المشكلة الثانية
وإذا كان المراد من «الخلفاء» غير الّذين يقول بهم أهل السُنّة، فالمشكلة الثانية منحلّة أيضاً . . ..
أمّا على قولهم، فقد رأيتهم يتجاوزون هذه المشكلة . . . إلاّ الشوكاني . . . فإنّه قال بعد عبارته المذكورة:
«وكانوا إذا أعوزهم الدليل من كتاب اللّه وسُنّة رسوله عملوا بما يظهر لهم من الرأي بعد الفحص والبحث والتشاور والتدبّر، وهذا الرأي عند عدم الدليل هو أيضاً من سُنّته، لِما دلّ عليه حديث معاذ لَمّا قال له رسول اللّه: بما تقضي؟ قال: بكتاب اللّه. قال: فإنْ لم تجد؟ قال: فبسُنّة رسوله. قال: فإنْ لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. قال: الحمد للّه الذي وفّق رسوله أو كما قال.
وهذا الحديث وإنْ تكلَّم فيه بعض أهل العلم بما هو معروف، فالحقّ أنّه من قسم الحسن لغيره وهو معمول به، وقد أوضحت هذا في بحث مستقلّ.
فإن قلت: إذا كان ما عملوا فيه بالرأى هو من سُنّته لم يبق لقوله: «سُنّة الخلفاء الراشدين» ثمرة.
قلت: ثمرته أنّ من الناس من لم يدرك زمنه وأدرك زمن الخلفاء الراشدين، أو أدرك زمنه وزمن الخلفاء، ولكنّه حدث أمر لم يحدث في زمنه، ففعله الخلفاء، فأشار بهذا الإرشاد إلى سُنّة الخلفاء إلى دفع ما عساه يتردّد إلى بعض النفوس من الشكّ ويختلج فيها من الظنون.
فأقلُّ فوائد الحديث أنّ ما يصدر منهم من الرأي وإنْ كان من سُنّته كما تقدّم، ولكنّه أوْلى من رأي غيرهم عند عدم الدليل.
وبالجملة، فكثيراً ما كان صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ينسب الفعل أو الترك إليه أو إلى أصحابه في حياته، مع أنّه لا فائدة لنسبته إلى غيره مع نسبته إليه، لأنّه محلّ القدوة ومكان الأُسوة.
فهذا ما ظهر لي في تفسير هذا الحديث، ولم أقف عند تحريره على ما يوافقه من كلام أهل العلم. فإنْ كان صواباً فمن اللّه، وإنْ كان خطأً فمنّي ومن الشيطان، وأستغفر اللّه العظيم».
أقول:
لقد تنبّه هذا الشيخ الجليل إلى أنّ القول بأنّ «طريقتهم نفس طريقته» يتنافى وظاهر الحديث الدالّ على «المغايرة»، ورفع اليد عن الظهور بلا دليل غير جائز، فنقل الكلام إلى حجّيّة آراء الخلفاء واجتهاداتهم، وقال بذلك استناداً إلى حديث معاذ، ثمّ ذكر في هذا المقام دلالة الحديث على المغايرة بصورة سؤال، وحاول الإجابة عنه بما هو في الحقيقة التزام بالإشكال!
وعلى الجملة، فإنّ الكلام في إثبات أنّ «طريقة الخلفاء نفس طريقة النبي» والإجابة عمّا إنْ قيل بأنّه: كيف تكون طريقتهم نفس طريقته وظاهر الحديث المغايرة؟! وأنّه إذا «كانت طريقتهم نفس طريقته» لم يبق لقوله: «وسُنّة الخلفاء» ثمرة؟!
أمّا أنّ اجتهادات الخلفاء وآرائهم حجّة أو لا؟ فذاك بحث آخر ليس هذا موضعه، وخلاصة الكلام فيه أنّه لا دليل عليه إلاّ حديث معاذ الذي أخرجه الترمذي وأبو داود وأحمد عن «الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة قال: حدّثنا ناس من أصحاب معاذ عن معاذ».
فمن الحارث؟ ومن أصحاب معاذ؟!
ولذا اعترف الشوكاني بهوانه، بل عدّه بعضهم في (الموضوعات) كما لا يخفى على من يراجع شروح السنن والكتب المطوّلات . . ..
والحاصل: إنّ المشكلة الثانية باقية على أساس أهل السُنّة، وأنّ هذا الذي ظهر للشوكاني في تفسير الحديث ـ ولم يقف على ما يوافقه من كلام أهل العلم ـ يجب عليه أنْ يستغفر منه!