في علم الأُصول:
واستند الأُصوليّون إلى هذا الحديث في كتبهم، ولكن مع اختلاف شديد بين كلماتهم:
1 ـ فمنهم من استدلّ به للقول بحجّيّة سُنّة الصحابة، كالشاطبي، حيث قال:
«سُنّة الصحابة رضي اللّه عنهم سُنّة يعمل عليها ويرجع إليها، ومن الدليل على ذلك أُمور:
أحدها . . .
والثاني: ما جاء في الحديث من الأمر باتّباعهم، وأنّ سنّتهم في طلب الاتّباع كسُنّة النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم كقوله: فعليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديّين، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ»(1).
2 ـ ومنهم من جعله دليلاً على حجيّة رأي كلّ واحد من خلفائه الراشدين من غير حصر في الأربعة، كصاحب «سبل السلام» كما عرفت من عبارته، وكالمراغي وغيره كما ستعلم من عبارة شارح المنهاج.
3 ـ ومنهم من جعله حجّةً على قول كلّ واحد من الخلفاء الأربعة، ومن هنا جعلوا من السُنّة حرمة المتعتين لتحريم عمر، ووجوب الأذان الزائد يوم الجمعة لزيادة عثمان إيّاه.
4 ـ ومنهم من احتجّ به للقول بحجّيّة ما اتّفق عليه الخلفاء الأربعة:
قال البيضاوي: «قال القاضي أبو خازم: إجماع الخلفاء الأربعة حجّة، لقوله عليه السلام: عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين من بعدي»(2).
وقال شارحه السبكي: «ذهب القاضي أبو خازم من الحنفيّة ـ بالحاء المعجمة ـ وكذا أحمد بن حنبل ـ في إحدى الروايتين ـ إلى أنّ إجماع الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ حجّة، مستدلّين بما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وصحّحه الترمذي والحاكم في المستدرك ـ وقال: على شرطهما ـ من قوله صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم: عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ. الحديث.
فإن قيل: هذا عامّ في كلّ الخلفاء الراشدين.
قيل: المراد الأربعة، لقوله عليه الصلاة والسلام: الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثمّ تصير ملكاً عضوضاً، وكانت مدّة الأربعة هذه.
قيل: والصحيح أن المكمّل لهذه المدّة الحسن بن عليّ، وكانت مدّة خلافته ستة أشهر بها تكمّلت الثلاثون»(3).
وقال شارحه الأسنوي: «. . . وجه الدلالة: أنّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم أمر باتّباع سُنّة الخلفاء الراشدين كما أمر باتّباع سُنّته، والخلفاء الراشدون هم: الخلفاء الأربعة المذكورون، لقوله: عليه الصلاة والسلام: الخلافة بعدي ثلاثون سنة . . .»(4).
وقال شارحه البدخشي: «قال القاضي أبو خازم: . . . أوجب اتّباعهم إيجاب اتّباعه، ولهذا لم يعتدّ أبو خازم بخلاف زيد بن ثابت في توريث ذوي الأرحام، وحكم بردّ أموال حصلت في بيت مال المعتضد باللّه إلى ذوي الأرحام، وقبل المعتضد فتواه وأنفذ قضاءه.
قال المراغي: وفيه نظر، لعموم الخلفاء الراشدين وعدم الدليل على الحصر في الأربعة.
قال العبري: وفيه نظر، لأنّ العرف خصّصه بالأئمّة الأربعة حتى صار كالعلم لهم.
أقول: وفيه نظر، لأنّ العرف طارئ فلا يخصّص عموم اللفظ الصادر قبل.
ثم عند الشيعة: إنّ إجماع الأربعة حُجّة لا من حيث هو، بل من حيث اشتماله على قول عليّ رضي اللّه عنه»(5).
أقول:
أما القول الأوّل، فلا دلالة لهذا الحديث عليه أصلاً.
نعم، يدلّ عليه الخبر: «أصحابي كالنجوم فبأيّهم اقتديتم اهتديتم» لكنّه حديث موضوع باطل(6).
وأمّا القولان الثالث والرابع، فموقوفان على قيام الدليل القاطع على حصر المراد في الأربعة، سواء قلنا بحجّيّة قول كلٍّ منهم على انفراد أو قلنا بحجّيّة قولهم إذا اتّفقوا . . .
ولا شيء من الدليلين على الحصر ـ وهما حديث «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» و«أنّ العرف خصّصه بالأئمّة الأربعة فصار كالعلم لهم» ـ بحيث يصلح لرفع اليد به عن ظهور «الخلفاء» في العموم، ومن هنا قال الغزّالي:
«وقد ذهب قوم إلى أنّ مذهب الصحابي حجّة مطلقاً، وقوم إلى أنّه حجّة إن خالف القياس، وقوم إلى أنّ الحجّة في قول أبي بكر وعمر خاصّة لقوله صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم: اقتدوا باللذين من بعدي، وقوم إلى أنّ الحجّة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتّفقوا.
والكلّ باطل عندنا . . .»(7).
وحينئذ يبقى الحديث على ظهوره في وجوب اتّباع سُنّة كلّ واحد من الخلفاء الراشدين من بعده صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم بناءً على ثبوت صدوره.
ولكن من هم؟
وما معنى ذلك؟!
هذا ما سنبيّنه . . .
(1) الموافقات 4 / 40 ـ 41.
(2) المنهاج بشرح السبكي 2 / 409.
(3) الإبهاج في شرح المنهاج 2 / 410.
(4) نهاية السُول في شرح منهاج الأصول 3 / 267.
(5) مناهج العقول في شرح منهاج الوصول 2 / 402.
(6) كما في الرسالة الاُولى من هذه الرسائل.
(7) المستصفى في علم الأُصول 1 / 260 ـ 261.