تنبيهان:
1 ـ لقد كانت فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها بضعة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حقّاً، ولقد كرّر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قوله: «فاطمة بضعة منّي . . .» غير مرّة، تأكيداً على تحريم أذاها، وأنّ سخطها وغضبها سخطه وغضبه، وسخطه سخط اللّه وغضبه . . . وبألفاظ مختلفة متقاربة في المعنى.
وقد روى عنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هذا الحديث غير واحد من الصحابة، منهم أمير المؤمنين عليه السلام نفسه . . . قال ابن حجر: «وعن عليّ بن الحسين عن أبيه، عن عليٍّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لفاطمة: إنّ اللّه تعالى يرضى لرضاك ويغضب لغضبك»(1).
قال: «وأخرج ابن أبي عاصم، عن عبداللّه بن عمرو بن سالم المفلوج، بسند من أهل البيت، عن عليٍّ أنّ النبي صلّى اللّه تعالى عليه وآله وسلّم قال لفاطمة: إنّ اللّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك»(2).
ولسنا ـ الآن ـ بصدد ذكر رواة هذا الحديث وأسانيده عن الصحابة . . . وبيان قول النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ذلك في مناسبات متعدّدة . . . فذاك أمر معلوم . . .
كما أنّ ترتيب المسلمين الأثرَ الفقهي عليه منذ عهد الصحابة وإعطائهم فاطمة ما كان للنبي من حكم، معلوم.
فالسهيلي الحافظ حكم بكفر من سبّها، وأنّ من صلّى عليها فقد صلّى على أبيها، وكذا الحافظ البيهقي، وقال شرّاح الصحيحين بدلالته على حرمة أذاها(3) وقال الزرقاني المالكي: «إنّها تغضب ممّن سبّها، وقد سوّى بين غضبها وغضبه، ومن أغضبه كفر»(4).
وقال المناوي: «استدلّ به السهيلي على أن من سبّها كفر لأنه يغضبه، وأنها أفضل من الشيخين . . . قال الشريف السمهودي: ومعلوم أنّ أولادها بضعة منها، فيكونون بواسطتها بضعة منه . . .»(5).
ومن قبلهم أبو لبابة الأنصاري نزّلها منزلة النبي بأمر من النبي . . . قال الحافظ السهيلي: «إنّ أبا لبابة رفاعة بن المنذر ربط نفسه في توبة، وإنّ فاطمة أرادت حلّه حين نزلت توبته، فقال: قد أقسمت ألاّ يحلّني إلاّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم: إنّ فاطمة بضعة منّي. فصلّى اللّه عليه وعلى فاطمة. فهذا حديث يدلّ على أنّ من سبّها فقد كفر، ومن صلّى عليها فقد صلّى على أبيها».
ليس المقصود ذلك.
بل المقصود هو: أنّ هذا الحديث جاء في الصحيحين وغيرهما عن «المسور بن مخرمة» ـ في باب فضائل فاطمة ـ مجرّداً عن قصّة خطبة عليٍّ ابنة أبي جهل، قال ابن حجر: «وفي الصحيحين عن المسور بن مخرمة: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم على المنبر يقول: فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما آذاها، ويريبني ما رابها»(6)روياه عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة.
بل لم نجده عند البيهقي والخطيب التبريزي إلاّ مجرّداً كذلك(7)، وكذا في الجامع الصغير، حيث لا تعرّض للقصّة لا في المتن ولا في الشرح(8).
والملاحظ: أنّه لا يوجد في هذا السند المجرَّد واحد من ابني الزبير ولا الزهري والشعبي والليث . . . وأمثالهم . . ..
ونحن نحتجّ بهذا الحديث . . . كسائر الأحاديث . . . وإنْ جرحنا «المسور» و«ابن أبي مليكة» لأنّ «الفضل ما شهدت به الأعداء».
لكن أغلب الظنّ أنّ القوم وضعوا قصّة الخطبة، وألصقوها بالمسور وروايته . . . لغرض في نفوسهم، ومرض في قلوبهم . . . حتى جاء ابن تيميّة المجدِّد لآثار الخوارج، والمشيِّد للأباطيل على موضوعاتهم ليقول:
«فإنّ هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ بل ]روي[ بغيره، كما روي في سياق حديث خطبة عليٍّ لابنة أبي جهل لَمّا قام النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم خطيباً، فقال: إنّ بني هشام بن المغيرة . . . رواه البخاري ومسلم ]في الصحيحين[ من رواية عليّ بن الحسين والمسور بن مخرمة، فسبب الحديث خطبة عليٍّ رضي اللّه عنه لابنة أبي جهل . . .»(9).
لكنّ الحقيقة لا تنطلي على أهلها، واللّه الموفّق.
2 ـ قد أشرنا في مقدّمة البحث أنّ وجود الحديث ـ أيّ حديث كان ـ في كتابي البخاري ومسلم وغيرهما من الكتب المعروفة بالصحاح، لا يلزمنا القول بصحّته، ولا يغنينا عن النظر في سنده، فلا يغرّنّك إخراجهم الحديث في تلك الكتب، ولا يهولنّك الحكم ببطلان حديث مخرّج فيها . . . وهذا ممّا تنبّه إليه المحقّقون من أهل السُنّة وبحث عنه غير واحد من علماء الحديث والكُتّاب المعاصرين . . . ولنا في هذا الموضوع بحوثٌ مشبّعة(10).
(1) تهذيب التهذيب 12 / 392، الإصابة 8 / 265.
(2) الإصابة 8 / 266.
(3) فتح الباري 7 / 132 و 9 / 411، إرشاد الساري 8 / 245 و 11 / 517، عمدة القاري 16 / 249 و 20 / 212، المنهاج 16 / 3 . . . وغيرها.
(4) شرح المواهب اللدنيّة 3 / 205.
(5) فيض القدير 4 / 554.
(6) الإصابة 8 / 265.
(7) سنن البيهقي 7 / 102 كتاب النكاح باب الأنساب كلها منقطعة يوم القيامة إلاّ نسبه الرقم 13395 و 10 / 340 كتاب الشهادات باب من قال لا تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالديه الرقم 20862، مشكاة المصابيح 3 / 369 وقال: متفق عليه.
(8) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ـ 4 / 554.
(9) منهاج السُنّة 4 / 250 ـ 251.
(10) انظر كتاب: الصحيحان في الميزان، وكتاب استخراج المرام من استقصاء الإفحام.