2 ـ الصحابة عِلماً
وأمّا جهل الأصحاب بالقرآن الكريم والأحكام الشرعيّة… فالشواهد عليه كثيرة جدّاً، بل يمتنع أن تحصي له عدداً وتبلغ به حدّاً… ونحن نكتفي هنا بكلام لإبن حزم… وللتفصيل فيه مجال آخر.
قال الحافظ ابن حزم: «ووجدنا الصّاحب من الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ يبلغه الحديث فيتناول فيه تأويلاً يخرجه به عن ظاهره، ووجدناهم ـ رضي اللّه عنهم ـ يقرّون ويعترفون بأنّهم لم يبلغهم كثير من السنن، وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة: إنّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإنّ إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم، وهكذا قال البراء… قال: أما كلّ ما نحدّثكموه سمعناه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وَلكن حدّثنا أصحابنا، وكانت تشغلنا رعية الإبل.
وهذا أبو بكر ـ رضي اللّه عنه ـ لم يعرف فرض ميراث الجدّة وعرفه محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة، وقد سأل أبو بكر ـ رضي اللّه عنه ـ عائشة في كم كفّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟
وهذا عمر ـ رضي اللّه عنه ـ يقول في حديث الإستئذان: أُخفي عليّ هذا من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. ألهاني الصفق في الأسواق!
وقد جهل أيضاً أمر إملاص المرأة وعرفه غيره، وغضب على عيينة بن حصن، حتى ذكّره الحرّ بن قيس بن حصن بقوله تعالى: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلينَ).
وخفي عليه أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب إلى آخر خلافته، وخفي على أبي بكر ـ رضي اللّه عنه ـ قبله أيضاً طول مدّة خلافته، فلمّا بلغ عمر أمَر بإجلائهم فلم يترك بها منهم أحداً.
وخفي على عمر أيضاً أمره عليه السلام بترك الإقدام على الوباء، وعرف ذلك عبدالرحمن بن عوف.
وسأل عمر أبا واقد الليثي عمّا كان يقرأ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في صلاتي الفطر والأضحى. وهذا، وقد صلاّهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أعواماً كثيرة.
ولم يدر ما يصنع بالمجوس، حتى ذكّره عبدالرحمن بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيهم.
ونسي قبوله عليه السلام الجزية من مجوس البحرين، وهو أمر مشهور، ولعلّه ـ رضي اللّه عنه ـ قد أخذ من ذلك المال حظّاً كما أخذ غيره منه.
ونسي أمره عليه السلام بأن يتيمّم الجنب فقال: لا يتيمّم أبداً ولا يصلّي ما لم يجد الماء. وذكّره بذلك عمّار.
وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتجّ عليه أُبَيّ بن كعب بأنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يفعل ذلك، فأمسك.
وكان يردّ النساء اللّواتي حضن ونفرن قبل أن يودّعن البيت، حتى أُخبر بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أذن في ذلك. فأمسك عن ردّهن.
وكان يفاضل بين ديات الأصابع حتى بلغه عن النبي ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ أمره بالمساواة بينها، فترك قوله وأخذ بالمساواة.
وكان يرى الدية للعصبة فقط حتى أخبره الضحّاك بن سفيان بأنّ النبي ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ ورّث المرأة من الدية، فانصرف عمر إلى ذلك.
ونهى عن المغالاة في مهور النساء، استدلالاً بمهور النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، حتى ذكّرته امرأة بقول اللّه عزّ وجلّ: (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطارًا) فرجع عن نهيه.
وأراد رجم مجنونة حتى أُعلم بقول رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ : رفع القلم عن ثلاثة، فأمر ألاّ ترجم.
وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكّره عثمان بأنّ الجاهل لا حدّ عليه، فأمسك عن رجمها.
وأنكر على حسّان الإنشاد في المسجد، فأخبره هو وأبو هريرة أنّه قد أنشد فيه بحضرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فسكت عمر…
وقد نهى عمر أن يسمّى بأسماء الأنبياء، وهو يرى محمد بن مسلمة يغدو عليه ويروح، وهو أحد الصحابة الجلّة منهم، ويرى أبا أيّوب الأنصاري وأبا موسى الأشعري، وهما لا يعرفان إلاّ بكناهما من الصحابة، ويرى محمد بن أبي بكر الصدّيق وقد ولد بحضرة رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ وفي حجّة الوداع، واستفتته أُمّه إذ ولدته ماذا تصنع في إحرامها وهي نفساء، وقد علم يقيناً أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم علم بأسماء من ذكرنا وبكناهم بلا شكّ وأقرّهم عليها ودعاهم بها ولم يغيّر شيئاً من ذلك عليه السلام، فلمّا أخبره طلحة وصهيب عن النبي ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ بإباحة ذلك أمسك عن النهي عنه.
وهمّ بترك الرّمل في الحجّ، ثم ذُكّر أنّ النبي ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ فعله فقال: لا يجب لنا أن نتركه.
وهذا عثمان ـ رضي اللّه عنه ـ ، فقد رووا عنه أنّه بعث إلى الفريعة أُخت أبي سعيد الخدري يسألها عمّا أفتاها به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في أمر عدّتها، وأنّه أخذ بذلك.
وأمر برجم امرأة قد ولدت لستّه أشهر، فذكّره علي بالقرآن وأنّ الحمل قد يكون ستّة أشهر، فرجع عن الأمر برجمها… .
وهذه عائشة وأبو هريرة ـ رضي اللّه عنهما ـ خفي عليهما المسح على الخفّين وعلى ابن عمر معهما، وعلمه جرير ولم يُسلم إلاّ قبل موت النبي ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ بأشهر، وأقرّت عائشة أنّها لا علم لها به، وأمرت بسؤال من يرجى عنده علم ذلك وهو علي رضي اللّه عنه.
وهذه حفصة أمّ المؤمنين سئلت عن الوطء يجنب فيه الواطئ، أفيه غسل أم لا؟ فقالت: لا علم لي؟!
وهذا ابن عمر توقّع أن يكون حدث نهي من النبي ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ عن كراء الأرض بعد أزيد من أربعين سنة من موت النبي ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ فأمسك عنها وأقرّ أنّهم كانوا يكرونها على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يقل: إنّه لا يمكن أن يخفى على هؤلاء ما يعرف رافع وجابر وأبو هريرة، وهؤلاء إخواننا يقولون فيما اشتهوا: لو كان هذا حقّاً ما خفي على عمر!
وقد خفي على زيد بن ثابت وابن عمر وجمهور أهل المدينة إباحة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم للحائض أن تنفر، حتى أعلمَهم بذلك ابن عبّاس وأُمّ سليم، فرجعوا عن قولهم.
وخفي على ابن عمر الإقامة حتى يدفن الميّت، حتى أخبره بذلك أبو هريرة وعائشة فقال: لقد فرّطنا في فراريط كثيرة.
وقيل لابن عمر في اختياره متعة الحجّ على الإفراد: إنّك تخالف أباك فقال: أكتاب اللّه أحقّ أن يتّبع أم عمر؟! روينا ذلك عنه من طريق عبدالرزّاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر.
وخفي على عبداللّه بن عمر الوضوء من مسّ الذكر، حتى أمرته بذلك عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بسرة بنت صفوان، فأخذ بذلك… .
وقد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذِكره حتى يفتي بخلافه وقد يعرض هذا في آي القرآن، وقد أمر عمر على المنبر بألاّ يزاد في مهور النساء على عدد ذكره، فذكّرته امرأة بقوله تعالى: (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطارًا) فترك قوله وقال: كلّ أحد أفقه منك يا عمر. وقال: امرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ!
وأمر برجم امرأة ولدت لستّة أشهر، فذكّره علي بقول اللّه تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ) مع قوله تعالى: (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)فرجع عن الأمر برجمها.
وهَمّ أن يسطو بعيينة بن حصن إذ قال له: يا عمر ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل، فذكّره الحرّ بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول اللّه تعالى: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلينَ) وقال له: يا أمير المؤمنين هذا من الجاهلين، فأمسك عمر.
وقال يوم مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: واللّه ما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولا يموت حتى يكون آخرنا، أو كلاماً هذا معناه، حتى قرئت عليه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)، فسقط السيف من يده وخرّ إلى الأرض وقال: كأنّي ـ واللّه ـ لم أكن قرأتها قطّ!
فإذا أمكن هذا في القرآن فهو في الحديث أمكن، وقد ينساه ألبتّة، وقد لا ينساه بل يذكره ولكن يتأوّل فيه تأويلاً فيظنّ فيه خصوصاً أو نسخاً أو معنىً مّا، وكلّ هذا لا يجوز اتّباعه إلاّ بنصّ أو إجماع، لأنّه رأي من رأى ذلك ولا يحلّ تقليد أحد ولا قبول رأيه…»(1).
هذا، ولقد ذكر هذه القضايا وغيرها ابن القيّم في (أعلام الموقّعين) وقال: «وهذا باب واسع لو تتبّعناه لجاء سفراً كبيراً».
(1) الإحكام في أُصول الأحكام 2 : 12.