الاستدلال بالحديث المقلوب بكلمات مضطربة
ولمّا كان حديث «الخوخة» يدلّ بزعمهم على فضل لأبي بكر، لا سيّما وأنّه مخرّج في الكتابين الصحيحين عند أكثرهم . . . فقد جعلوا هذه القضية خصيصةً لأبي بكر وفضيلة دالّةً على إمامته وخلافته:
قال النووي: «وفيه فضيلة وخصيصة ظاهرة لأبي بكر رضي اللّه عنه»(1).
وقال ابن حجر: «قال الخطّابي وابن بطّال وغيرهما: في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي بكر، وفيه إشارة قويّة إلى استحقاقه للخلافة، ولا سيّما وقد ثبت أنّ ذلك كان في آخر حياة النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمّهم إلاّ أبو بكر.
وقد ادّعى بعضهم: أنّ الباب كناية عن الخلافة، والأمر بالسدّ كناية عن طلبها، كأنّه قال: لا يطلبنّ أحد الخلافة إلاّ أبا بكر فإنّه لا حرج عليه في طلبها.
وإلى هذا جنح ابن حبّان، فقال بعد أن أخرج هذا الحديث: في هذا دليل على أنّه الخليفة بعد النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، لأنّه حسم بقوله: (سدّوا عنّي كلّ خوخة في المسجد) أطماع الناس كلّهم عن أن يكونوا خلفاء بعده.
وقوّى بعضهم ذلك: بأنّ منزل أبي بكر كان بالسنح من عوالي المدينة ـ كما سيأتي قريباً بعد باب ـ فلا يكون له خوخة إلى المسجد.
وهذا الاستناد ضعيف، لأنّه لا يلزم من كون منزله كان بالسنح، أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار، وقد كان له إذ ذاك زوجة أُخرى ـ وهي أسماء بنت عميس ـ بالاتّفاق، وأُمّ رومان على القول بأنّها كانت باقية يومئذ.
وقد تعقّب المحبّ الطبري كلام ابن حبّان فقال: وقد ذكر عمر بن شبّة في أخبار المدينة: أنّ دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد كانت ملاصقةً للمسجد، ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه فباعها . . .»(2).
وقال العيني ـ بعد الحديث في كتاب الصلاة ـ : «(ذكر ما يستفاد منه من الفوائد):
الأُولى: ما قاله الخطابي وهو: أنّ أمره صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم بسدّ الأبواب غير الباب الشارع إلى المسجد إلاّ باب أبي بكر، يدلّ على اختصاص شديد لأبي بكر وإكرام له، لأنّهما كانا لا يتفرقان.
الثانية: فيه دلالة على أنّه قد أفرده في ذلك بأمر لا يشارك فيه، فأوْلى ما يصرف إليه التأويل فيه أمر الخلافة، وقد أكثر الدلالة عليها بأمره إيّاه بالإمامة في الصلاة التي بني لها المسجد.
قال الخطابي: لا أعلم أنّ إثبات القياس أقوى من إجماع الصحابة على استخلاف أبي بكر مستدلّين في ذلك باستخلافه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم إيّاه في أعظم أُمور الدين وهو الصلاة، فقاسوا عليها سائر الأُمور، ولأنّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم كان يخرج من باب بيته وهو في المسجد للصلاة، فلمّا غلّق الأبواب إلاّ باب أبي بكر، دلّ على أنّه يخرج منه للصلاة، فكأنّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم أمر بذلك على أنّ من بعده يفعل ذلك هكذا»(3).
وفي باب المناقب، أورد كلام الخطّابي وابن بطّال وابن حبّان الذي ذكره ابن حجر وأضاف: «وعن أنس قال: جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم فدخل بستاناً وجاء آت فدقّ الباب. فقال: يا أنس، افتح له وبشّره بالجنّة وبشّره بالخلافة بعدي. قال: فقلت: يا رسول اللّه أُعلمه؟ قال: أعلمه; فإذا أبو بكر. فقلت: أبشر بالجنّة وبالخلافة من بعد النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: ثمّ جاء آت فقال: يا أنس، افتح له وبشّره بالجنّة وبالخلافة من بعد أبي بكر. قلت: أُعلمه؟ قال: نعم; قال: فخرجت فإذا عمر فبشّرته.
ثمّ جاء آت فقال: يا أنس، افتح له وبشّره بالجنّة وبشّره بالخلافة من بعد عمر وأنّه مقتول. قال: فخرجت فإذا عثمان. قال: فدخل إلى النبي صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم فقال: إنّي واللّه ما نسيت ولا تمنّيت ولا مسستُ ذكري بيد بايعتك! قال: هو ذاك.
رواه أبو يعلى الموصلي من حديث المختار بن فلفل عن أنس وقال: هذا حديث حسن»(4).
وفي باب هجرة النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم بشرحه: «فأمر الشارع بسدّها كلّها إلاّ خوخة أبي بكر، ليتميّز بذلك فضله. وفيه إيماء إلى الخلافة»(5).
والكرماني أورد كلمات القوم في دلالته على الإمامة مرتضياً إيّاها(6).
والقسطلاني قال بشرحه في الصلاة: «وفيه دلالة على الخصوصية لأبي بكر الصدّيق بالخلافة بعده عليه الصلاة والسلام والإمامة دون سائر الناس، فأبقى خوخته دون خوخة غيره، وهو يدلّ على أنّه يخرج منها إلى المسجد للصلاة. كذا قرّره ابن المنير»(7).
وفي المناقب: «قيل: وفيه تعريض بالخلافة، لأنّ ذلك إنْ أُريد به الحقيقة فذاك، لأنّ أصحاب المنازل الملاصقة للمسجد كان لهم الاستطراق منها إلى المسجد، فأمر بسدّها سوى خوخة أبي بكر، تنبيهاً للناس على الخلافة، لأنّه يخرج منها إلى المسجد للصلاة. وإنْ أُريد به المجاز فهو كناية عن الخلافة وسدّ أبواب المقالة دون التطرّق والتطلّع إليها.
قال التوربشتي: وأرى المجاز أقوى، إذ لم يصحّ عندنا أن أبا بكر كان له منزل بجنب المسجد، وإنّما كان منزله بالسنح من عوالي المدينة. انتهى.
وتعقّبه في الفتح: بأنّه استدلال ضعيف، لأنّه لا يلزم من كون منزله كان بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار . . .»(8).
وفي هجرة النبي: «فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم بسدّها كلّها إلاّ خوخة أبي بكر، تكريماً له وتنبيهاً على أنّه الخليفة بعده، أو المراد المجاز فهو كناية عن الخلافة وسدّ أبواب المقالة دون التطرّق، ورجّحه الطيّبي محتجّاً بأنّه لم يصحّ عنده أنّ أبا بكر كان له بيت بجنب المسجد، وإنّما كان منزله بالسنح من عوالي المدينة»(9).
هذه كلمات شرّاح الحديث.
وفي الكتب المؤلّفة في العقائد . . . تجد الاستدلال بحديث الخوخة في باب الفضائل المزعومة لأبي بكر، وفي أدلّة إمامته وخلافته بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم . . . ولا حاجة إلى ذكر نصوص عباراتهم، ولربّما أشرنا إلى بعضها في غضون البحث.
أقول:
لا يخفى الاضطراب والاختلاف بين القوم في كيفيّة الاستدلال، بل إنّ الباحث المحقّق يجد كلمات الواحد منهم في موضع تختلف عن كلماته في الموضع الآخر . . . ونحن نلخّص ما قالوا ونعلّق عليه باختصار حتى يتبيّن الحال:
أمّا النووي . . . فما قال إلاّ أنّ «فيه فضيلة وخصيصة ظاهرة لأبي بكر» فلم يتعرّض للإمامة والخلافة، ولم يدّع دلالة الحديث عليها لا بالصراحة ولا بالكناية . . ..
ونقول: أمّا «الفضيلة» فتتوقّف على ثبوت القضيّة، وأمّا كونها «خصيصة» فتتوقّف ـ بالإضافة إلى الثبوت ـ على عدم ورود مثل ذلك في حقّ غيره.
وأمّا الخطّابي وغيره . . . فزعموا «الخصيصة» و«الإشارة القويّة إلى استحقاقه للخلافة، ولا سيّما وقد ثبت أنّ ذلك كان في آخر حياة النبي، في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمّهم إلاّ أبو بكر» بل جعل بعضهم «الباب» كنايةً عن «الخلافة» والأمر بالسدّ كنايةً عن طلبها . . ..
ونقول: أمّا «الخصيصة» فقد عرفت ما في دعواها. وأمّا «الإشارة القويّة . . .» فلا دليل عليها إلاّ ما زعمه من القرينة الحالية . . . لكنّ القول بأنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أمر أبا بكر بالصلاة كذب(10).
وهل هذه «الإشارة القويّة» مبنيّة على إرادة الحقيقة أو المجاز؟ قولان . . ..
والقسطلاني . . . بعد أن زعم الدلالة في موضع، نسبها في موضع آخر إلى «قيل» وذكر القولين من الحمل على الحقيقة أو المجاز، واكتفى بنقل الخلاف فقال: «قيل: وفيه تعريض بالخلافة له، لأنّ ذلك إنْ أُريد به الحقيقة فذاك . . . وإنْ أُريد به المجاز فهو كناية عن الخلافة . . .» وقد عرفتَ أنّ الأصل في الكلام حمله على الحقيقة، لكنّ الدلالة على الخلافة متوقّفة على ثبوت أصل القضيّة، ثمّ ثبوت عدم ورود مثلها في حقّ غيره!!
فالعجب من مثل ابن حجر العسقلاني . . . كيف يسكت على دعوى دلالة الحديث على الإمامة ـ إنْ لم نقل بكونه من القائلين بذلك ـ بعد ردّه على دعوى المجاز كما عرفت، وإثباته ورود مثل الحديث في حقّ عليٍّ عليه السلام كما ستعرف؟!
(1) المنهاج شرح صحيح مسلم 15 / 124.
(2) فتح الباري 7 / 17.
(3) عمدة القاري 4 / 245.
(4) عمدة القاري 16 / 176 ـ 177.
(5) عمدة القاري 17 / 39.
(6) الكواكب الدراري 4 / 129.
(7) إرشاد الساري 2 / 128 ـ 129.
(8) إرشاد الساري 8 / 146 ـ 147.
(9) إرشاد الساري 8 / 373.
(10) انظر: الرسالة الرابعة من هذه الرسائل.