هذا النسخ مستحيل أو ممنوع شرعاً
الأول: إنّه لا أصل للقسمين المذكورين من النسخ… وتوضيح ذلك: أنّهم قالوا: بأن النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب، أحدها: ما نسخ لفظه وبقي حكمه. والثاني: ما نسخ لفظه وحكمه معاً. والثالث: ما نسخ حكمه دون لفظه.
وقد مثّلوا للضرب الأول بآية الرجم، ففي الصحيح عن عمر: «إنّ اللّه بعث محمداً بالحقّ وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل عليه آية الرجم فقرأتها وعقلتها ووعيتها». قال ابن حزم: «فأمّا قول من لَمْ يَرَ الرجم أصلاً فقول مرغوب عنه، لأنّه خلاف الثابت عن رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ ، وقد كان نزل به قرآن، ولكنّه نسخ لفظه وبقي حكمه»(1).
وعلى ذلك حمل أبو شامة(2) وكذا الطحاوي، قال: «لكنّ عمر لم يقف على النسخ فقال ما قال ووقف على ذلك غيره من الأصحاب، فكان من علم شيئاً أولى ممّن لم يعلمه، وكان علم أبي بكر وعثمان وعلي بخروج آية الرجم من القرآن ونسخها أولى من ذهاب ذلك على عمر»(3).
قال السيوطي: «وأمثلة هذا الضرب كثيرة» ثمّ حمل عليه قول ابن عمر: «لا يقولنّ…» وما روي عن عائشة في سورة الأحزاب، وما روي عن أُبَيّ وغيره من سورتي الخلع والحفد(4).
وفي (المحلّى) بعد أن روى قول أُبَيّ في عدد آيات سورة الأحزاب: «هذا إسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه» قال: «ولو لم ينسخ لفظها لأقرأها أُبَيّ بن كعب زرّاً بلا شكّ، ولكنّه أخبره بأنّها كانت تعدل سورة البقرة ولم يقل له: إنّها تعدل الآن، فصحّ نسخ لفظها»(5).
ومثّلوا للثاني بآية الرّضاع عن عائشة: «كان فيما أُنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ وهنّ ممّا يقرأ من القرآن». رواه الشيخان. وقد تكلّموا في قولها: «وهنّ ممّا يقرأ»، فإنّ ظاهره بقاء التلاوة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وليس كذلك… وقد تقدّم بعض الكلام فيه… قال مكّي: «هذا المثال فيه المنسوخ غير متلوّ والناسخ أيضاً غير متلوّ، ولا أعلم له نظيراً»(6).
وقال الآلوسي: «أُسقط زمن الصدّيق ما لم يتواتر وما نسخت تلاوته، وكان يقرؤه من لم يبلغه النسخ وما لم يكن في العرضة الأخيرة، ولم يأل جهداً في تحقيق ذلك، إلاّ أنّه لم ينتشر نوره في الآفاق إلاّ زمن ذي النورين. فلهذا نسب إليه» ثمّ ذكر طائفة من الآثار الدالّة على نقصان القرآن عن أحمد والحاكم وغيرهما فقال: «ومثله كثير، وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد عن ابن عمر، قال: لا يقولنّ… والروايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى، إلاّ أنّها محمولة على ما ذكرناه»(7).
وفي آية الرّضاع قال: «والجواب: أنّ جميع ذلك منسوخ كما صرّح بذلك ابن عبّاس فيما مرّ، ويدلّ على نسخ ما في خبر عائشة أنّه لو لم يكن منسوخاً لزم ضياع بعض القرآن الذي لم ينسخ، وإنّ اللّه تعالى قد تكفّل بحفظه، وما في الرواية لا ينافي النسخ…»(8).
ووافق الزرقاني على حمل هذه الأحاديث على النسخ لورود ذلك في الأحاديث(9).
لكنّ جماعة من علمائهم المتقدّمين والمتأخرين، ينكرون القسمين المذكورين من النسخ، ففي الإتقان بعد أن ذكر الضرب الثالث ـ ما نسخ تلاوته دون حكمه ـ وأمثلته: «تنبيه: حكى القاضي أبو بكر في الإنتصار عن قوم إنكار هذا الضرب، لأنّ الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها.
وقال أبو بكر الرازي: نسخ الرسم والتلاوة إنّما يكون بأن نيسيهم اللّه إيّاه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف، فيندرس على الأيّام، كسائر كتب اللّه القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله: (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ اْلأُولى * صُحُفِ إِبْراهيمَ وَمُوسى) ولا يعرف اليوم منها شيء.
ثمّ لا يخلو ذلك من أن يكون في زمان النبي ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ حتى إذا توفي لا يكون متلوّاً في القرآن أو يموت وهو متلوّ موجود بالرسم، ثم ينسيه اللّه الناس ويرفعه من أذهانهم، وغير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبي ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ»(10) ثمّ أورد كلام الزركشي الآتي ذكره.
وقال الشوكاني: «منع قوم من نسخ اللفظ مع بقاء حكمه، وبه جزم شمس الأئمة السرخسي، لأنّ الحكم لا يثبت بدون دليله»(11).
وحكى الزرقاني عن جماعة في منسوخ التلاوة دون الحكم: إنّه مستحيل عقلاً، وعن آخرين منع وقوعه شرعاً(12).
ولم يصحّح الرافعي القول بنسخ التلاوة وأبطل كلّ ما حمل على ذلك وقال:
«ولا يتوهّمنّ أحد أنّ نسبة بعض القول إلى الصحابة نصّ في أنّ ذلك القول صحيح ألبتّة، فإنّ الصحابة غير معصومين، وقد جاءت روايات صحيحة بها أخطأ فيه بعضهم من فهم أشياء من القرآن على عهد رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ وذلك العهد هو ما هو. ثمّ بما وَهَلَ عنه بعضهم ممّا تحدّثوا من أحاديثه الشريفة، فأخطأوا في فهم ما سمعوا، ونقلنا في باب الرواية من تاريخ آداب العرب أنّ بعضهم كان يردّ على بعض فيما يشبه لهم أنّه الصواب خوف أن يكونوا قد وهموا… على أنّ تلك الروايات القليلة ]فيما زعموه كان قرآناً وبطلت تلاوته[(13)إن صحّت أسانيدها أو لم تصحّ، فهي على ضعفها وقلّتها ممّا لا حَفَل به ما دام إلى جانبها إجماع الأُمّة وتظاهر الروايات الصحيحة وتواتر النقل والأداء على التوثيق»(14).
وقال صبحي الصالح: «والولوع باكتشاف النسخ في آيات الكتاب أوقع القوم في أخطأ منهجية كان خليقاً بهم أن يتجنّبوها، لئلاّ يحملها الجاهلون حملاً على كتاب اللّه، لم يكن يخفى على أحد منهم أنّ القرآنية لا تثبت إلاّ بالتواتر، وأنّ أخبار الآحاد ظنّية لا قطعية، وجعلوا النسخ في القرآن ـ مع ذلك ـ على ثلاثة أضرب: نسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دون الحكم، ونسخ الحكم والتلاوة جميعاً.
وليكثروا إن شاؤوا من شواهد الضرب الأول، فإنّهم فيه لا يمسّون النصّ القرآني من قريب ولا بعيد، إذ الآية لم تنسخ تلاوتها بل رفع حكمها لأسرار تربوية وتشريعية يعلمها اللّه. أمّا الجرأة العجيبة ففي الضربين الثاني والثالث، اللذين نسخت فيهما بزعمهم تلاوة آيات معيّنة، إمّا مع نسخ أحكامها وإمّا دون نسخ أحكامها.
والناظر في صنيعهم هذا سرعان ما يكتشف فيه خطأ مركّباً، فتقسيم المسائل إلى أضرب إنّما يصلح إذا كان لكلّ ضرب شواهد كثيرة أو كافية على الأقلّ، ليتيسّر استنباط قاعدة منها، وما لعشّاق النسخ إلاّ شاهد أو اثنان على كلٍّ من هذين الضربين ]أمّا الضرب الذي نسخت تلاوته دون حكمه، فشاهده المشهور ما قيل من أنّه كان في سورة النور: الشيخ والشيخة… انظر: تفسير ابن كثير 3 : 261. وممّا يدلّ على اضطراب الرواية: أنّ في صحيح ابن حبّان ما يفيد أنّ هذه الآية التي زعموا نسخ تلاوتها كانت في سورة الأحزاب لا في سورة النور. وأمّا الضرب الذي نسخت تلاوته وحكمه معاً، فشاهده المشهور في كتب الناسخ والمنسوخ ما ورد عن عائشة أنّها قالت: كان فيما أُنزل من القرآن…[(15) وجميع ما ذكروه منها أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها.
وبهذا الرأي السديد أخذ ابن ظفر في كتابه الينبوع، إذ انكر عدّ هذا ممّا نسخت تلاوته وقال: لأنّ خبر الواحد لا يثبت القرآن»(16).
وقال مصطفى زيد وهو ينكر نسخ التلاوة دون الحكم: «وأمّا الآثار التي يحتجّون له بها… فمعظمها مرويّ عن عمر وعائشة، ونحن نستبعد صدور مثل هذه الآثار عنهما، بالرغم من ورودها في الكتب الصحاح… وفي بعض هذه الروايات جاءت بعض العبارات التي لا تتّفق ومكانة عمر ولا عائشة، ممّا يجعلنا نطمئنّ إلى اختلاقها ودسّها على المسلمين»(17).
وقال الخضري في تاريخ التشريع الإسلامي: «لا يجوز أن يرد النسخ على التلاوة دون الحكم، وقد منعه بعض المعتزلة وأجازه الجمهور، محتجّين بأخبار آحاد لا يمكن أن تقوم برهاناً على حصوله. وأنا لا أفهم معنىً لآية أنزلها اللّه تعالى لتفيد حكماً ثم يرفعها مع بقاء حكمها».
هذا، وستأتي كلمات بعض أعلامهم في خصوص بعض الآثار.
وكذا أنكر المحقّقون من الإمامية القسمين المذكورين من النسخ… .
فقد قال السيد المرتضى: «ومثال نسخ التلاوة دون الحكم، غير مقطوع به لأنّه من جهة خبر الآحاد، وهو ما روي أنّ من جملة القرآن: والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتّة، فنسخت تلاوة ذلك. ومثال نسخ الحكم والتلاوة معاً موجود أيضاً في أخبار الآحاد، وهو ما روي عن عائشة…»(18).
وقد تبعه على ذلك غيره(19).
(1) المحلّى، كتاب الحدود، المسألة 2208، 12 : 175.
(2) المرشد الوجيز، الباب الأول في البيان عن كيفية نزول القرآن: 42 : 43.
(3) مشكل الآثار، بيان مشكل ما روي أن الرجم مما أنزله اللّه 3 : 5 ـ 6.
(4) الإتقان في علوم القرآن، النوع العشرون 3 : 81 ـ 82.
(5) المحلّى، كتاب الحدود، المسألة 2208، 12 : 176.
(6) الإتقان في علوم القرآن، النوع العشرون 3 : 70 ـ 71.
(7) روح المعاني 1 : 24.
(8) المصدر 1 : 228.
(9) مناهل العرفان، المبحث 14، في النسخ: 488.
(10) الإتقان في علوم القرآن، النوع السابع والأربعون 3 : 85، وانظر البرهان، النوع الرابع والثلاثون 2 : 39 ـ 40.
(11) إرشاد الفحول الباب التاسع في النسخ، المسألة الثامنة: 189 ـ 190، وتقدّم نصّ عبارة السرخسي عن أُصوله 2 : 78.
(12) مناهل العرفان، المبحث 14 في النسخ: 488.
(13) ما بين القوسين ذكره في الهامش. قلت: ما ذكره في الجواب عن هذه الأحاديث هو الحق لكنّ وصفها بالقلّة في غير محلّه فهي كثيرة بل أكثر من أن تحصى كما تقدّم في عبارة الآلوسي.
(14) إعجاز القرآن، تاريخ القرآن، جمعه وتدوينه: 44.
(15) مباحث في علوم القرآن، الباب الثالث، الفصل السادس: 265 ـ 266.
(16) ما بين القوسين مذكور في الهامش.
(17) النسخ في القرآن 1 : 283.
(18) الذريعة إلى أُصول الشريعة، فصل في جواز نسخ الحكم دون التلاوة، 1 : 428.
(19) البيان في تفسير القرآن: 304.