال غير واحد من الصحابة!
إنّ قوله: «وقد أمر رسول اللّه باتّباع ما سنّه الخلفاء» اشارة إلى ما يروونه عنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي وعضّوا عليها بالنواجذ»!
لكنّ هذا الحديث من أحاديث (الرسائل العشر) هذه.
إنّه حديث باطل بجميع أسانيده وطرقه، ولقد أفصح عن بطلانه بعض كبار الأئمّة كالحافظ بن القطّان، المتوفّى سنة 628، قال ابن حجر بترجمة عبدالرحمن السلمي: «له في الكتب حديث واحد في الموعظة صحّحه الترمذي، قلت: وابن حبّان والحاكم في المستدرك.
وزعم ابن القطّان الفاسي: أنّه لا يصحّ، لجهالة حاله»(2).
وقد ترجم لابن القطّان وأثنى عليه كبار العلماء(3).
وبقي القول بأن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هو الّذي حرّمها . . . وقد عرفت أنّ القائلين به اختلفوا على أقوال:
أمّا القول بأنّه كان عام حجّة الوداع، فقد قال ابن القيّم: «هو وهم من بعض الرواة . . .».
وأمّا القول بأنّه كان عام حنين، فقد قال ابن القيّم: «هذا في الحقيقة هو القول الثاني، لاتّصال غزاة حنين بالفتح».
وأما القول بأنه كان في غزوة أوطاس، فقد قال السهيلي: «ومن قال من الرواة كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن قال عام الفتح»(4).
وأمّا القول بأنّه كان في عمرة القضاء، فقد قال السهيلي: «فأغرب ما روي في ذلك رواية من قال في غزوة تبوك، ثمّ رواية الحسن أنّ ذلك كان في عمرة القضاء»(5). وقال ابن حجر: «وأمّا عمرة القضاء فلا يصحّ الأثر فيها، لكونه من مرسل الحسن، ومراسيله ضعيفة، لأنّه كان يأخذ عن كلّ أحد، وعلى تقدير ثبوته، فلعلّه أراد أيّام خيبر لأنّهما كانا في سنة واحدة، كما في الفتح وأوطاس سواء»(6).
قال ابن القيّم: «والصحيح أنّ المتعة إنّما حرّمت عام الفتح»(7).
وقال ابن حجر: «والطريق التي أخرجها مسلم مصرّحة بأنّها في زمن الفتح أرجح، فتعين المصير إليها واللّه أعلم».
قال هذا بعد أن ذكر روايات الأقوال الأخرى، وتكلّم عليها بالتفصيل . . . حتى قال: «فلم يبق من المواطن ـ كما قلنا ـ صحيحاً صريحاً سوى غزوة خيبر وغزوة الفتح. وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدّم»(8).
بل لقد نسب السهيلي هذا القول إلى المشهور(9).
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 184 ـ 185.
(2) تهذيب التهذيب 6 / 215.
(3) أُنظر: تذكرة الحفّاظ 4 / 1407 وطبقات الحفّاظ: 498.
(4) فتح الباري 9 / 210.
(5) فتح الباري 9 / 210.
(6) فتح الباري 9 / 211.
(7) زاد المعاد 2 / 183.
(8) فتح الباري 9 / 212 ـ 213.
(9) فتح الباري 9 / 210.